بقلم – أحمد ولد نافع
باحث و أستاذ جامعي
إن الانتفاضات الشعبية التي عاشتها و تعيشها بعض الساحات العربية في تونس و مصر ، مثلا ، جاءت لتؤكد حقيقة باتت مستقرة على نحو جلي منذ العقد الأخير من الحرب الباردة حين تمت الدعوة و التوكيد على ضرورة الانتباه إلى عصر الشعوب الزاحف حثيثا ليضع حدّا للصراع على السلطة في التاريخ الإنساني . حيث تستولي الشعوب على سلطانها ، و مواردها ، الذي سلب منها قرونا طويلة تحت طائلة عدم رشدها و نضجها ومسؤوليتها و حاجتها الملحة إلى " وصي دائم" (رئيس ، أو ملك ،أو أمير ، أو حزب ، أو نخبة سياسية...الخ) ليقوم بتدبير شؤونها من خلال أنظمة ملكية أو أميرية أو رئاسية أو برلمانية أو غير ذلك !
غير أن مثل تلك الأطروحات الفكرية و السياسية ، كانت لغوا من القول ، في ظل أجواء عالم تتصارعه أفكار المعسكرين "الشرقي" ( الماركسية اللينينية) و " الغربي" (الرأسمالي)، و بالتالي لم يتم توثيقها و منحها العناية التي تستحق من المفكرين و السياسيين ، ربما لكونها تجهز على الأفكار التقليدية التي يتصورونها " تقدمية " و " حداثية " و لا سبيل إلى التشكيك فيها و زعزعة الإيمان بها على أي نحو !
ومع استمرار احتكار السلطة و الاستئثار بها نهائيا ، و تغييب الشعوب ، و التلاعب بثرواتها ، و حرمانها الحرية في إدارة شؤونها ، وعدم شعورها و تمتعها بحقوقها الإنسانية في المأكل و المشرب و المسكن و غير ذلك من الحاجات المختلفة ، كلها " بذور" لتقويض هذا الاحتكار و " إنهائه" ، و الانتقال إلى مرحلة ما بعد الجمهورية ، وهي أحد منتجات الثورة الفرنسية الشهيرة ، التي لم ترى منها الجماهير ، في أنحاء البسيطة ، إلا التسلط و الطغيان و القمع و الترهيب و التفقير و التجهيل برغم " الخطط " و " السياسات" و " المجالس البرلمانية" , و كافة الأطر " التمثيلية" الجوفاء.
و بالتالي كان لزاما أن تصل هذه "الجمهوريات" إلى طريق مسدود ، ولو بعد حين ، و تخرج الجماهير الشعبية ، في النهاية ، لتضع حدا للاستبداد و الدكتاتورية و الاستئثار عنها بالسلطة و الثروة و كل مظاهر القوة التي آلت حيازتها إلى جزء من الشعب دون أغلبيته الغالبة .
و حين انفرط عقد أنظمة هذه الجمهوريات ( تونس، مصر ، مثلا) و انفلتت الأوضاع الأمنية ، فإن الشعوب اهتدت بطبيعتها إلى آليات "شعبية" ذاتية من أجل ضمان أمنها و تسيير أمورها الجارية ، مما يعني أن الدعاوي بعدم قدرة هذه الشعوب على تسيير أمرها هي كلام فارغ أطلقه الحذاق و الأذكياء من أجل استمرار " حكم الشعوب" دون رغبتها و عكسا لمصالحها بالضرورة .
ولكن بدلا من ترك هذه الشعوب تكمل مسيرة ممارسة سلطتها التي حرمتها وبطريقة سليمة وسلمية عاقلة، فإن أولئك السياسيين الإنتهازيين ، يلتفون - كعادتهم - على هذه الإرادات الشعبية التي تهفو للتغيير الحقيقي الصحيح ، و يعيدونها إلى نفس الحلقة المفرغة من جديد ، وهي الحلقة التي دفعت ، و تدفع ، بهم لا محالة الى الثورة من جديد لاستلام سلطانهم المفقود منهم على مر التاريخ . و هذا ما يجعل المرء يدرك ببساطة أن الثورات الشعبية عمل تقدميّ بامتياز ، لكنها معرّضة للإجهاض ما لم تنتقل معها الشعوب – نهائيا- إلى مرحلة ما بعد الجمهورية .
و يجدر بالذكر ، في هذا الصدد ، أن العديد من الدراسات ، خصوصا في الدول الغربية ، التي تصدّت لدراسة ظاهرة الانتفاضات الشعبية ، توصلت إلى أنها – أي الثورات – ليست وسيلة دائمة مضمونة للحرية و التخلص من الدكتاتورية و التسلطية .
فقد أشارت ، مثلا ، بعض الدراسات الأمريكية ( مجموعة بيت الحرية لحقوق الانسان : فريدوم هاوس ) إلى أنه من بين 67 دولة حدثت فيها ما وصف أنه "ثورات شعبية" على ما اعتبر " أحكاما استبدادية" ، فإن 35 دولة انتقلت إلى " الحرية! = النظام البرلماني التعددي حزبيا " ، و 23 انتقلت "جزئيا" الى ذلك النظام ، بينما ظلت تسعة دول فاقدة لذلك الانتقال ، و تدهورت أوضاعها الى ما يشبه الدولة الفاشلة ( مثل : تفشي ظواهر جديدة كالتسول و الفقر المدقع و الجريمة و التفاوت الاجتماعي الرهيب ، و الفساد المالي في فترة " الحرية!" مع أنها لم تكن مألوفة في فترة " الاستبدادية !").
فلو كانت الأنظمة السائدة ، في الدول التي أعلنت الحرب على العراق و أفغانستان ، أنظمة " شعبية " بمعني أن السلطان فيها من الشعب للشعب و بالشعب ، هل كانت ستقبل شن هذه الحرب الغبية و المتخلفة إنسانيا و أخلاقيا و تمولها و تشرف عليها ، بالتأكيد فإن الإجابة ستكون لا النافية ، و الدليل عليها أن الشوارع الأمريكية و الأوروبية ظلت – طيلة فترات الحرب - تموج بالمظاهرات المترجمة لرفض الرأي العام في هذه الدول للحرب ، ومع ذلك ، لا أحد يلقي لها بالا ، و قامت الحرب رغما عن إرادة الشعوب التي تدّعي أنظمتها " كاذبة" أنها تمثلها ، و أنها أنظمة "ديمقراطية" و تقاتل من أجل نشرها بالقوة في العالم!!
بينما تبيّن الوقائع أن الفئات و الأحزاب المحتكرة للسلطة و الثروة في هذه الدول " المتقدمة " - كما ترى نفسها!- هي التي تغيّب شعوب تلك البلدان و تسرق سلطانهم و تبدد ثرواتهم و تتصرف من منظور مصالحها الخاصة الضيقة التي تختصر مصالح الأوطان فيها..و لا تقيم أدنى وزن للشعوب إلا باعتبارها " صعاليك" حرة فقط في إضفاء شرعية زائفة على ما تقوم به تلك الجهات المسيطرة . و غني عن القول في هذا الصدد أن تراجع نسب المشاركة في الحياة العامة ، و تدني الوعي السياسي بالشؤون العامة محليا أو دوليا مؤشر يؤكد على أن أوضاع تلك البلدان المزعومة " متقدمة" لا زالت غير بعيدة عن أوضاع بلدان توسم بأنها" متخلفة" ، و يذكر في هذا الصدد المناظرات التي أجريت مع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن مع منافسه "آل غور"، و التي أبان فيها عن جهل كبير بأوضاع العالم سياسيا و اقتصاديا على نحو مشين ، ومع ذلك نجح في الوصول الى الرئاسة ، وقد علقت والدته علي ذلك قائلة إنها لم تمت حتى رأت أغبي أولادها وقد أصبح رئيسا!
لقد حدثت ثورات شعبية جماهيرية كثيرة في التاريخ البعيد و القريب ، و لكن خابت تلك الثورات في خواتيمها دون مسعاها و آلت الى تكريس دول شمولية من أغرب ما يكون ( مثل الثورة على القيصرية في روسيا في 1917 ) . و في مصر في العصر الحديث كانت تقريبا أول ثورة شعبية هي في عام 1919 ، و لكنها لم تؤدي في نتائجها الى تغيير ملموس في الاوضاع المصرية ، حيث ظلت الملكية الفاسدة معربدة و استمرت القواعد العسكرية تدنس أرض الكنانة حتى ثورة يوليو 1952 التي "أنهت" الملكية إلى الأبد ، و " طردت" القاعدة البريطانية ( و قوامها ستون ألف جندي) ، و وضعت مصر في دائرة أحداث أمتها دولة قائدة و رائدة و قاعدة للعروبة و الاسلام، و أشرفت على تحرير الشعوب العربية من الاستعمار التقليدي ، و طرحت هذه الثورة على المسرح العالمي قضية فلسطين و دفعت كلفة باهظة في ذلك ( العدوان الثلاثي 1956 ، و نكسة حزيران يونيو 1967 ) ، غير أن " ميراث" هذه الثورة آل إلى مسار مختلف بدرجة مناقضة لروح ثورة يوليو ، حتى " تقزمت" مصر على نفسها ، و اختفي دورها الجيو استراتيجي ، و باتت " حارسة" لأمن و حدود العدو الصهيوني الغاصب ، و انهارت أوضاعها الداخلية على نحو مكارثي رهيب وصل درجة الانفجار في 25 يناير من العام الجاري ، و كان لا بد أن يحدث ما حدث ، حين طفح الكيل في مصر و بها ، فهل ستكون ثورة الشباب المصري الحالية ثورة حقيقية ، ذلك ما يبغي و يتمنى كل عربي أبيّ.
و من أجل ألا تسرق الثورات العربية ، سواء في تونس الخضراء أو في مصر المحروسة ، فإن إخواننا المصريين و التونسيين يجب ألا يرضوا أبدا بالتنازل عن سلطانهم ، ويجب ألا يقبلوا - تحت أية ذريعة - تقييد إراداتهم ، و لا يوافقوا – مهما كانت الظروف - على تفويض سيادتهم ، لأن دروس التاريخ تقرؤنا أن الإجتماع البشري لا يتجزأ سلطانا و إرادة وسيادة .
بذلك يثبتون أنهم فعلا يدقون عصرهم ، الذي أذن به ذات يوم مؤذن عصر الجماهير منذ أزيد من ثلاثين عاما ، حين قال إن جيل الغضب " الشباب" هو الذي ستكون له الكلمة الأخيرة ، وقد كان ! اهــ
0 التعليقات:
إرسال تعليق