بقلم – أحمد ولد نافع- باحث و أستاذ جامعي موريتاني
… ذات مرة اتصل بي أحد الإعلاميين العرب مذكرا إياي - بعد نقاش فكري قبل ذلك - بمناسبة سقوط غرناطة ، وطلب مني تسجيل إنطباعاتي عن ذلك ، فرددت عليه بهذه الخواطر التي أنقلها إلي القراء الأعزاء دون تغيير :
تحل هذه الأيام مناسبة تاريخية جليلة ، وهي ذكرى سقوط غرناطة ، آخر الحواضر الإسلامية في الأندلس ، سقطت بعد أن عمّر الإسلام تلك الديار ثمان قرون تقريبا .. فماذا يذكرنا هذا السقوط ؟ و لماذا لا نتأمل و نتفكر و نتذكر بشأنه حتى نجني دروسا و عبر ربما يستفاد منها في مواجهة سقوط آخر ؟
و يجدر بالذكر أن أوروبا كانت ، قبل مجيئ الإسلام إلى أطرافها الجنوبية في الأندلس مثلا ، كانت محتلة بالشقاء و الفساد ماديا وروحيا ، وهذا ما وثقه أغلب مؤرخي القرون الوسطى في أوروبا ، غير أن الأمر بدأ يشهد تحولا ظاهرا منذ دخل إقليم الأندلس في الإسلام ، حيث بدأ هناك تشييد حضارة زاهرة زاهية و تأسست حياة اقتصادية منظمة ، و لعب المسلمون أدوارا ريادية في تطور الفن والعلم و الفلسفة و الشعر ، و كان رواد الفكر الأوروبي ، الذين ستختمر معهم عناصر النهضة ، تلامذة للعقلانية الرشدية التي تشربها هؤلاء ليدشنوا عصر الإصلاح الديني و الأنوار فيما بعد ..!
و أثناء دولة الإسلام في الأندلس ، فقد ساد الأمن و عمّت ظلال السكينة الجميع ، بما فيهم أهل الذمة . و يدوّن التاريخ موقفا مشرفا لفقهاء الأندلس الذين منعوا أحد الأقوياء من شراء أراض موقوفة على بعض كنائس أهل الذمة !
هذا الإزدهار الحضاري استمر لقرون مديدة ، كان يريد له الصليبيون أن ينتهي في كل وقت ، إلا أن نواياهم باءت بالفشل من حين لآخر ، حتى سقوط غرناطة ، الذي دشّن مرحلة انتصارهم النهائي في هذا المجال .. وهكذا يكون سقوط غرناطة نهاية الوجود العربي الإسلامي من جهة ، و بداية انتصار الصليبيين من جهة أخرى.
وقد يكون من المهم، قبل الاستطراد ، التذكير بداية أن غرناطة أو ( إغرناطة أو مدينة كورة البير) كما يوردها ابن الخطيب الأندلسي في كتابه الشهير الإحاطة في أخبار الأندلس ، هي إحدى المدن المهمة في التاريخ الإسلامي للأندلس ، وقد بلغ الإعجاب بالمؤرخين المسلمين إلى الدرجة التي جعلتهم يصفونها بأنها " قاعدة الدنيا ، و حاضرة السلطان ، وقبلة العدل و الإحسان " ويضيفون :" لا يضاهيها في اتساع عمارتها وطيب قرارتها وطن من الأوطان ، و لا يأتي على حصر أوصاف جمالها ، وعدّ أوصاف جلالها ، قلم البيان "..!
وقال فيها القاضي أبو بكر بن شبرين :
رعى الله غرناطة متبوأً ***** يسر كئيبا أو يجير طريدا
تبرّم منها صاحبي عندما رأى **** مسارحها بالبرد عدن جليدا
هي الثغر صان الله من أهلت به **** وما خير ثغر لايكون برُودا
و بعد أن ظلت منارة للمدنية و العلوم و المعارف و الصناعات المختلفة ، و بعد أن أنجبت علماء و فقهاء و شعراء و مؤرخين و غيرهم ، بعد كل ذلك النبوغ و التميز و الابداع الذي أسهمت فيه غرناطة مثلها مثل باقي أقاليم ذلك الفردوس المفقود ، بعد كل ذلك آل حكمها الى أسرة بني الأحمر ، الذين انشغلوا في صراعات عائلية على السلطة و الحكم ، و انغمسوا في الترف و الملذات و توابعهما ، وهذا جعلهم يهتمون بتوافه القضايا و يقصرون عن عظائمها ، و هي حماية الوطن و بيضة الدين و مصالح العباد ، و بالتالي واجهوا هزائم متتالية منكرة ، و أكمل آخرهم ، الملك الصغير ، أبو عبد الله محمد ، الذي سلّم مفاتيح غرناطة و كل ما يتعلق بها ، في وثيقة استسلام مذلة مهينة في سنة 897 هجرية = 1492 م للملكين الكاثوليكيين ( فرناندو الخامس و ازابيلا ) ، و يوجد نص الوثيقة في المتحف الاسباني الحالي . كما لا تزال بعض المدن في الاندلس تعتز برسومات رمزية للاستسلام التاريخي لأبو عبد الله الصغير ، الذي اشترى الهزيمة بالمال و ضيع ملكه و بكى عليه بكاء الأطفال ، مما استوجب ردا مؤثرا من أمه!
و حين سقط إقليم الاندلس نهائيا في أيدى الصليبيين ، قام الأخيرون بتخيير المسلمين بين اعتناق النصرانية أو الموت سحلا و قتلا ، بعد بطش شديد .
و لا شك أن سقوط غرناطة ، و الاندلس عموما ، لم يتم بين ليلة وضحاها ، بل تم كمحصلة لتضافر عوامل داخلية ( تخصّ أوضاع الاقليم و صراعات الحكم ، كما سبقت الاشارة ) ، و عوامل خارجية ( تحالف الممالك الكاثوليكية التي تطوّق الاقليم من شماله ، و عجز المسلمين بسبب الفرقة و الخلافات و الدويلات الطائفية المتناحرة عن نصرة أهل الأندلس و إعانتهم على الصمود و النصر ، كما فعل سابقا المرابطون في معركة الزلاقة التي كانت نجدة للاندلس كان من ثمنها استمراره دارا للاسلام أربعة قرون اضافية أخرى ، قبل السقوط النهائي !).
و بالتالي فإن هذه العوامل الداخلية و الخارجية هي التي تضافرت و أسهمت في سقوط غرناطة ، و ضياع الأندلس ، و تفكك المغرب العربي إلى دويلات طائفية بلا قوة ولا منعة ، بدليل كونها تكسّرت آحادا بعد ذلك حتى سهل على الاستعمار قضمها واحدة بعد الأخرى ..
وقد صدق العلامة ابن خلدون " رائد علم الاجتماع البشري" حين علل في سفره العظيم " ديوان العبر " عوامل نهوض و أفول الأمم و المدنيات ، و أرجع ذلك إلى سنن تحكم تاريخ البشر ، حيث ركز على فكرة " العصبية " كمحرك للتاريخ ، و اعتبر أن غلبة الرفاهية المادية على حساب الروحانيات يعمل على إحداث خلل يؤدي في النهاية إلى نكسة وتراجع الحضارة ، مذكرا بأن الإسلام قادر على خلق التوازن المطلوب في هذا الجانب .. و شرح العلامة ابن خلدون أن الظلم مؤذن بخراب العمران .
و باستلهام التحليل الخلدوني ، فيمكن القول إن غرناطة ، و الأندلس بشكل عام ، قد دخلت في المرحلة الثالثة ( مرحلة الحضر) التي تسود فيها الشهوات و الترف ، وبالتالي كان السقوط شبه محتم في مثل هذه الظروف داخليا و خارجيا .
إن التأمل و التفكر في ذكرى سقوط غرناطة بقدر ما يثير من الألم و الحسرة على ضياع جهود و تراث ثمانية قرون ، بقدر ما يحفز الأمل و ينبه الى خطورة عدم الاستفادة من الدروس التي سببها هذا السقوط ، وأهمها مخاطر غياب دولة الوحدة و استبدالها بدول التجزئة و التفرقة ، و مخاطر عدم تطبيق الشورى القرآنية في واقع المسلمين ، و مخاطر غياب الوعي و المسؤولية بشأن القضايا العامة .. وما لم تتم الاستفادة من هذه الدروس التي يقدمها سقوط غرناطة قديما ، أو سقوط بغداد حديثا ، أو سقوط أي صقع من أصقاع العروبة و الإسلام ، فإن صخرة السقوط ستستمر في التدحرج إلى اللحظة التي يأتي فيها جيل جديد يدرس و يقرأ ويتفكر ويتدبر و لايقصر جهده على التباكي فقط ، فمتي يولد ذلك الجيل ؟ اهـــ
0 التعليقات:
إرسال تعليق