لقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 -12- 1948 ما بات يعرف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تضمن حوالي ثلاثين مادة ابتدأت بالتأكيد على حقوق الإنسان والحرية المطلقة لجميع الناس وفي جميع المجالات الفردية والجماعية، و انتهت برفض تأويل أي نص من أي فرد أو جماعة أو دولة بانتهاك الحقوق و الحريات الأساسية الواردة في هذا الإعلان ..
و دون الوقوف عند مضامين هذا الإعلان من حيث إشادته بمبدأ الحرية و المساواة في الحقوق و الكرامة بين الناس ، ورفض التمييز بينهم على أي أسس ، سواء كانت على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غير ذلك ، و التأكيد على الحق في الحرية و الحياة و السلامة الشخصية لكل إنسان ، و رفض العبودية و تجارة الرقيق بكل أشكالها ، إلى غير ذلك من الحقوق الأساسية أو غير الأساسية التي وردت مطلقة و عامة ومجردة ، دون أية " ضمانات واقعية " أو أن يكون لها " ما صدق " بالمفهوم الفلسفي الشهير .. فمن الممكن وصف ذلك الإعلان بأنه لوحة " ليبرالية " بامتياز ، تتوكأ على ميراث الفكر الغربي الخارج من " جهالات " و " ظلمات " الإقطاع الكنسي التي ألجمت العقل و الروح الغربية قرونا طويلة ، فلم تكتف الإرادة السياسية بثورات الإصلاح الديني و الأنوار و الحداثة ، بل إنها طالبت بالحرية و الفردانية المطلقة للثأر من القيود و الأغلال على نحو يسهم في تغيير مجرى التاريخ كما تصوّره مفكرو المدنية الأوروبية التي بدأت تربط صلتها بالحداثة منذ القرن الخامس عشر و القرون التالية له .
غير أن ذلك " المثال " الإنساني اصطدم سريعا بـ" واقع " الصراع و التنافس المحموم الذي تغذّي على الإمبريالية و العهد الاستعماري و مناطق النفوذ بين هؤلاء " الأحرار " فنشبت بينهم الحروب المريرة التي كان لهم فيها ميراث " متأصل " من التجارب التي ابتدأت نماذج منها - مثلا لا حصرا - من حروب المائة سنة قديما إلى حروب الثلاثين سنة خلال الفترة 1618 و 1648 ، إلى حروب "عالمية" أولى و ثانية ( 1914 – 1919 ، 1937 – 1945) أجبروا سكان الأرض جميعا على المشاركة فيها بشكل أو بآخر و دفع كلفتها الباهظة بما يناهز ثمانين مليون نسمة أكثرُ من ثلثيهم من المدنيين العزّل!! .
و بعد إعادة ترتيب المسرح العالمي بين الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية و الأخرى التي ورثت مواقع الأولي بعد انتهاء العمليات الأساسية في الحرب العالمية الثانية ، من هنا أنشئت ما يسمي بــ" الأمم المتحدة " و ما تلاها من " إعلانات " و " مواثيق" قيل عنها إنها ذات صفة " دولية " غير أن حقيقتها البارزة هي أنها أعدّت في غفلة من الزمن ، و غياب شبه كامل لإسهام " دول العالم " .
و مثال ذلك الجلي هو " الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي هو أحد الأمثلة الحية على هذا الرأي المتواضع ، و بالتالي يكون من الجائز التساؤل عن صدقية إعلان عالمي لحقوق الإنسان في ظل كونه ليس أكثر من اعتباره :
1- ترجمة دقيقة ، كما أجملنا ، للرؤية الليبرالية الغربية لحقوق الإنسان بعد ذلك التاريخ " الدموي" الذي أشير إليه لماما أعلاه . وهي على أية حال رؤية لها بعض الإسهامات الإيجابية المهمة و عليها الكثير من الاستدراكات الجدية ، و ليست – قطعا - رؤية شمولية لجميع بني البشر.
2- في الفترة التي ولد فيها هذا الإعلان كانت أغلبية أعضاء الأمم المتحدة المستقبليين رازحة تحت نير الاستعمار المباشر من الجيوش و الأساطيل الأجنبية الغربية ، و بالتالي لم تكن طرفا في إعداد هذا الإعلان الذي لم يطرح حتى قضية الاستعمار المباشر الذي تعاني منه شعوب الجنوب ضمن أجندة حقوق الإنسان العالمية !
3- و في الوقت الذي لم يجفّ فيه حبر هذا الإعلان كانت فلسطين – مثلا – مسرحا مفتوحا لأفظع اعتداء على حقوق الإنسان " المنتهكة بقوة" قبل اعتماد الإعلان و رافقت مسيرته حتى الآن ، الشيء الذي أفقده و طعن في مصداقية " من وراءه " في رفع أو إظهار خطاب النوايا المتعلق بحقوق و حريات الإنسان ..
4 - كما أن تجربة مرور ما يناهز ستة عقود على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم تعزز هذه الحقوق ، و خصوصا من رعاة هذه الحقوق و رافعي شعارها ، حيث أشعلوا الحروب الامبريالية المباشرة و غير المباشرة ( الكورية ، الفيتنامية ، و اليوغوسلافية ، حروب الخليج الأولى و الأخيرة و في أفغانستان ،،،الخ) ، و دبروا الاغتيالات السياسية للزعماء و المناضلين و مخالفي الرأي عبر العالم ، و بذلك ضربوا السلم و الأمن و السكينة في مقتل ، و استخدموا أسلحة أخرى أمضى فتكا كالإعلام و ذلك في تشويه الحقائق و قلبها لتدمير الخصوم معنويا قبل الإجهاز عليهم ماديا بأساليب أخرى منها الحصار الاقتصادي و التجويع و ربط التعاون بالشروط المنتهكة للسيادة و القانون و الأخلاق ، و اعتدوا على الوسط البيئي الذي يعيش فيه و عليه الإنسان و ثقبوا الأوزون و خلقوا الاحتباس الحراري المهدد للحياة في صميمها ، و سخّروا العلم في خدمة الحرب و القتل و نشر الشر و الخوف و الإرهاب في حياة الإنسان كل ذلك مقابل جني الأرباح و تعظيم الإيرادات لحفنة من الرأسماليين الجشعين و حلفائهم من السياسيين الانتهازيين...!
بل إن سياق الأحداث في عالم " الاعلان العالمي لحقوق الانسان" أثبت بكثير من الشواهد أن ذلك الإعلان لم يكن إلا إحدى الوسائل التي أراد بها الغرب الحفاظ على مصالحه ، حيث يتم إشهار هذا الشعار تبعا لاتجاهات إحداثيات تلك المصالح النفعية المتجددة ، و يتم إخفاؤه و تجاهله ، أيضا ، في مواقف أخرى حين تتطلب المصلحة ذلك ..
و هكذا فإن الإنسان ليس هو الإنسان في عمومه و إطلاقه ، بل هو إنسان " الليبرالية" و " العولمة " و " الحداثة "..و هلمجرا.. إنسان فلسطين ليس مثل إنسان الكيان الصهيوني ( فهذا سوبر إنسان)..و إنسان البوسنة ليس مثل إنسان كوبا ..و إنسان البحرين ليس مثل إنسان كردستان ..و إنسان الغابات و الصحاري الافريقية ليس مثل إنسان الغابات الاسمنتية في سان فرانسيسكو ..
و بإسم حقوق الانسان تندلع الحروب و الكراهية و العنصرية و العنف الأهوج ، و بإسم نفس الحقوق تصنف العوالم و الأنظمة و الجماعات ، و بإسم ذات الحقوق تنتهك قيم و ثقافات و تستباح سيادات شعوب و تفكك أوصال أوطان مقسومة على أكثر من واحد صحيح ..!
لقد تميعت حقوق الانسان الى درجة عجيبة ، الكل يدّعي وصلها و حفظها و حمايتها و يزايد على غيره لتنزيلها في دنيا الواقع ، و الكل يمارس الانتقائية حيالها .. و هكذا ضاعت الحقوق بين هؤلاء و أولئك .. وبات الإنسان حائرا لا يدري كيف ينال حقوقه " الافتراضية" المدّعاة ..!
و حين يظهر نموذج من " الإنسان" يتوق من أجل أن يعيش هذه الحقوق ، فإن الأنظمة و الجماعات المسيطرة شرقا و غربا و شمالا و جنوبا لا تقبل بذلك تحت أي ذريعة ، و ها نحن نعيش " الفوضي الخلاقة" في فضاءات بعض دول الجنوب التي بشر بها المحافظون الجدد منذ سنوات ، غير أن ذلك لم يغطي سوأة الليبرالية المتوحشة و الرأسمالية النهابة لثروات الشعوب و مواردها ، فهاهي الأزمات تضرب عقر دول الشمال " المتقدم" ، حيث ضاقت الجماهير ذرعا بهضم حقوقها ، و هاهي في حركات احتجاجية شعبية عارمة في رمز التوحش المعاصر " شارع وول ستريت " تؤسس تجمعاتها المناهضة للرأسمالية و نظامها المتأزم بامتياز ..و كذلك الحال في اسبانيا و ايطاليا و بريطانيا و في اليونان منذ أشهر .. و الحبل على الجرار!!
إن الإنصاف و الموضوعية يقتضيان القول إن الإعلان العالمي لحقوق الانسان قد أعدّ على عجل ومن دول الحلفاء التي كانت تنتشي " مزهوة " بالانتصار على دول المحور المدحورة ، و ذلك في غياب شبه مطلق لأزيد من تسعين في المائة من مجموع دول العالم الحالية ، و لذلك ليس للإعلان من العالمية إلا اسمه و رسمه فقط ، لأن الإعلان العالمي الصحيح لحقوق الإنسان هو الذي يأخذ بدور كل الأمم و الشعوب و الثقافات المختلفة في صياغته و توصيفه و السهر عليه جماعيا من الانتهاك و العدوان و تطويره باستمرار ، و خلاف ذلك فستظل "حقوق الإنسان " أكبر كذبة في التاريخ المعاصر ينطبق عليها مضمون شعر المتنبي حين يخاطب سيف الدولة الحمداني :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي ***** فيك الخصام و أنت الخصم و الحكم
0 التعليقات:
إرسال تعليق