لا يختلف اثنان عاقلان في عصر العولمة والفضاءات الاقتصادية الكبرى ، الذي نعيشه اليوم على الأهمية الاستراتيجية النسبية للاستثمار الأجنبي المباشر كأحد مكونات التدفقات المالية للدول النامية. ومع أن العالم يشهد تراجعاً عاماً في معدلات تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة (870 بليون دولار عام 2006 مقابل 1.45 تريلون عام 2002)، إلا أن الدلائل تشير إلى وجود منافسة قوية بين الدول النامية لزيادة نصيبها من تلك الأموال. ولهذا تحرص جميع الدول ، حتى منها تلك الدول المتقدمة ، علي تحسين بيئات الاستثمار فيها لحيازة أكبر نصيب ممكن من السيولة و الأنشطة التي تتيحها مثل تلك الفرص الاستثمارية . استظهرتُ ذلك وأنا أتابع الجدل الغريب العجيب حول " فرصة " استثمار لشركة كندية لإنشاء مصفاة للنفط في المنكب البرزخي بطاقة إنتاجية تلامس الثلاثمائة ألف برميل لليوم ، مع ملحقات إنتاج في مجال المياه والكهرباء مطابقة للمقاييس العالمية الحديثة في هذا المجال .. فأحسست بالمرارة الكبيرة وخيبة الأمل في هؤلاء الذين بدأوا يثيرون الشبهات الجدية حول " نواياهم الحقيقية " تجاه مصالح فئات عريضة وغالبة من شعبهم وساكنتهم التي تقاسي الأمّرين شظفا و فقرا و جهلا ومرضا !!
الملاحظة الأولى:
لمصلحة من يتحرك هؤلاء الذين " افتعلوا " قضية بدون سبب حقيقي للتشويش والإثارة حول الطريقة التي منحت بها الرخصة الفنية التي منحت لشركة " وينفيلد رسورسز " الكندية المتخصصة في مجال إنشاء مصافي النفط .. هل يبغون فعلا المصلحة العليا للوطن ، وهذا الاستثمار يأخذ بالأهمية الاستراتيجية الجغرافية لموريتانيا في غرب وشمال إفريقيا ، وسيجعل منها مركز استقطاب تنموي مهم، إذا أخذنا في الاعتبار أن تكرير النفط ومشتقاته سيعزز موقع الاقتصاد الموريتاني في تبادلاته مع شبه المنطقة الإفريقية في جنوب الصحراء .
الملاحظة الثانية:
هل هؤلاء الذين يثيرون هذه الزوبعة العابرة مدفوعون " عن بعد " من رجال أعمال أو " مجموعات ضغط اقتصادية " أو يرتبطون بمصالح مادية رخيصة مع " بورجوازية كومبرادورية" دأبت طوال العقود " الاستثنائية" السابقة أن تكون على صلة بأي استثمار أجنبي مباشر تسهّل له مقابل حصص انتفاع " مقننة " ، وبالتالي فإنها صُدِمتْ بهذا الاستثمار الذي تصل قيمته الإجمالية إلى أكثر مما وصلت إليه حكومتنا مع " شركاء التنمية"( ممولي نادي باريس ) الذين هللوا كثيرا للنجاح الاقتصادي والثقة والجدارة الباهرة التي جعلت الشركاء يثقون في الأداء الاقتصادي للحكومة الموريتانية ويمنحونها 2.41 مليار دولار لتمويل مخطط التحول التنموي في أفق 2008-2010 ، بينما هذا الاستثمار من شركة " وينفيلد " سيضخ، ربما، أزيد من هذا المبلغ مرتين أو أكثر، مما يؤشر إلى مستوى من الجدية والرغبة الكبيرة في الدخول في السوق الموريتاني و الأسواق المجاورة ؟!
الملاحظة الثالثة:
هل ذنب هؤلاء المستثمرين الكنديين أنهم " صدّقوا " أن موريتانيا دخلت مرحلة، فعلا، جديدة من الديمقراطية و الحكم الرشيد و الشفافية، وأنها أعلنت على صفحات كبريات الصحف الأمريكية والعالمية أنها ترحب بالاستثمارات الأجنبية وتقدم لها كل التسهيلات الممكنة و تهيئ لها كل الحوافز الاستثمارية اللازمة في هذا المجال، مما جعلهم يحترمون السياق الفني للترخيص للاستثمارات ويقدمون 35 مليون أوقية كضمان مالي إلى الخزانة العامة وينتظرون فترة ثلاثة أشهر، وهذا هو ما ينص عليه القانون في هذا المجال، ويحصلون على الموافقات من إدارة التشريع والترخيص من الجهات المعنية في وزارة الطاقة و المياه، وقدّموا تصورا جاهزا، بعد دراسة متأنية، عن خريطة العمل الاستثماري لبناء المصفاة و ملحقاتها و إنشاء المركز التكويني المتخصص الذي ستفتتحه الشركة وفقا للمقاييس العالمية في هذا المجال ، و التي على أساسها ستبعث 100 إطار و كادر فني موريتاني للتكوين في الخارج في مجال النفط ، ومساهمة في التشغيل العمومي وحل جزء من مشكلة البطالة المستعصية للشباب و الخريجين، إذ ستشغل الشركة حوالي 3500 مواطن موريتاني .. الخ
الملاحظة الرابعة:
لمصلحة من يتم " تصعيد " الموقف وربطه بالجماهيرية الليبية ، وكأن التعاون الاقتصادي مع الجماهيرية جريمة لا تغتفر، وهي التي قدمت ولا تزال تقدم مشروعات عملاقة للتنمية في موريتانيا، وليست بحاجة إلى الدخول تحت " غطاء آخر" ..! هذه النغمة المعادية للجماهيرية كنا نتصور أنها قُبِرتْ مع النظام المباد الذي كانت ليبيا بالنسبة له " مشجبا " يعلق عليه كل إحباطاته وفشله المريع في جميع المجالات .. ولكن يبدو أن هناك من لا يزال يعيش بعقلية الماضي التعيس .. كما أن العلاقات الموريتانية الليبية في هذه الفترة في أحسن أحوالها، وقد تأسست اللجنة العليا للتعاون المشترك بعيد زيارة الرئيس الموريتاني المنتخب سيدي ولدد الشيخ عبد الله إلى طرابلس في 17 نوفمبر 2007 ، و شركة الاستثمارات الافريقية الليبية ( الآيفكو) قد حصلت على ترخيص للعمل الاستثماري في قلب انوكشوط ، ومن المنتظر أن يبدأ العمل في " مجمع الفاتح الاستثماري – فرع موريتانيا " قريبا وقد وافقت الحكومة الموريتانية على التنازل المؤقت لهذه الشركة عن قطعة أرضية في قلب العاصمة .. إذا لماذا يتم الزج بالجماهيرية الليبية في موضوع " استثمار شركة كندية " ؟؟ثم إنه إذا كانت الشركة المذكورة لديها بعض الأعمال لصالح صيانة " مصفاة الزاوية " في ليبيا، وهذا ما يثير حفيظة البعض، فإن شركة " توتال " الفرنسية لها أيضا أشغال بالمليارات في السوق الليبي، وكذلك " تام أويل " و " آجيب "، و " بريتش بتروليوم "، و " هاليبرتون " ... والقائمة طويلة جدا !! وإذا كنا سنرفض أن تعمل لدينا شركة لديها أعمال استثمارية في الجماهيرية فهذا يعني أننا ببساطة لا نريد من الاستثمارات الأجنبية أن تعمل في موريتانيا !!
الملاحظة الخامسة:
أن " شركة وينفيلد رسورسز " جاءت في وقت مناسب جدا وهو عقب مقتل الفرنسيين في " ألاك " ، و الهجوم على حامية الجيش الموريتاني في " الغلاوية " في أقصى الشمال الموريتاني، و" الهجوم على السفارة الصهيوينة " في قلب انواكشوط .. إنها جاءت في وقت تبدو فيه صورة موريتانيا مهشّمة أمنيا و اقتصاديا، وكان من اللائق والأجدر أخلاقيا واقتصاديا أن تفتح الأبواب المغلقة، إن كانت موجودة ، أمام هؤلاء ويتم تكريمهم والاحتفاء بهم ، وهم الذين قدّموا خدمة بلا حساب لمصلحة موريتانيا، من أجل أن يقنعوا نظراءهم الآخرين بالقدوم إلى موريتانيا باعتبارها بيئة آمنة للاستثمارات الأجنبية، وأن تلك الأحداث الدامية ليست إلا خدوشا عابرة لا يجب أن تؤثر على المناخ العام للاستثمار في موريتانيا ..إلا إذا كان هؤلاء المعترضين على الاستثمار لديهم حسابات يتقاطعون فيها مع صانعي ذلك الإنفلات الأمني الرهيب و الكفيل بإرهاب أي مستثمر أجنبي يريد الدخول إلى هذه البلاد السائبة أمنيا، وهو ما لا يمكن قبوله إذ أن " رأس المال جبان " لا يمكن أن يتفيأ إلا الظلال الآمنة ؟؟؟
الملاحظة السادسة:
حتى إذا قبلنا جدلا أن هناك " خطأ " إداريا ما ، وهو ما لا دليل عليه، في بعض جوانب الترخيص لهذا الاستثمار المهم، فإن معالجته كان يجب، ويمكن، أن تتم بعيدا عن فضاء التلفزيون و البنط العريض للصحف السيارة، إلا إذا كان العمل على خلق ارتباك وشوشرة مقصودة ولحسابات خاصة جدا هو الهدف من ذلك، إذ أن الموازنة بين عوائد هذا الاستثمار للشعب الموريتاني وللاقتصاد الموريتاني و لصورة موريتانيا وعلاقاتها ودورها الاقليمي، كل ذلك كان كفيلا بأن يستحي هؤلاء من لعب دور " الإثارة " الذي يجعلهم في صف أعداء المصلحة العامة و الساهرين عليها، إلى صف أولئك الذين لاينظرون أبعد من " أرنبات " أنوفهم ومساحات " جيوبهم"، وهو ما لا يمكن قبوله إذا ما تعلق الأمر بمصلحة شعب يريد من يسهم في مداواة أوجاعه لا من يصب الملح على الجرح ليزيده إيلاما و مرضا !!؟
الملاحظة السابعة:
تتعين الإشارة إلى التوصية الواردة في ختام الملتقي الأخير المنظم حول تقييم عوائق الاستثمار و اعتماد تقرير سياسة الاستثمار في موريتانيا الذي انعقد مؤخرا منذ أيام قليلة في انواكشوط في 21 فبراير 2008، وتقول تلك التوصية : " إقامة شباك موحد للاستثمار يجمع مختلف الإدارات المعنية بالاستثمار تحت سقف واحد "، و من المفترض أن يتم تمرير القانون الجديد المشجع للاستثمار إلى البرلمان بغرفتيه من أجل إسباغه الشرعية اللازمة .. وأمام النقاش الذي شهده الملتقي المذكور، فلا بد للمرء أن يتساءل عن سر علاقة هذا الطموح المشروع بالواقع المعيش إزاء ما يحدث حيال " قضية وينفيلد رسورسز" الكندية ؟؟
وفي الختام .. فليس هناك مناص من التكرار، الذي يحتوي الاعتبار، و الوقوف والاستفسار عن هوية من قام بتسريب هذا الأمر و النفخ فيه باستماتة لافتة إلى هذا الحد ؟؟ وماهي مصلحته في ذلك ؟؟ وهل هناك جهات يخدمها ذلك ؟؟ وهل يعتبر أن ما قام به يقدم خدمة عظيمة للاستثمار الأجنبي المباشر من شأنها جلب المستثمرين زرافات ووحدانا إلى وطننا المكلوم ، أم أنه كان يسعى إلى تنفيرهم وإبعادهم وتشويه صورة موريتانيا لديهم ؟؟إن حرمان موريتانيا، وهي التي تحتاج لمعجزة تخلصها من إسار هذا الوضع الكارثي اقتصاديا و اجتماعيا، من نعيم الاستثمارات الدولية سيساهم في تأجيل الإقلاع بها بالتنمية المستدامة والمندمجة، أو على الأقل الحصول على نصيب من الإنجاز في مشروع أهداف الألفية للتنمية، وقد بدأت دول عديدة في إفريقيا المحيطة بنا تحقق بعض ذلك مع اختلاف في مستويات الأداء من حالة إلي أخرى ..و لا بد من التذكير أن استمرار هذا الجدل العقيم و " الإثارة " غير المجدية قد يعمل على إرسال إشارات واضحة في سلبيتها للمستثمرين الدوليين تجعلهم لا يحرصون على أن يكونوا موريتانيين أكثر من الموريتانيين أنفسهم .. ويا ليت قومي يعلمون !
منشور في موقع الأخبار انفو www.alakhbar.info
1 التعليقات:
very good blog, congratulations
regard from Catalonia Spain
thank you
إرسال تعليق