11 سبتمبر 2008

بعض دلالات التعويض عن الاستعمار الايطالي للجماهيرية

لقد بدأ العهد الاستعماري بالتزامن مع حركة الكشوف الجغرافية الهائلة، في القرن الخامس عشر الإفرنجي وما تلاه، التي وسمت عالم ما بعد تأسيس الدولة الوطنية في أوروبا، وقد حمل شعارا مخادعا ' رسالة الرجل الأبيض في نشر الحضارة '! ولا يخفي ما في ذلك الشعار من افتئات على الحقيقة وتنكّب لها، حيث يتم تصوير ثقافات وأفكار وقيم باقي شعوب الأرض وكأنها 'منتجات بربرية خالصة' بحاجة إلى التمدين والتحضر!

والحقيقة هي أن ما حدث كان 'ظاهرة الاستعمار' المباشر دون قناع، حيث زحفت جيوش القوى والامبراطوريات في غفلة من الزمن إلى أوطان أخرى لشعوب آمنة مستقرة، فعمدت إلى استعمارها وإلحاقها بالدول الاستعمارية عنوة، وخلافا للشعار الذي تدثرت به الظاهرة الاستعمارية، فإنها بدأت في تفكيك الأطر والبنى الاجتماعية للشعوب الأخرى، وهكذا باتت القوى الاستعمارية تتوزع الأقوام وأراضيها دون أدنى احترام لأبجديات الحقائق الاجتماعية والثقافية، فتم تقسيم المجموعات بين الدول الاستعمارية، ووضعت حدودا مصطنعة بينها، وتم نهج سياسة 'فرق تسد' كوسيلة للتمكين للمنطق الاستعماري وشل حركة رافضيه.

وكانت ليبيا ولاية عثمانية، كغيرها من الوطن العربي، حين دهمتها الجيوش الايطالية في 3 تشرين الاول (اكتوبر) 1911، وذلك بعد أن أجهز الفساد الداخلي والهزائم الخارجية الامبراطورية العثمانية التي باتت ' رجلا مريضا ' في واقع تسيطر عليه دول طامحة ومتلهفة للنفوذ والسيطرة وتقسيم غنيمة الرجل المريض بين تلك الدول الأوروبية، فتم التنازل عن ليبيا لإيطاليا الفاشستية التي روجت بسرعة أن ' ليبيا هي الشاطئ الرابع لروما..'!

وهكذا دخلت ليبيا في كنف الاستعمار الطلياني الغاشم وأمام عجز العثمانيين عن الدفاع عن حياض الإسلام في الربوع الليبية كما في باقي الثغور الأخرى، لم يكن من سبيل أمام الشعب العربي الليبي إلا حمل السلاح ومقاومة الغازي الجديد، وهكذا بدأت المواجهات والمعارك من أول يوم للاحتلال، ويشهد تاريخ الجهاد الليبي على صفحات مضيئة من التضحية والبطولة والفداء دفاعا عن العرض والأرض، وأنجبت المقاومة الليبية رجالا عظماء خلدهم التاريخ بأحرف من نور، من أمثال أحمد الشريف وعمر المختار ' أسد الصحراء' و' شيخ المجاهدين'، الذي كان اعتقاله وشنقه في يوم 19-12-1931 ايذانا باستتباب الوضع أمام الايطاليين !..

وكان الاستعمار الايطالي لليبيا بشعا، وكل استعمار بشع بالضرورة، حيث إنه قام من أجل تثبيت وضعه بقتل وتعذيب وسحل وتشريد المواطنين الرافضين للوجود الايطالي في بلادهم، كما تم نفي مئات الآلاف من الليبيين إلى الجزر الايطالية البعيدة في عرض البحر الأبيض المتوسط من أجل أن يموتوا هناك في أغلالهم من الحزن والألم ! وهكذا عاث الايطاليون نهبا للآثار والمخطوطات والتحف النادرة وفسادا وظلما في الشعب الليبي كردة فعل على قوته وجسارته في المقاومة ورد العدوان.وبعد الحرب العالمية الثانية، وبعد هزيمة الامبراطوريات الاستعمارية التقليدية ومنها ايطاليا الفاشية بقيادة موسوليني، فإن موجة تقرير المصير أمام الشعوب التي كانت مستعمرة باتت هي السائدة لصعوبة استمرار القوى المهزومة في الاحتفاظ بمستعمراتها أمام تنامي الوعي بسبل التصعيد والثأر من الاستعمار، ونظرًا لنفوذ الأمم المتحدة ومطالبتها بإنهاء الاستعمار التقليدي وترك الشعوب لسوْسِ أمرها بنفسها، وهكذا استقلت الكثير من الدول ومن بينها ليبيا بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 289 بتاريخ / 21-11-1949 . غير أن ' المملكة الليبية المتحدة ' التي تستند إلى حكم الأسرة السنوسية لم تكن مهتمة سوى بتوطيد أركان نظام من الناحية الشكلية ملكي دستوري ومعتمد بالمطلق في استمراريته على القوات والقواعد العسكرية الأجنبية البريطانية والأمريكية، وبالتالي فإن نظاما بهذه الملامح ليس في وارد المطالبة بالاعتذار والتعويض عن الاستعمار الايطالي، بدليل الصفقة الباهتة والخاسرة أدبيا وأخلاقيا للجانب الليبي بقيمة مليون دينار فقط ! مقابل نسيان ملف الاستعمار الايطالي لليبيا، مع أن تلك الفترة ( الخمسينيات) كانت أقرب تاريخيًا، وبالتالي كان يمكن البت في موضوع المنفيين الليبيين وغيره من موضوعات الاستعمار الايطالي، غير أن أيا من ذلك لم يحدث، وظل الموضوع مصنفا ضمن خانة التجاهل والنسيان !

حتى جاءت ثورة الفاتح 1969، والتي سعت منذ الوهلة الأولى إلى إعادة طرح موضوع تاريخ جهاد الليبيين على دائرة الأحداث مجددا، وهكذا تم بناء ذاكرة وطنية للجهاد والمجاهدين، وتم إحصاء وتوثيق بيانات معارك الجهاد والمجاهدين، وتمت صياغة قاعدة بيانات متكاملة عن الفترة الاستعمارية الايطالية لليبيا 1911 _ 1951، وأعيد الاعتبار الوطني للمقاومين الليبيين وتم تكريم ذكراهم والوفاء لهم، ووضعت ايطاليا أمام اختبار جدي، وهو لا وسيلة لتطبيع العلاقات وتبادل المنافع مع ليبيا إلا بالاعتذار المعنوي العلني المجلجل والتعويض المادي المناسب وتطهير الأراضي الليبية من الالغام المرزوعة وإرجاع المسروقات من آثار ومخطوطات ..الخ .. ودون ذلك فليس هناك إمكانية لصفحة جديدة من العلاقات بين ايطاليا وليبيا، لأن الموضوع ثأري، وبالتالي لا بد من حله تاريخيا وإنسانيا، أو يتم ترحيله إلى المستقبل للأجيال اللاحقة لتقول كلمتها فيه.

وبعد مماطلات مختلفة يبدو أن جيلا من السياسيين الايطاليين من مختلف التوجهات السياسية ( من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) أدركوا الحقيقة وتيقنوا أن المصالح القومية الايطالية تقتضي إبرام معاهدة صداقة تستجيب للمطالب الليبية وتحقق في نفس الوقت المنافع الاقتصادية من السوق الليبي الواعد والقريب على الحافة الجنوبية للمتوسط. وتقول المعطيات الاقتصادية إن التجارة الخارجية الليبية ترتبط بايطاليا في صادراتها بنسبة 65 %' وواردتها بنسبة '%58، وهذا يبين عمق التعاون الاقتصادي بين البلدين، ولذلك فإن التفريط في هذا كله إرضاء للغرور والاستعلاء الوهمي يعتبر خسارة كبرى للدولة الايطالية وهي أحد الثماني الكبار اقتصاديا G8 الذين ينافحون في سبيل تعزيز موقعهم الاقتصادي العالمي أكثر فأكثر، وبالتالي فالأجدى والأنفع هو توقيع معاهدة صداقة وتعاون مع ليبيا، بدلا من المكابرة وتضييع فرصة تعظيم المنافع الاقتصادية في الشراكة مع الجماهيرية وإتاحة الفرصة لدول منافسة اقتصاديا لإيطاليا للاستفادة من هذه المكاسب الجدية .وخلال الفترة 1998 -2008، فإن ايطاليا باتت مقتنعة، من جميع نخبها السياسية سواء الحاكمة أو الجاهزة للحكم بعد ذلك في ظروف أخرى، بجدوى الإسراع في تنفيذ بنود المعاهدة، وقد كان اختيارا ذكيا من السياسي المخضرم برلسكوني رئيس الوزراء الايطالي لمدينة بنغازي من قصر سكنه أسلافه الاستعماريون وفي ذكرى ثورة الفاتح ليلقي خطاب الاعتذار التاريخي عن جريمة الاستعمار والتكفير عنها وطلب الصفح من نجل شيخ المجاهدين محمد عمر المختار، وإبداء الرغبة الصادقة في التعاون والشراكة مع الجماهيرية الليبية .

وبتفحص بنود المعاهدة فإنها تضمنت جوانب معنوية في إدانة الاستعمار الايطالي وما خلفه من مظالم ومآس للشعب الليبي والتزام ايطالي بعدم الاعتداء أو استخدام الأراضي الايطالية بتاتا للعدوان على ليبيا خلافا لما حصل في سنة 1986 حين استخدمت القوات الأمريكية جزيرة لامبيدوزا لإرسال الطائرات التي هاجمت طرابلس وبنغازي، وجوانب مادية تتمثل في ربع مليون دولار أمريكي سنويا طيلة عقدين من الزمن، كنوع من التذكير الهادئ للايطاليين وإشعارهم بالندم الدائم على سلوكهم الاستعماري المشين . ودفع مرتبات تقاعدية مجزية لورثة المواطنين الليبيين الذين استخدمهم الجيش الايطالي كمجندين غصبا عن إرادتهم في حروبه الاستعمارية في القرن الإفريقي .علاوة على تخليص الأراضي الليبية من الألغام ومخلفاتها ومعالجة المتضررين منها في المشافي الايطالية، وتبادل علمي وثقافي يسهم في نقل التقنية العالية و تكوين ثروة بشرية عبر منح دراسية سنوية لمئات الطلاب الليبيين المتفوقين في مجالات الهندسة والعلوم ...الخ.

إن هذه المعاهدة تشكل سابقة في القانون الدولي الإنساني بشكل عام لتجريم الاستعمار كظاهرة واعتباره مشروعا فاشلا وظلما يجب القصاص من مرتكبيه وجبر الضرر عن ضحيته طال الزمن أم قصر، كما أنها أول مرة في التاريخ الحديث تعتذر دولة استعمارية لدولة أخرى عانت من تلك المأساة الفظيعة، ليس ذلك فقط، بل إنها أول مرة أيضا يتم فيها تقدير الأضرار المادية والمعنوية للاستعمار والتعويض عن ذلك كله .. وهذا يؤسس لقاعدة قانونية إنسانية جميلة لا بد أن شعوبا ودولا عديدة في مشارق الأرض ومغاربها تهفو إلى الاستفادة منها والتعويض بها عن الجريمة التي نهبت فيها مواردها وتعطلت فيها مسيرة تطورها وتقدمها قرونا إلى الوراء وتم الاعتداء المعنوي على تراثها وذاكرتها الثقافية، وتنتظر القصاص العادل من أولئك الاستعماريين ولو أن ذلك تأخر كثيرا، ولكن الأمل في تطبيقه كفيل بإعادة الاعتبار للذات المشروخة جراء تداعيات الفعل الاستعماري.

فمتى سنرى دولا أخرى كثيرة تجرؤ على المطالبة بحقوقها التاريخية الثابتة في التعويض عما لحقها جراء أكبر جريمة في التاريخ ؟؟وهل تدخل دول عربية عانت أزيد من قرن من الاستعمار في قائمة المطالبين بالتعويض ؟؟ أم ستسبقها، ربما، دول في إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية؟

نشر في يومية القدس العربي اللندنية بتاريخ 11-9-2008 

https://www.alquds.co.uk/%d8%a8%d8%b9%d8%b6-%d8a%d9%84%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d9%88%d9%8a%d8%b6-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b9%d9%85%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%8a%d8%b7/

0 التعليقات:

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya