رحل عن عالمنا منذ الأمس أبو الدولة الموريتانية بعد أن حوّل ميراثا من الفوضي والسيبة إلى كيان مستقل يسمي:" الجمهورية الإسلامية الموريتانية"..أعلنها يوم 28/ نوفمبر/ 1960 تحت فناء خيمةٍ على ضفاف المحيط الأطلسي .. وخاض من أجل تثبيت ذلك الإعلان معاركا تلو المعارك ، وكذلك لترسيخ دعائم هذا الكيان الوليد الذي كانت تنهشه الأطماع والرمال والضياع من كل حدب وصوب .. وسافر إلى الأمم المتحدة ليسجل شهادة ميلاد ذلك الوليد رغم شح الموارد وفقر الإمكانيات لديه.. واستطاع بصبر وحكمة وأناةٍ أن يتجاوز بالوليد مشكلات مراحل الطفولة السياسية الأولي بشجاعة شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء .. وانثني إلى الداخل ليلملم شمل شعبه وقد تنائي به النأيُ والسنون داخل متاهات الجوار .. وهو ما حوّل بسرعة النجوع المرتحلة إلى قري ومدن ثابتة مكينةٍ رمزًا للعزة والصلابة .. وانتصرت معاركه الداخلية رغم ما حاصرها من نكبات و انكسارات وظروف غير مؤاتية البتة.. ولكونه ذا بصيرة استراتيجية فذة ، فإنه تطلع إلي إدراك الدور المميز الذي تفرضه أطروحات التاريخ وإحداثيات الجغرافيا ، فربط موريتانيا بعمقها الإفريقي وبحقيقتها العربية والإسلامية .. ليس ذلك فقط بل إنه برع في القيام بأدوارٍ سياسية كبيرة سجلها في منعطفات تاريخية حاسمة ، وهو ما عجزت عنه دول عديدة رغم ما تملكه من أسباب الإمكانيات المادية والمعنوية.
فعلى سبيل التذكير فقط ، فقد أنجز – صحبة جيل العمالقة : جمال عبد الناصر ، وباتريس لوممبا ، وكوامي نكروما ، وجوليوس نيريري ، وشيخو توري.. الخ- دعائم التضامن والتعاون الإفريقي- الإفريقي ، والإفريقي - العربي .. الأول كان من ثمرته تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية لتتصدّي لمهمات تصفية بقايا الاستعمار التقليدي والعنصرية من معاقلها في القارة السمراء.. والثاني كان من أسباب المساهمة في خلق الدعم الإفريقي الظهير للقضايا العربية ، وفي الركيزة منها القضية الفلسطينية ، وكان من حصاد ذلك محاصرة الصهيونية عالميا ، وتحصين القارة السمراء من مكائدهم ودسائسهم وخبثهم ........... وحين حدث العدوان الصهيو أمريكي على مصر القاعدة والدور في 5 حزيران 1967 قطعت موريتانيا علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة التي هي رأس الحربة الحقيقي في الصراع بين العرب والصهاينة.... الخ
وذلك مجرد غيض من فيض الأمثلة العديدة على الأدوار الطليعية البارزة التي لعبتها موريتانيا في عهد الرئيس المختار ولد داداه .. إفريقيا وعربيا وعالميا.. وهو ما منحها عظيم الصدى وخلّف لها كبير الأثر والذكر في أنحاء مختلفة من العالم توقيرًا واحترامًا واعتزازًا، الشيء الذي ربط موريتانيا بالرئيس المختار ولد داداه حتى يومنا هذا ربطًا قلما توفّر بين الدول وحكامها ، إلا ما كان منهم في وزن الأشخاص التاريخيين العظام ، ومن بين هؤلاء بحق كان الأستاذ المختار ولد داداه..
ولأنه بالفعل أحد من يصنفون ضمن حكماء القارة السمراء فلهذا كان من شهود ميلاد الاتحاد الإفريقي في مدينة سرت الليبية 9/9/99 مثلما كان من شهود أغلب الأحداث التاريخية الفاصلة في حياة القارة الإفريقية خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم.... وحين شرفنا باللقاء والحوار شبابًا وطلابًا موريتانيين على هامش القمة الاستثنائية كان يتذكّر بافتخارٍ رفقاء دربه النضالي ، وينتشي فرحًا أنه ينتمي إلي جيل ذلك الرعيل الإفريقي الذي خلّف بصماته الذهبية على حاضر إفريقيا ومستقبلها..
... وبعدُ ، فإن الكلمات تجد نفسها أخرسَ عن تأبين الأستاذ الراحل.. وربما كان الصمت أكثر بلاغة ً وبياناً من كل قواميس الدنيا ومعاجمها.. فلا نملك إلا الإقرار بالعجز والتقصير عن أن نوفيه حقه ومستحقه كأبٍ وأستاذٍ ومناضلٍ... ظل ثابتًا كشجرة السنديان على مواقفه غير حائدٍ عنها قيد أنملةٍ رغم الأعاصير التي تعصف بالكون في كل لحظة!.
ومع أن الخطْبَ جللٌ على الصعيد الإنساني الضيق لأسرته الموريتانية ، فإن الخطب أكثر جللاً على صعيد أسرته الإفريقية الكبيرة حين ثكلت في أحد عظمائها البررة الذي قضوا ، وهم على الإيمان الذي لا يتزعزع بوحدتها وتقدمها وازدهارها رغم اليأس المطبق بها ليلاً ونهاراً..
ولئن رحلت عن عالمنا جسداً يا أستاذ..فإنك ستبقي حيا بين ظهرانينا .. قيما شاهدةً .. ومبادئ رائدةً .. ومثلا خالدةً .. لن نحيد عنها حتى نلقي إحدى الحسنين : النصر أو الشهادة..
وسبحان من له البقاء والدوام .. جلّ شأنه .. وإنا لله وإنا إليه راجعون
* مرثية للكاتب في وفاة الرئيس الموريتاني الأسبق و أبو الأمة الاستاذ / المختار ولد داداه ...وقد انتقل إلى جوار ربه في مساء الثلاثاء 15 اكتوبر 2003 في مستشفي فال دي غراس - في باريس - فرنسا .. نسأل الله العلي القدير أن يلحقه بالصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقا .. وأن يلهمنا جميعا الصبر و السلوان..
0 التعليقات:
إرسال تعليق