تشهد أكاديمية الدراسات العليا - في طرابلس ليبيا - من حين لآخر عدة نشاطات علمية وثقافية وفكرية مميزة يحضرها متخصصون وتتابعها وجوه ثقافية وفكرية وسياسية متنوعة في مقدمتها بحاث وأساتذة جامعات و صحفيين و سفراء. وكانت أحد العناوين البارزة لتلك النشاطات من قبيل " العولمة" و " العرب" و " الأفرو آسيوية".
دولة العولمة
وفي سياق الحديث عن موضوع الساعة ألقي الباحث الفرنسي "جان فرانسوابايار" مدير المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا محاضرة قيمة أشار في مستهلها إلى أن مناقشة ماهية العولمة تتنزل في عمق التساؤلات الملحة للوضع الدولي الراهن، ومن خلاله تبدو العولمة على أنها جملة التحولات التكنولوجية والمالية والسياسية والثقافية التي طرأت على الدولة الوطنية وجعلتها على مرمي حجر من فقدان سلطانها التقليدي بفعل طغيان السوق وشركاته المتعملقة! وإذا كان ذلك التوصيف العام ينسحب بصورة إجمالية، إلا أنه قد يكون مجانبا للصواب في بعض المجتمعات التقليدية مثل مجتمعات إفريقيا جنوب الصحراء حيث لازال بقاء الدولة يعني فيها الشيء الكثير على الرغم من وقوعها جديا تحت ضغوط عدم الاستقرار الاجتماعي و الاقتصادي (الحروب المجاعات ) وهو أمر يحيل إلى التساؤل عن جدوى الحديث عن المجتمع المدنى. أما في الدول المتقدمة فإن " دولة العولمة" بحسب " جان فر انسوا" تشكو من تزايد نفوذ عتاة الليبراليين أمثال " بيل قيتس" و " سو روس" وغيرهم من الذين إن أرادوا تهديد الدولة لفعلوا كما أثبتت ذلك أزمة بلدان شرق آسيا في 1997 ، كما أن أولئك "البارونات" الكبار تطاولوا على الدولة بعد أن خوصصت لهم صلاحيات الجمارك والدفاع الوطني وبعض مهمات الشرطة التقليدية. وهو واقع جعل البعض يشير إلى أن هؤلاء الرأسماليين الكبار هم القادة الفعليين للعالم الذي نعيشه اليوم ولكنهم " حكام في الظل" تكفي ضغطة من أحدهم على زر صغير لتعاني دولة ما من الإفلاس المالي وبأسرع من لمح البصر ، وهذا طبعا بخلاف ما تدعو إليه اتفاقية منظمة التجارة الحرة التي تروج لدعاوى الاعتماد المتبادل وتوزيع المنافع الاقتصادية والسياسية بين بني البشر في الشمال والجنوب.لكن ما تنص عليه الاتفاقيات شيء وما يجري على أرض الواقع من حقائق شيء آخر مختلف تماما.
عرب وعولمة
وهو زوج مفاهيمي استهوى مفكرا عربيا هذه المرة هو المحامي الشهير "إبراهيم الغويل" رئيس الفريق القضائي في قضية لوكيربي المعروفة ليقدم في نفس المكان وأمام نفس الجمهور محاضرته عن " العرب والعولمة و الأفر وآسيوية" .وفي تقديمه تساءل المحاضر عن : من هم العرب؟ وأجاب إنهم قوم لا ينتسب إليهم بالعرقية والسلالية، بل إن معنى " العربي" هو معني لساني وثقافي وفكري وحضاري ، وبناء عليه تكون القومية العربية قومية منفتحة ومرنة ، والعرب يرون في أنفسهم أنهم القوم ذوو القدرة على الإبانة والإفصاح والبلاغة ، ويترتب على ذلك أن من لا يتصف بذلك يكون " عجميا". لهذا ليس غريبا أن يري العلامة ابن خلدون العالم في عصره عبارة عن " عرب وعجم وبربر "!! والأخيرون هم " عرب" ينطقون العربية بلكنة ورطانة وغموض! كما أن العرب حسب المحاضر هم حملة رسالة الدين الإسلامي الذي قدم جُماعَ الحلول للبشرية من أمراضها ،ولهذا كان القرآن " مصدقا " و " مهيمنا" و " كاملا خاتما". ويناقش المحاضر أن الأفول الحضاري العربي الإسلامي بدأ منذ انقطاع الوحي السماوي حيث استحالت السلطة " الشورَوية" إلى " مُلك عضوض" ، وانتقل المال من كونه "مال الله " إلى أن تركز " دولةً بين الأغنياء والمترفين" ، كما انتقلت الأخوة الإسلامية إلى " شعوبية" عجلت بانهيار الحضارة ورؤاها التاريخية الرافضة للتعصب والمركزية خلافا للرؤية الغربية للتاريخ التي تختصر تاريخ البشرية في تاريخها وحدها مدعية أن خلافه هو سفسطة وظلام " قرسطوي"! إن الرؤية الغربية لا تجعل أمام الآخرين من خيار إلا " الإيمان والتسليم". ولتفنيد محاججة الداعين إلى التماهي مع خطابات العولمة " الغربية" استعرض إبراهيم الغويل أمام الجمهور في سابقة نادرة في مثل هذه المحاضرات حوالي 20 مرجعا " جديدا" باللغة الإنجليزية وصادرة في أغلبها عن دور نشر أمريكية ، ومن بينها كتب: " توماس فريدمان" مرورا بــ:" شومسكي" و " سو روس" و " ستوقلس" .. وانتهاءً بـ:" طارق علي" و " فوكوياما" و " روبرت ويليام"..
عن فكرة الأفرو آسيوية
وهي فكرة خلقها العرب تاريخيا بالإسلام وجغرافيا بتموقعهم في تقاطع القارات الرئيسة في الكون آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا، وتعززت في العصر الحديث في أوج حركة التحرر الوطني متجسدة في مؤتمر باندونج 1955 الذي صاغه الأفارقة والآسيويين بمحورية العرب من خلال دور الزعيم البارز جمال عبد الناصر. وقد سعى الغرب دائما إلى ضرب فكرة الأفرو آسيوية من خلال ترويج " الصراع بين الحضارات" لبتر العلائق التاريخية بين الإسلام والكونفوشيوسية والبوذية والأرثوذكسية ، ويدل ذلك على عبثه بصناعة مناطق التفجير الدائم في فلسطين وكشمير والشيشان .. الخ .
وقد رأى "الغويل" أنه إذا كان كتاب " رأس المال" لــ كارل ماركس من أهم مؤلفات النصف الثاني من القرن التاسع عشر فإن كتاب الفيلسوف الجزائري " مالك بن نبي" عن " الأفرو آسيوية" الصادر باللغة الفرنسية هو من أجود وأهم مؤلفات النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أنه ظُلمَ حين تم حجره ومنعه من التداول والتوزيع لإجهاض فكرة الأفرو آسيوية مثلما تم التآمر – كما قال- على " بن بيلا" بانقلاب 1965 لمنع انعقاد قمة الأفرو آسيوية ،وهي التي بدأ الأفارقة والآسيويون ينشغلون للمشاركة فيها بدليل حضور الزعيم الصيني " ماوتسي تونغ" إلى القاهرة في طريقه إلى قمة الجزائر التي لم تنعقد حتى اليوم!
وفي ظل عالم التكنولوجيات( الحرب – الإعلام – الاتصالات – الإنتاج ) فإن سبيل الإنقاذ هو إحياء ثقافة الأفرو آسيوية لأنها هي التي بإمكانها الإجابة علي الخيار" الصعب" : حرب أم سلام وبعبارة أخرى : فناء أم بقاء؟ ولاشك أنها ستجيب بالانحياز إلى خيار السلام خيار البقاء كيف لا؟ وهي تجذر تاريخيا قمة التعايش بين الإسلام والكونفوشيوسية والبوذية ، أي بين العرب وغيرهم من قوميات العالم الإسلامي ، وبصورة موسعة بين كل أمم الأرض مهما اختلفت عقائدهم أو أفكارهم في زوايا المعمورة المختلفة.
وعلى الرغم من انتقاد البعض للمحاضرة لكونها محاضرة عامة وفي ذلك إحدى نقاط ضعفها، حيث لم يتم التقيد بتقسيمات المنهج العلمي المتبعة بالخصوص، فإن السؤال الرئيس ظل عالقا في الأذهان وهو :" هل لا يزال هناك أملُُ في مثل هذه الأفكار التي تبدو في مثل الحالة الراهنة " مفارقة" للجوقة الموسيقية المعيشة التي تأتي من وحي الزعامة الأمريكية للعالم؟
وكيف السبيل العملي إليها في ظل دول آسيوية راغبة إلى الشراكة مع اقتصادات العظماء ،واتحاد إفريقي يحمل أوزار و مشاكل القرن الماضي وتداعياتها الجيو استراتيجية .. وعرب تتقاذفهم التكتلات دون أن يكون لهم حضور فاعل ومؤثر؟
ويرى " الغويل" أن الإجابة يملكها الشباب وهم أغلى من في الحاضر وعدة المستقبل وعتاده ، إلا أنه نسي أنهم محصورين في "حدية " تصعب منها المناورة من عدة زوايا تعكسها عربية وغربية ، الأخيرة التي يعكس جزء من بعضها " جان فرانسوا بايار" تصرخ من أن " الدولة الوطنية : ضحية العولمة" !! و الأولى التي يعكس حالة منها أيضا " إبراهيم الغويل" وهي المراهنة على جدوى مثل أفكار " العرب و الأفرو آسيوية" كخيار استراتيجي في مواجهة خبطات العولمة التي ترمي في كل الاتجاهات؟
فأي الفريقين أهدى سبيلا!
* منشور في موقع وكالة الـأخبار www.alakhbar.info
0 التعليقات:
إرسال تعليق