4 أبريل 2008

ملفات الزمن الهارب (2) : في عاصمة الفاطميين (1)

شاءت الأقدار أن أسافر إلى القاهرة ، وذلك لحضور معرض القاهرة الدولي للكتاب مرتين الأولى في دورة 2005 ، و الثانية في دورة 2006 ، وكانت فرصة ثمينة لي وأنا القادم من منطقة المغرب العربي ( موريتانيا ) ، كأني أسير على خطى بناة هذه المدينة العريقة ، وهم الفاطميون الذين نقلوا عاصمة ملكهم من " المهدية" في شمال تونس ، وبعد أن استتب لهم الأمر في مصر ، في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ، الذي وضع حجر الأساس للقاهرة ، وأسميت من ذلك اليوم "قاهرة المعز لدين الله" .. ولا يمكن لزائر القاهرة الحديثة إلا أن يستذكر هؤلاء الفاطميين وجهودهم التاريخية في نشر الإسلام والثقافة العربية و الإسلامية ، وهم الذين لا تزال آثارهم باقية حتى يومنا هذا تدل علي بصماتهم التي حفظها الزمن بالرغم من عادياته ، بداية من "الأزهر الشريف" ، ومناطق " الحسين " ، و " السيدة زينب" ،،، الخ وغير ذلك من المواقع الإسلامية التي أصبحت جزء مميزا ومغريا من معالم القاهرة الإسلامية ، يفد إليه آلاف الزوار والسياح من مختلف أصقاع الدنيا كل عام ...
وصلت إلى مطار النزهة بمدينة الإسكندرية الساحلية المتوسطية في رابعة نهار أحد الأيام المشمسة في فصل الشتاء ، ولفت انتباهي سرعة تخليص إجراءات الدخول من ضباط المطار ، و ربما فاجأني صغر مطار النزهة الذي لم أتصور حجمه بهذا المستوي غير المتناسب مع عدد سكان المدينة وحجم السياحة السنوية إليها ، إذ يصل عدد سكانها تقريبا إلى أزيد من ستة ملايين من البشر ( وهذا يفوق عدد سكان موريتانيا مرتين!!) ، غير أن حجم الضغط عليه فيما يبدو ليس كبيرا مثل ميناء القاهرة الجوي أو المطارات السياحية الداخلية الأخرى ، كمطار الأقصر مثلا .. أسرعت في الخروج من محيط المطار إلى الشوارع الأمامية ،حيث أقلتني سيارة أجرة في اتجاه محطة " سيدي جابر للمترو" في وسط المدينة ، وحين استفسرت عن أقرب موعد للقطارات المتجهة إلى قاهرة المعز ، أجابني الموظف المختص أن هناك موعد بعد نصف ساعة للقطار " الاسباني" كما يسميه المصريون ، فحجزت فيه تذكرة درجة أولي بحوالي 40 جنيها مصريا ( ما يقابل 8 دولارات تقريبا) ، وعلمت أن هذا القطار " الأسباني" ، و نظيره " الفرنسي" ، هما أفضل القطارات المتجهة إلى القاهرة من حيث ضبط المواعيد في الانطلاق والوصول .. بعد حوالي ساعة من المسير ، مررنا على عدة قرى ونجوع ومدن مصرية ، من أبرزها " طنطا" مدينة الولي الصالح " السيد البدوي" المشهور ... وكانت طريق القطار تسير بين الحدائق والحقول الزراعية ، التي لفت انتباهي ، أحيانا ، أن التقنيات الزراعية المستخدمة فيها لا تزال تقليدية جدا ،حيث الجرار والفأس العادية والنساء اللواتي يشاركن في طقوس الفلاحة ، والأطفال الصغار وهم يداعبون أشجار الحقول هنا وهناك ، وهي تقنيات بدائية لم أكن أتصور أن مصر في الألفية الجديدة لا تزال تستخدمها ، تماما كما هو الحال في المزارع الموسمية في دواخل موريتانيا..
انتهت الرحلة بوصولنا إلى محطة " رمسيس" الكبرى في قلب القاهرة ، وبالرغم من أن النهار لا يزال في رابعته إلا أنني حرصت على العثور على أقرب فندق شعبي لأرمي فيه حقائبي ، كسبا للوقت حتى لا يضيع علي ذلك اليوم دون أن أزور معرض القاهرة الدولي للكتاب في أرض المعارض الكبرى في مدينة نصر ، و قد دلني أحد المصريين وأنا أتجاوز تقاطعات الطرق المحاذية لمحطة" رمسيس" ، إلى فندق " فونتانا" ، وهو صغير بالمعايير " المصرية" طبعا وضخم بالمعايير الموريتانية!! ، ويقع الفندق على الاتجاه الثاني المقابل للمحطة ، ويطل عليها في نفس الوقت . فدلفت إلي جناح الاستقبال فيه ، و طلبت حجرة لمدة يوم واحد أو يومين حتى أرتب لمقامي في القاهرة بشكل جيد ، ، ومن حديثي عرف أنني قادم جديد ( ولكل قادم دهشة؟!) ، فأخبرني أنه يجب علي أن أدفع مائتي دولار أمريكي على الأقل كعربون تحت الحساب ما دمت " غير مصري "! وأن هذه هي تعليمات الوزارة ( وزارة السياحة)؟!!
فلم أناقشه ..بالرغم من استغرابي من هذه الطريقة في التعامل مع القادمين الأشقاء ( أو هكذا المفترض بالنسبة لي على الأقل) وفي دولة تشجع السياحة إليها وترغب في استقطاب المزيد والمزيد من الزائرين سنويا .. وقد علمت بعد ذلك أن هذا مجرد اجتهاد من الموظف وأن لا علاقة للوزارة بهذا الأمر ولا أصدرت هذه التعليمات !!
كانت لدي رغبة كبيرة أن أنتهي من هذه الإجراءات بالسرعة القصوى ، طلبت منه أن يدلني على محور الاتجاه إلى معرض القاهرة الدولي ، وحين وقفت على الطريق منتظرا حافلات النقل العام ، هالني المنظر الذي كنا نشاهده يتكرر في الأفلام المصرية ، وهو التزاحم الشديد بين البشر شيبا وشبابا ..رجالا ونساء .. في هذه الحافلات العامة ، بطريقة غريبة و " مريبة"! ، تشبه تماما الحافلات الناقلة في انواكشوط ، التي يتكدس فيها وفوقها الناس كالحيوانات ، غير آبهين بالتناسب العددي بين عدد الكراسي وعدد الركاب ، فالكل يركب على الكل ، ببهلوانية غريبة ومقززة !!.
عدلت في النهاية - وأمام هذا المنظر الذي جعلني أشك في النهاية هل أنا في موريتانيا أم في أرض الكنانة - عن فكرة الحافلات العمومية ، واختصرت الموقف بإيقاف أول سيارة أجرة تصادفني ، قال صاحبها : " على فين يا بيه ؟؟ " ، رددت عليه : على معرض الكتاب الدولي ، وبعد طقوس الشكوي التي بدء بها الرحلة في سيارته من ضيق ذات اليد و سوء الأحوال المادية مقارنة مع أيام زمان !!.. ومع أنه لم يحدد عن أي أيام زمان يتحدث ..إلا أن ذلك كان مقدمة لازمة ، فيما يبدو ، ليحدد تسعيرة لهذا المشوار وصلت إلي حوالي ثلاثين جنيها !! .. وبعد شد و جذب وشكوي وتبرم وتأسف ، استقر رأيه عند عشرة جنيهات مع لازمة تؤكد " عشان أنت ضيف عندنا في مصر.. معليشي يا بيه ..!!"

علمت أن المعرض يعقد منذ عام 1969 ، وأن المعرض الحالي مقام على مساحه 180000 متر مربع يحتوي على يضم "15" جناح عرض يشمل عددا" هائلا" من دور النشر يتعدى "516" ناشرا منهم"58" ناشرا " عربيا" و"25" ناشرا أجنبيا .... و"432" ناشرا" مصريا" كل ذلك ضمن"سرايات البيع" التى تعتبر السوق الفعلى للمعرض حتى يتمكن زوار المعرض من الاطلاع على احدث اصدارات دور النشر وشراء احتياجاتهم من الكتب من عيون المعرفة الإنسانية ...
تزامنت الدورة الثامنة والثلاثين للمعرض في سنة 2005 مع دورة كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم التي بدأت يوم الجمعة الماضي في القاهرة وهو ما شكل تبرما وضيقا كبيرين لدى الناشرين في المعرض خوفا من تراجع منحنياتهم التسويقية عن ذي قبل ، لأن متابعة وحضور الكأس الإفريقية قد تجذب الكثيرين إلى المدرجات وليس إلى " السرايات" .
كما علمت من المطويات التي وزعت علي الزائرين تزامن المعرض في سنة 2005 مع عدد من المناسبات التاريخية والثقافية والسياسية في تاريخ مصر والعالم العربي، مثل مرور 700 عام على رحلة الرحالة المغربي الشهير أحمد بن بطوطة إلى دول المشرق التي أوصلته حتى بلاد الهند، و300 سنة على ترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية التي سبقت الطبعة الإنجليزية بخمسين عاما، ومرور 250 عامًا على مولد المؤرخ المصري"عبد الرحمن الجبرتي"الذي أرخ في كتابه الأشهر "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" لفترة حكم المماليك والحملة الفرنسية على مصر عام 1798 وبداية حكم محمد علي مصر عام 1805، ومرور 200 سنة على تولي محمد علي باشا الحكم في مصر باعتباره مؤسس الدولة المصرية الحديثة

يا داخل مصر هناك ألف من مثلك


بالرغم من أن الهدف من زيارة المعرض هو الحصول على بعض العناوين الدقيقة عن مواضيع حديثة و محددة تحتاجها أطروحتي للدكتوراه في العلوم الاقتصادية ، غير أنني وجدتني منساقا تلقائيا إلى الأنشطة الفكرية والثقافية المقامة على هامش المعرض ، وحيث إن هناك إعلانات تطلب الحضور والمشاركة والاستماع لكتاب ومفكرين مصريين كبار وإجراء حوارات مفتوحة معهم، من بينهم الكاتب الصحفي كامل زهيري الحاصل علي جائزة مبارك للعلوم الاجتماعية، والفنان محمد حامد عويس الحاصل علي جائزة مبارك للفنون، والناقد د. عبدالمنعم تليمة الحاصل علي جائزة الدولة التقديرية في الأدب، والروائي خيري شلبي الفائز بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، والموسيقار عمار الشريعي الحاصل علي جائزة التفوق في الفنون، والروائي إبراهيم أصلان الحاصل علي جائزة كفافيس والروائي محمد المخزنجي الفائز بجائزة مؤسسة ساويرس للإبداع القصصي وغيرهم.. فإنني كنت في كل فرصة أعود فيها إلي مثل هذه الصالونات التي تعج بألوان الفكر السياسي والثقافي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار .
واستمتعت أحيانا بأجواء المناقشات والأفكار الثرية المطروحة في موائد مستديرة موسعة توزعت على محورين رئيسيين الأول : « التنوع الثقافي في ظل العولمة» وذلك بمناسبة إصدار وثيقة اليونسكو لدعم التنوع الثقافي، و الثاني " ثورة المعلومات وأثرها في ثقافة الشباب".. بالإضافة إلى استضافة شخصيتين عالميتين تشاركان كضيفي شرف في أنشطة المعرض الفكرية والثقافية ، وهما الكاتب الفرنسي "روبير سوليه" صاحب الكتاب الشهير "مصر ولعا فرنسياً" و"نادين غورديمير" الكاتبة الإفريقية الحاصلة على جائزة نوبل في الآدب..

تذكرت إثر ذلك النكتة ، أو بالأحرى الأسطورة الشعبية ، التي تتردد عندنا في موريتانيا ، أنه " يا داخل مصر هناك ألف من مثلك"!! بمعني أنك إذا كنت من أهل العلم الشرعي والدين الإسلامي الحنيف فلن تعدم الأزهر الشريف وعلماءه و المزارات الدينية ونساكها ، وإن كنت من أهل الفكر والثقافة فهناك في مصر فطاحلة وجهابذة لا يشق لهم غبار في هذا المجال ، وإن كنت من أهل اللف والدوران والإجرام والاحتيال والنصب فهنا في مصر أهل " الفهلوة " و" البلطجة " و" الأونطة " ، و " ناس تخاف وما تختيش ! " ، وإن كنت من أهل المجون واللهو والغرام والطرب الأصيل وغير الأصيل فإن في شارع الهرم و " مداخله" ما يروق لذوقك وينقلك إلى العالم الذي تحلم به ، عالم يجعلك تعرف حق المعرفة شعار " روتانا سينما" : مش حتقدر تغمض عينيك !!
إن الحرية الفكرية والثقافية التي يلاحظها متابعو تلك النشاطات لا يمكن أن تحجب حقيقة مصادرة ، كما أفادني بعض الناشرين ، بعض المؤلفات الأدبية والفلسفية، حيث تمت مصادرة حوالي 20 مؤلفاً وهي "11دقيقة " للبرازيلي "باولو كوبلو" و" الوعول" و" الومض" و"حكاية النورس المهاجر " للسوري حيدر حيدر و" ليلة الغلطة"و"الحب والحب الآخر " و" أعناب مركب العذاب" للمغربي طاهر بن جلون ، وأجزاء من رواية "مدن الملح" و" حين تركنا الجسر" و"بادية الظلمات" و" أرض السواد"للروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف ، و" أحلام النساء" للمغربية فاطمة المرنيس ، و " كبرياء الطريق في مأزق" للسعودي عبد الله القصيمي ، و"الحياة الجديدة" لأورهان بافوق ،و مريم الحكايا" للروائية اللبنانية علوية صبح ، و"مسك الغزال" للروائية اللبنانية حنان الشيخ و"خفة الكائن التي لا تحتمل" للروائي التشيكي ميلان كونديرا ، ورواية"حكاية مجنون" للروائي المصري المقيم في ألمانيا يحيى إبراهيم ، وكذلك ديوان "11 كوكبا" للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وديوان "أول حب - أول جسد" للشاعر السوري علي أحمد سعيد المعروف بأدونيس.
وربما يعكس ذلك مضمون المثل السابق للداخل إلى مصر في تناقضات أحوالها ..سبحان الله!


مشاركة بدون ترتيب مسبق في مظاهرات لحركة كفاية

فوجئت في يوم الجمعة 4/2/ 2005 وأنا بصدد الدخول إلى المعرض ، اصطفاف عشرات العربات المصفحة وتعزيز لقوات أمن حاشدة بلغت ، فيما كتبت الصحف في حينها ، حوالي 50 ألف جندي على شكل حواجز أمنية، لتطويق مظاهرتان اندلعتا بأرض المعرض، نظمت أولاهما "الحملة الشعبية من أجل التغيير" .أما المظاهرة الأخرى فقد نظمها حزب العمل (المجمَّد)، وتقدمها مجدي أحمد حسين، أمين عام الحزب، ونددت بدعوة مبارك رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لزيارة القاهرة. .وانتشر جنود الأمن المركزي لحصار المشاركين في المظاهرتين الذين وجدنا أنفسنا في خضمهما ، وكأننا من منظميهم أو المشرفين عليهما ، وذلك بالرغم من اختراق قوات الأمن المدنية للمظاهرتين ومنعها بلباقة أحيانا وبتهديد وإبراز بطاقات الأمن أحيانا ، وهو ما خلق ربكة غير متوقعة ساهمت في استحالة الحركة بين أجنحة المعرض المختلفة ، ما دفع الكثير من رواده إلى مغادرته. وعلقت الصحف المصرية بسخرية لاذعة أن المعرض استحال إلي "معرض للأمن المركزي" !! ..
وعدت أدراجي إلى حي المهندسين - شارع السودان ، حيث أقيم بعد أن تركت الفندق بعد ثلاثة أيام من الإقامة فيه ، من أجل الاستعداد للذهاب للصلاة في الجامع الأزهر الشريف ، الذي يسوره المشهد نفسه ، كما تركته في أرض معرض القاهرة للكتاب ، ويبدو أن نشطاء حركة كفاية جاءوا إلى المسجد يرتبون لمظاهرة بعد انقضاء الصلاة ترفع شعارات تتنوع بتنوع الهموم المحلية والقومية ، من " لا للتوريث" ..لا " للتمديد" ..إلى .. المقاومة في فلسطين السليبة والعراق المحتل الجريح !!
حين اقتربت من مدخل الجامع الأزهر اعترضني أحد رجال الأمن ، وحين عرف أنني لست مصريا ، رحب قائلا " الأولاد بيعملوا مظاهرة .. وأنت مالك؟" .. الأفضل أن تصلي في جامع سيدنا الحسين المجاور للأزهر الشريف ... فوافقت على الفور .. إن الصلاة في ذلك الجامع من جوامع " آل البيت" تحتاج إلى تنظيم معين ،بحيث يجب أن تدفع رسوما معينة لبواب الجامع مقابل رقم معين يحفظ لك فيه كتبك وأشياءك إلى ما بعد الصلاة .. وراعني حضور عدد من السياح الأجانب الغربيين لتصوير المسجد و رصد الحركة الدائبة وبيع المقتنيات الشعبية والعطور الزكية التقليدية .. وتذكرت من خطبة إمام جامع سيدنا الحسين أحوال الفاطميين الذين أدخلوا تقليد الدعاء لآل البيت كرد على الدعوة لبني أمية التي ألزموا بها الأئمة بعد سيطرتهم على الخلافة الاسلامية .

يتواصل
.

0 التعليقات:

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya