انعقدت في الآونة الأخيرة في الجماهيرية الليبية عدة مؤتمرات وندوات علمية متخصصة لعل القاسم المشترك فيها هو سعيها لبحث ومناقشة موضوع الساعة، ألا وهو طبيعة التغييرات الجذرية المنتظر أن يعرفها الاقتصاد الليبي في ظل شعارات يسميها البعض "توسيعا لقاعدة الملكية"، ويصفها آخرون بأنها "ليبرالية وخصخصة". ويهدف هذا التحليل إلى مقاربة تحليلية للإشكاليات الكبرى التي يثيرها موضوع الاقتصاد الليبي وتوسيع قاعدة الملكية.
حقائق لا بد من إدراكها
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الوضع الاقتصادي في ليبيا منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين كان مدعاة للكثير من الأسى والحسرة، لدرجة أوفدت معها الأمم المتحدة فريقا من خبرائها لتقييم الوضع الاقتصادي وإمكانيات تطويره في ليبيا، وكان من أبرز أولئك الخبراء الاقتصادي الأميركي الشهير "بنيامين هيكنز"، الذي توصل في تقريره التقييمي إلى أنه لا يمكن إنجاز تنمية حقيقية في ليبيا إلا إذا كان بالإمكان إحداث "تنمية" في القطب المتجمد الشمالي।
غير أن "نبوءات" هيكنز أثبتت مجافاتها للمنطق السليم حين لم يمض أكثر من عقد من الزمن حتى انبثق من جوف الصحراء الليبية الذهب الأسود (النفط)، وتوالى تصديره إلى الأسواق العالمية منذ 1961، ليظهر أن الجماهيرية هي إحدى أهم دول العالم التي تتمتع بمخزون إستراتيجي هائل من النفط الخام يصل -حسب بعض التقديرات المتفائلة- إلى 90 مليار برميل قابلة للاستغلال حتى 50 عاما على الأقل.
كان اندلاع ثورة الفاتح في سبتمبر/ أيلول 1969 حدثا بارزا بكل المقاييس في تاريخ ليبيا المعاصر انتقلت به الدولة والشعب من واقع اقتصادي بالغ التخلف والانحطاط -كما صوره هيكنز- إلى واقع اقتصادي مفارق حسب مؤشرات التنمية البشرية المنجزة في الجماهيرية، إذ يصل العمر المتوقع عند الولادة إلى 73 عاما، وتقل نسبة الأمية بين البالغين عن 30%، وفي كل ألف طفل مولود حي لا يموت سوى 28 طفلا تقريبا.. إلخ.
كل ذلك تحقق بفضل صياغة وتنفيذ الخطط التنموية الطموحة (الخطة الثلاثية 1973-1975، والخماسية 1976-1980، والخماسية الثانية 1981-1986..) ، وهي خطط استطاعت أن تخلق بنية تحتية اقتصادية صلبة كافية لتبليط مساحة جغرافية تعادل مساحة ثلاث دول أوروبية هي إيطاليا وألمانيا وفرنسا، كما تحقق في بعض السنوات اكتفاء ذاتي من بعض السلع الأساسية، ووضعت نواة لمشاريع متطورة للصناعات الخفيفة والمتوسطة والإستراتيجية التي وجهت إليها موارد استثمارية ضخمة طيلة ثلاثة عقود من التنمية ضمن ما عرف بميزانيات التحول التي أنفق عليها أكثر من 50 مليار دينار ليبي خلال ثلاثة عقود من 1970 إلى 2000.
ويجب أن لا يغيب عن الأذهان أن من ضمن عناصر قوة الاقتصاد الليبي توافر أنواع مختلفة وغير مستغلة من المعادن الهامة كالغاز وغيره، وذلك على مساحة جغرافية تربو على المليون و750 كلم مربع ، مع أكبر شاطئ جنوبي على ضفة البحر الأبيض المتوسط يزيد عن 1900 كلم.
جدلية العام والخاص
لقد سيطر القطاع العام سيطرة مطلقة في ليبيا منذ بداية الثورة حتى سنة 1977 على إدارة وتسيير النشاط الاقتصادي، بل إنه كان القاطرة الرئيسية للاقتصاد الوطني، حيث أشرف على تأميم المصارف والمؤسسات الأجنبية، وأسهم في خلق الشركات الوطنية العامة التي تضطلع بريادية في توفير حاجات المجتمع، كما كان للقطاع العام نصيب الأسد في الصياغة والإشراف والتنفيذ والمتابعة لأغلب الخطط الاقتصادية، وقد استطاع بذلك أن يجذر مفهوم الدولة في نفوس المواطنين، ويسهم في تغطية الطلب المحلي من السلع والخدمات الأساسية।
إلا أن ذلك لا يعني أنه نجح في كل الأدوار والمراحل والمواقف، حيث واجه عدة عقبات كؤود، وذلك حين بدأت تتآكل احتياطيات الدولة من الموارد المالية بسبب تزايد مؤشر الإنفاق العام، كما بدأت الخدمات العمومية الصحية والتعليمية تتراجع في كفاءتها كماً وكيفا، علاوة على عجز قطاعات الإنتاج الزراعية والصناعية عن توفير عوائد مناسبة مقابل التمويلات الهائلة التي أنفقت عليها من الموازنة العامة المتأتية كلية من إيرادات النفط الخام.
وقد يكون ذلك لكون القطاع العام من حيث الأصل ليس إلا وسيلة مرحلية لا بد من المرور بها قبل أن تكون الجماهير قادرة على امتلاك وتسيير موارد المجتمع لإشباع الحاجات المادية والمعنوية، بالإضافة إلى أن مشكلة القطاع العام هي في اعتماده التسييري على جهاز مركزي لا يملك طريقة فعالة لتقييم حسن الأداء، ويؤدي ذلك مع عوامل متشابكة إلى غياب الحوافز الفردية نظرا لسيادة عقلية التواكل والاتكالية على الدولة في توفير كل شيء، وهكذا كان القطاع العام مرتعا هنيئا للبيروقراطية المكشوفة والبطالة السافرة والمستترة والإفساد الإداري والإفلاسات الكبيرة.
ولا يستغرب بعد ذلك أن يكون في صلب الأفكار الجديدة التي نادى بها معمر القذافي ونشرها للعالم في الكتاب الأخضر عام 1977 وسميت بالنظرية العالمية الثالثة، أن يكون هناك اتجاه ضاغط للدعوة إلى نظام اقتصادي جديد من شعاراته المحورية أننا "شركاء لا أجراء"، وهو نظام تمظهرت تطبيقاته في بروز نظام تشاركي يدعو إلى أن يكون كل فرد في المجتمع شريكا إما بجهده أو ماله دون استغلال أو أجر।
وعلى هذا الأساس يجب أن تقام "التشاركية"، وهي صيغة كفيلة لو طبقت على أحسن وجه بأن تجعل ثروة المجتمع تتوزع على أفراده، كما أنها لا تسمح بوجود الأجرة وما يتولد عنها من استغلال يقود إلى الطبقية والفئوية وغيرهما من مظاهر مهددة لوحدة المجتمع وتماسكه، نظرا لأن الوضع الجديد يضمن لأفراد المجتمع حرية اختيار النشاط الاقتصادي، ويخلق الحافز الدافع إلى العمل وهو الحصول على الأرباح والعوائد، وهنا يظهر وجه شبه بين ذلك وما تدعو إليه الرأسمالية، غير أن الفرق في الحقيقة هو أنها "رأسمالية منزوعة أنياب الاستغلال والاحتكار".
وهكذا صدر قانون رقم (9) للنشاط الاقتصادي في ليبيا، وظهرت على إثره أكثر من 2500 شركة وتشاركية تمارس مجالات النشاط في التجارة والزراعة والتوزيع والإنشاء ومجالات أخرى، إلا أن الظروف لم ترحم تجربة التشاركيات حيث فرض الحصار الاقتصادي مبكرا منذ 1992, وهو ما أسهم في ظهور بعض الإشكالات البنيوية التي حاصرت تجربة النظام التشاركي. ومن بينها مثلا لا حصرا عدم توفر السيولة الكافية، وتأخر فتح الاعتماد، وغياب بعض النظم والسياسات التوضيحية، وغياب التنسيق والتوازن خصوصا في ظل بيئة لا تزال تئن من سطوة توابع وملحقات القطاع العام الآمرة الناهية فيها.
يضاف إلى ذلك قصور فهم المواطن أو عدم وعيه الكافي بالمغزى الحقيقي للحكمة الاقتصادية للنظام التشاركي وهو ما شكل سدا منيعا وعائقا جديا حال دون جني ثمار تلك الأفكار التقدمية.
الملكية الشعبية مجازا
وقد ظل القطاع العام مسيطرا من الناحية الفعلية على الموقف الاقتصادي مع ما يترتب على ذلك من احتقان واستفحال للأزمات الهيكلية في الاقتصاد الليبي, وهو أمر دفع بالكثيرين إلى تلمس طريق آخر أو مسار مختلف نوعا ما تمثل في مجموعة أفكار يمكن تلخيصها في شعار "توسيع قاعدة الملكية الشعبية"، ومن أبرز دعاة هذا الطرح الخبير الاقتصادي السابق في منظمة الدول المصدرة للنفط وأمين اللجنة الشعبية العامة الحالي الدكتور شكري غانم الذي كان ضيفا على أكاديمية الدراسات العليا وألقى محاضرة في قاعة الندوات والمؤتمرات حضرها عدد كبير من رجال الفكر والسياسة والاقتصاد والباحثين والمهتمين، ومن بينهم كاتب هذه السطور.
وقد استرسل الدكتور غانم في توصيف ملامح الوضعية الجديدة وتطرق إلى نقد فلسفة القطاع العام الذي كان جزءا من ترتيبات الحرب الباردة، وهو ما يعني أنه لا مكان له في ظل أوضاع الألفية الجديدة أحادية القطبية. وعرف شكري غانم توسيع قاعدة الملكية بقوله "هو تحفيز الجميع للمشاركة، وتوسيع دائرة التملك ليستفيد منها المواطنون، وإيجاد مقاييس واضحة لحسن الأداء".
ويبدو أن من أهم ملامح الواقع الجديد أنه سيتم بصورة نهائية تصفية مشروعات القطاع العام الذي ينوء حاليا بحمل 750 ألف موظف حكومي (حوالي خمس عدد السكان) سيجدون أنفسهم تحت نير البطالة السافرة قبل أن تخلق لهم مجالات عمل أخرى لاحقا.
كذلك سيتم إلغاء الدعم عن السلع التموينية، وهو ما سيوفر على خزينة الدولة حوالي مليار دينار سنويا، وستتم الاستعاضة عن ذلك الدعم بزيادة معتبرة في الأجور، ثم إقرار قانون العمل بأجر مادي، وأيضا تعديل قانون الخدمة الوطنية بإقرار تعويض مادي يدفع مقابلها.
ويعتقد أمين اللجنة الشعبية العامة أن تلك عينة من سلسلة من الإجراءات قيد التشكل من شأنها القضاء على التشوهات الهيكلية التي جعلت من الاقتصاد الليبي ما أسماه "اقتصاد المتناقضات"، ومن أمثلة ذلك وجود بطالة مستفحلة بين أوساط فئة الشباب تصل إلى ربع مليون عاطل عن العمل، في حين تصل العمالة الوافدة إلى مليوني عامل تقريبا.
استمرار أم ردة
سعت ثورة الفاتح منذ بدايتها إلى أن يكون المواطن الليبي سعيدا وحرا في اختيار توجهاته ونهج ما يشاء من خيارات، ونظرت إليه على أساس أنه قد تجاوز سن الرشد والبلوغ السياسي بسنين، وهو ما يجعله في غنى عن الوصاية والنيابة والتمثيل.
ويسعي خبراء الاقتصاد وأمناء اللجان الشعبية الآن إلى عرض أفكار اقتصادية يرونها "خروجا" من نفق الأزمة التي يعيشها الوضع الليبي، فيما يعتبرها آخرون "مروقا" على الأسس والمنطلقات النظرية التي آمنت وبشرت بها الثورة.
أفكار توسيع قاعدة الملكية وما يرتبط بها ويكملها معروضة على الشعب الليبي في مؤتمراته من أجل إقرارها وتقنينها.. والمؤتمرات الشعبية حرة في اختياراتها وعليها وحدها تحمل مسؤولية ما تتخذ من قرارات مصيرية وإستراتيجية، وهذه نقطة تحسب للثورة الليبية وليس عليها، حتى ولو أن في ذلك الاختيار ما قد يكون مخالفة صريحة لمبادئ الثورة وأفكارها الأساسية.
ولا شك في أن السياسات الجديدة وما سينجم عنها من "إجراءات" تمس حياة الليبيين، كإلغاء الدعم نهائيا عن السلع التموينية مقابل زيادة الأجور، قد يفتح المجال واسعا أمام حرية استيراد الغذاء (ترتيبات ما بعد الدخول في منظمة التجارة العالمية) لتوفير احتياجات المواطنين، وهو ما قد يتسبب في استيراد التضخم من الأسواق العالمية، وهي ظاهرة سلبية دون شك، زيادة على أنها قد تلتهم الزيادة الظاهرية في الأجور ما لم تكن هناك فعالية ويقظة لجمعيات الأمان الاجتماعي وحماية المستهلك، هذا الأخير الذي سيجد نفسه أعزلا في معركة بلا سلاح، الشيء الذي يزيح الغطاء عن الوجه "غير الأخلاقي" لليبرالية.
إضافة إلى أن "توسيع قاعدة الملكية" ليس في الواقع أكثر من بند في وصفة شاملة مليئة بالخطوات كالتي اتبعتها دول أخرى كثيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ودول كانت سابقا ضمن منظومة المعسكر الشرقي تنعت تلك الخطوات بــ"الخصخصة" أو "التخصيصية" التي رعتها مؤسسات بريتون وودز (البنك وصندوق النقد الدوليين) منذ الثمانينيات.
إلا أن مرور أكثر من عقدين على تجربة تلك الوصفات "العلاجية" لم تكن ذات نتائج "وردية"، بل قد يكون العكس هو الصحيح حين شهد شهودها وخبراؤها بأنها هي السبب وراء الموجات الزاحفة من الفقر والبؤس والأمراض التي اجتاحت مجتمعات الدول التي طبقت تلك البرامج.
وهكذا يؤدي تطبيق تلك السياسات "التصحيحية" إلى عقبات تنموية كبرى جعلت البعض يرفض الاعتقاد الجازم بأن الخوصصة أو الخصخصة تعني إلغاء دور الدولة السيادي، لأن المواطن في هذه الحالة لن يكون قادرا على أن يدفع عن نفسه جبروت السوق وجبرية قوانينه.
فهل ستنجح الإجراءات الاقتصادية المزمعة في ليبيا في التخفيف من وطأة المشاكل التي يكابدها الاقتصاد الليبي لتنقله إلى آفاق رحبة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، أم أن ما يجري ليس إلا "محاولة" قد تصيب "مرحليا" في تجاوز بعض الإخفاقات وقد تخطئ "إستراتيجيا" في تفادي مشاكل المواطنين الصميمية؟ ذلك ما ستثبته أو تنفيه السنوات القادمة ولو بعد حين।
نقلا عن موقع الجزيرة نت .
0 التعليقات:
إرسال تعليق