" خي بابا شياخ و آثاره الأدبية " تأليف الدكتور محمد سعيد القشاط - طرابلس - 2007 .
عرض أحمد ولد نافع
يقدم هذا الكتاب ، كما يظهر من عنوانه ، نبذة مختصرة عن موضوعه عن " خيّ بابا شياخ وآثاره الأدبية " ، في نوع نادر من الوفاء بين الأدباء والكتاب ، حيث يحاول هذا الكتاب الصغير نسبيا حوالي 150 صفحة تقريبا والصادر في نهاية 2007 في طرابلس - الجماهيرية ، أن يقدم مجموعة من البحوث والأعمال التي كتبها " خي بابا شياخ" بخط يده ، وتوجد نسخ أصلية أو مصورة منها لدى صديقه سعادة السفير الليبي الحالي في السعودية ، الدكتور محمد سعيد القشاط ، الذي أراد لها أن تخرج من عتمات النسيان إلى أنوار القراءة لكي تتاح للباحثين والمهتمين دراسة و بحثا وتنقيبا .
ولم يشأ القشاط أن يدفع بالبحوث التي كتبها " خي بابا شياخ" مباشرة إلى المطبعة ، بل إنه قام بعمل تقديمين لها ، الأول منه ، والثاني من السفير السابق و المثقف الموريتاني المشهور محمد محمود ولد ودادي ، وهو أيضا صديق سابق لـ" خي بابا شياخ" ومديره حين كان الأخير مقدما لبرامج في الإذاعة الموريتانية التي كان الأول يديرها في بداية تأسيسها في ستينيات القرن الماضي ॥ويبدو أن علاقات " خي" و " القشاط " ترجع إلى سنة 1972 في زيارة الأخير لموريتانيا ، وامتدت ستة سنوات حتى وفاة الأول في ابريل سنة 1978 في مستشفي ابن سينا في الرباط ॥ غير أنها تعززت أثناء مقام " خيّ " في طرابلس في بداية السبعينيات كصحفي و كاتب في الصحف والمجلات الليبية ، و سافرا معا في رحلات الى دول مختلفة في غرب افريقيا ॥ و هو ما أتاح للقشاط أن يعرف عن قرب مرافقه ويدرك أنه " موسوعة ثقافية متحركة" ( ص 9)।أما علاقات " ولد ودادي " بــ " بابا شياخ" فهي أطول نسبيا حيث امتدت حتى فترة قليلة من رحيل الأخير ॥( ص 42) ، وقد حاول " ولد ودادي" أن يصف الأجواء السياسية التي ظهر فيها " خي بابا شياخ" في موريتانيا ، قادما من " أزواد" من خلال الحوض الشرقي الموريتاني ، وبداياته الأولى في مجتمع انواكشوط ، العاصمة السياسية الوليدة في كل شيء ، وبالتالي دخول الصوت الجهوري الجديد أسماع " ساكني انواكشوط" عبر الإذاعة الناشئة وقتئذ وتأففهم منه من البداية لحداثته بالعمل المهني الإعلامي وكسره للرتابة اللغوية التي تعود عليها هؤلاء من محاضرهم التقليدية ، حيث الصرامة في احترام قواعد اللغة العربية وعدم استساغة إظهار همزة الوصل في غير محلها ، أو رفع منصوب ، أو نصب مرفوع ، أو رفع مجرور... إلى غير ذلك من الأخطاء القواعدية التي تعتبر في عرف الموريتانيين من الموبقات ! ( ص 27)।غير أن " بابا شياخ" لم يستسلم فيما يبدو ، بل انتقل نقلة نوعية حين استعان بمدرسي النحو واللغة و العروض ، الشيء الذي جعله يحظى بتقدير واحترام مستمعيه الذين بدأوا يفطنون لتوقد ذكائه ونباهته وبديهيته اللامعة ، وسخريته اللاذعة ، وقدرته الأسطورية على التقليد للزعماء والشخصيات ॥بشكل ملفت يدعو للإعجاب( ص 31) !!إن اهتمام " خي بابا شياخ" بالأدب والثقافة والموسيقي ليس وليدا من فراغ ، بل إنه سليل أسرتين فنيتين لهما قدم تاريخي راسخ في ذلك هما : أهل ايده ، و أهل اسويد بوه ॥ وهما اسرتان عرفتا في حاضرة تنبكتو وهي وسط مؤات للتداول المعرفي والثقافي منذ قرون سحيقة ..( ص 37)..ولم يجد الشاب اليافع " بابا شياخ " في نهاية الخمسينيات ، وبعد رحلة قادته إلى الكثير من الدول الإفريقية القابعة تحت الاستعمارين الفرنسي والانجليزي ، غضاضة من السفر إلى موريتانيا ، حيث الأهل والأحبة ، إذ أن الشعوب العربية والطارقية في أزواد تشكل مع أترابها في موريتانيا و الساقية الحمراء ذرية بعضها من بعض ، و هو ما أشار إليه الرئيس الموريتاني الاسبق ، المختار ولد داداه ، حتى قبل استقلال موريتانيا وتحديدا في سنة 1957 ، بقوله :" إنهما جناحا موريتانيا التي لايمكن أن تحلق بدونهما.." ( ص 40)।و بعد ذلك تأتي الكتابات التي كتبها " خي بابا شياخ" ، وهي سبعة كتابات أو مقالات : " أزواد" ( ص ص 43-68) ، و " الشيخ سيديا الكبير و آل داداه "( ص ص 69 -82) ، و " الأحزاب السياسية في افريقيا الغربية " ( ص ص 83-112) ، و " الأحزاب في مالي " ( ص ص 113-124) ، و " الأحزاب السياسية في تشاد 1947-1960" ( ص ص 125-132) ، و " في التعاون النقدي بين فرنسا ومستعمراتها الافريقية سابقا " ( ص ص 133-140) ، و " أحمد بابا مسكة " ( ص ص 141 – 151) ।وقد استعرض " بابا شياخ " الحياة الثقافية والاجتماعية لساكنة أزواد ، وتكونها من العرب والطوارق ، العرب ويتألفون من البرابيش ( أولاد سليمان ، أولاد عمران ، أولاد يعيش ، أولاد ادريس ، أولاد بوهندة ، أولاد غنام ، أولاد بوخصيب ، أولاد غيلان ، القوانين ، السكاكنه ، ياداس ، رقان ، النواجي ، أهل أروان ) ، وكنته ويتزعمهم الشيخ سيدي المختار الكنتي الولي الصالح الذي ظل قادرا على حل الخلافات التي تستعر دائما ، كعادة سكان البادية والصحراء ، بين القبائل العربية والطارقية ( ص 49) ، وذلك ما أعطى لقبيلة كنته مكانة اجتماعية ودينية في تلك الربوع من الصحراء الكبرى ।أما الطوارق ( إمقشرن) وهم سكان أزواد الأصليين ، كما ذكر المؤرخون كالقلقشندي في " صبح الأعشي" ، وغيره ، ويتمتعون بأنفة كبيرة و إحساس بالتفوق يجعلهم يرفضون المصاهرة من العرب !( ص 51) .. بالرغم من أن بعض القبائل العربية اندمج مع اتحادية الطوارق القبلية مثل " أهل السوق" ، وهم من برقة الليبية ، وقد حرصوا على التخاطب فيما بينهم بالفصحي ، ومع غيرهم باللهجة الطارقية ، وذلك ما لاحظه المؤلف بنفسه ( ص 52).
وأسهب المؤلف في شرح ملابسات الخلافات والصدامات الناشبة بين الطوارق في شما ل مالي والدولة المالية والمعاناة التي تعرضوا لها طيلة سنوات بداية حكم " موديبو كيتا" ، ثم " موسى تراوري" بعد ذلك !
وأشار المؤلف في سياق بحثه عن " الشيخ سيديا الكبير" إلى أن ابنه الشيخ سيد الصغير ( المعروف بـ : بابا) كان عونا للفرنسيين في إحكام سيطرتهم على اترارزة ، وهو ما سهّل احتلال باقي المناطق في أنحاء موريتانيا ، وقد أشار الى ما كتبه بابا ولد الشيخ سيديا بنفسه في مجلة العالم الاسلامي التي كان يحررها المستشرق لويس ماسينيون ، حيث يمدح فرنسا ويرجو من الله لها البقاء ، وقد كافأت السلطات الفرنسية للشيخ بابا بتسهيلات وامتيازات كبيرة أقلها إعفاؤه من الضرائب الباهظة و السماح له ، ولمن يريد بالسفر الى حيث يشاء ، ووظفت المتفرنسين من أهله ، وعدم قبول أي أحد إلا بتزكيته ، واعطائه أموال ضخمة سنويا ( ص 72) وقد قدم الشيخ للفرنسيين إثنين من اتباعه هما المختار و شيخنا أبناء داداه للخدمة كجنود في الجيش الاستعماري الفرنسي ، وقد شارك الأخير في الحملة التي قتل فيها الأمير العربي المجاهد بكار ولد اسويد احمد وهو في السابعة والتسعين من عمره في وقعة بوقادوم عند " راس الفيل" في منطقة العصابة في وسط موريتانيا يوم 2/4/1902 ( ص 73) .. أما الأول ، فقد أبلغ عن المجاهدين الذين قادهم الشريف سيدي ولد مولاي الزين لقتل الحاكم الفرنسي " كزافي كبولاني" في معسكره ليلا في 12/5/1905 في مدينة تجكجة الموريتانية ..( ص 74) كما تعرض لظروف و ملابسات نشأة الاحزاب السياسية الافريقية في نهايات أيام الاستعمار ، وربطها بظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية ، ومنها الحزب الدمقراطي الافريقي الكبير ، الذي أسسه الطبيب العاجي " هوفوتبوني" في باماكو ( مالي ) في سنة 1946 ، بمعية الامين غي وسنغور ( السنغال) ، و فيلي دابو سيسقو ( مالي ) ، يسي جالو ( غينيا) ، تشيكايا وجبريل دار بوسيه( افريقيا الاستوائية) وكان هدف الحزب الرئيسي هو تحرير افريقيا من نير الاستعمار ( ص 91) .
ومع أن أحمد شيخو توري ( الرئيس الغيني الاسبق) كان ماركسي الهوي إلا أنه ناصر القضايا العربية ( قضية فلسطين) ، وقطع العلاقات مع اسرائيل فورا بالرغم من أنها كانت بصدد تمويل وإنشاء مشروع كبير في غينيا ، فطـُـلِبَ من الاسرائيليين المغادرة النهائية و حمل معداتهم معهم !( ص 104) .
وناقش " خي بابا" تاريخ نشأة الأحزاب الرئيسية في مالي ( حزب الاتحاد السوداني) ويقوده ممادو كوناتي وموديبو كيتا ، و حزب الاتحاد التقدمي السوداني ويقوده فيلي دابو سيسقو .. وقد أطاح الجيش المالي بالرئيس موديبو كيتا في سنة 1968 بقيادة الضابط موسى تراوري ..كما تعرض لظروف نشأة الأحزاب في تشاد ، وأول حزب هو حزب التقدم التشادي الذي أيدته القبائل الوثنية الجنوبية التي ينتمي اليها " فرانسوا تومبولباي" أول رئيس وزراء لتشاد ، وتزعمه في البداية جبريل ليزيت الذي انتخب عمدة لمدينة " فور لامي" ( انجامينا)( ص 128).
كما ناقش " بابا شيخ" أوضاع التعاون النقدي بين فرنسا ومستعمراتها " ، رابطا إياه بتنامي الوعي لدى الأفارقة أن المصرف المركزي للاتحاد النقدي لدول غرب افريقيا لا يزال مقره خارج القارة في باريس ، وأنه بذلك محدود التأثير على ايقاع التنمية في هذه الدول لخضوعه لاشراف وتسيير الفرنسيين المباشر، وهذا ما دفعهم الى رفض استمراره ..وبعد أن اعتبر التعامل النقدي بين فرنسا و مستعمراتها بحاجة إلى " النقد" ، خلُص على نحو غريب إلى أن العودة إلى نظام المقايضة واعتماد " الودَع " أجدي للأفارقة مع الاكتفاء الذاتي والسيادة ، وذلك بدلا من الفرنك الفرنسي الذي يقود بالضرورة إلى التبعية ويعزز الحاجة الدائمة إلى الأجنبي ( ص 139).
كما خصّ " بابا شياخ " ، الصحفي والسياسي الموريتاني البارز أحمد بابا ولد أحمد مسكه ( الذي يعمل حاليا مستشارا رئيسيا للرئيس الموريتاني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله) ، بدراسةٍ تتبع فيها بزوغه المبكر كمؤسس لحزب النهضة الموريتاني ، قبل استقلال موريتاينا وبمعية السياسي المشهور " بوياقي ولد عابدين" الذي ظل منفيا لمناكفته الاستعمار الفرنسي عشرين سنة في أزواد بشمال مالي ، ثم مدير عام للإذاعة والصحافة في الدولة الموريتانية الوليدة ، ومساهما كبيرا في اندماج حزبه وباقي الأحزاب الموريتانية في " حزب الشعب الموريتاني " الذي ترأسه الرئيس الأسبق المختار ولد داداه حتى الانقلاب عليه في 10 يوليو 1978 ، ثم تدرّج أحمد بابا ولد أحمد مسكة سريعا في المجد الوظيفي ، حيث عيّن سفيرا لموريتانيا في ساحل العاج و الأمم المتحدة ، وبعد ذلك دخل السجن السياسي مع وزراء آخرين عقب أحداث 1966 ، وأطلق سراحه بعد ذلك فعمل في معهد افريقيا السوداء في دكار ، واستاذا جامعيا في فرنسا ، وكاتبا صحفيا في مجلة جون آفريك الأسبوعية الباريسية ، ومؤسسا لمجلة إفريقيا آسيا ..( ص 149) .وحين أراد " بابا شياخ " أن يقيم هذه المسيرة المتقلبة للأستاذ / أحمد بابا ولد أحمد مسكة قال إن من الطبائع الغريبة لبني آدم أنهم يغفرون للكافر كفره و يقبلون للزنديق توبته ، لكنهم لا يقبلون للسياسي عثرته !! ( ص 150) .
ومن خلال السياحة مع هذه المعالجات يتضح أن صاحبها " خي بابا شياخ" امتلك ثراء معرفيا كبيرا ومتنوعا ، وربما ساعده على ذلك دراساته الدؤوبة وإطلاعه الكبير على أمهات المصادر والمراجع ، وما سهل له المهمة هو إتقانه إلى جانب لغته الأم العربية اللغات اللاتينية ( الفرنسية والانجليزية) ( ص 34) .غير أن هذا الكمّ الهائل من المعلومات ، يبدو مشتتا ، وبعيدا عن المنهجية البحثية العلمية ، وقد يرجع ذلك إلى عدم دخول " بابا شياخ " للتعليم النظامي المدرسي ، واتضح ذلك في غيابه تأصيل المعلومات التي يبدو أنه اطلع عليها بطريقة أو بأخرى من مظانها المختلفة ، ومثال ذلك وصفه للتنظيمات السياسية للزنوج الموريتانيين بـ" التنظيمات السياسية اليهودية الاتجاه الماركسية .."( ص 81).
ومثال آخر ، هو إفادته وبدون توثيق يبرئ ذمته العلمية أن المختار ولد داداه ، وهو عم الرئيس الموريتاني الأسبق الذي سميّ عليه فيما يبدو ، عمل في الجيش الفرنسي باقتراح من الشيخ بابا ولد الشيخ سيديا الكبير ، وهذه المعلومة لم يشر إليها الرئيس الموريتاني المعني في مذكراته التي تعرض فيها قبل وفاته لبدايات التواصل مع الفرنسيين ( في مدرسة أبناء الأعيان ، والنظرة الاجتماعية للنصاري .. والخ) ، ومعلومة من هذا النوع جديرة بالاهتمام لو كانت دقيقة !كما يمكن أن يؤخذ عليه التساهل في إطلاق الأحكام كوصفه لـ " أهل آدرار بأنهم أشد حماسا للانضمام للمغرب .."! ( ص 78) ، وهو ما لايمكن قبوله ببساطة على هذا النحو دون تأسيس علمي ومنهجي مقبول ومنضبط .
وبالرغم من قِدَم كتابة المساهمات التي احتوي عليها الكتاب بقلم " خي بابا شياخ " حيث ترجع فيما يبدو إلى السبعينيات من القرن الفارط ، فإن موضوعاته التاريخية والثقافية والسياسية تجعله مرجعا مهما، ولا شك أن الأحداث التي اعتملت بعد ذلك وحتى الآن في تلك الدول ، أو في منطقة الصحراء الكبرى عموما ، تبيّن ذلك .. ما يشي بأن كاتبها كان يمتلك رؤية جيو استراتيجية لافتة ، كان سيحرم منها الجيل الحالي الذي قد يجهل " خي بابا شياخ" لولا أن بعض من لقيهم وصحبهم هذا الأخير أرادوا تسديد دين الوفاء الإنساني رغما عن عصر الرقمية و " التسليعية " الذي طغى على إنسان هذا الزمن .
0 التعليقات:
إرسال تعليق