1 أبريل 2008

الاقتصاد الموريتاني من آمال الاصلاح إلى مآزق الفقر

حين أعلن استقلال موريتانيا في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1960 لم يكن ذلك إلا واحدا من الأحلام الكبيرة التي كانت تراود خيال جيل أفريقي بدأ يتذوق طعم الحرية ويكفر بالاستعمار، وتدغدغ عواطفه مبادئ التقدم والرخاء التي بذلت في سبيلها تضحيات جسام كان لها أكبر الأثر في ميلاد الدولة الوطنية, والآن وبعد أكثر من عقود على تلك الأحداث كم كانت الخيبة والخسارة.
ولو أن عجلة التاريخ دارت بأولئك العظام ليشهدوا ما آلت إليه الأوضاع لأخذت منهم الحسرة كل مأخذ حين استحالت التنمية إلى تخلف، والتقدم إلى تراجع والمشاريع الإستراتيجية إلى انهيارات يندى لها الجبين. هذا التحليل يهدف إلى رصد الاقتصاد الموريتاني منذ الثمانينيات وبداية تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي.
أساسيات مهمة

تزيد مساحة موريتانيا على مليون كيلومتر تسيطر الصحراء على أغلبها، وقد بدأت أول حكومة بعد الاستقلال في وضع برامج استثمارية في (1960-1978) يتم تمويلها خارجيا। وقد حققت تلك البرامج تأسيس بنى الدولة الوليدة، إلا أن ظروف الحرب في الصحراء الغربية التي شاركت فيها موريتانيا وما نجم عنها من أعباء الجيش خلقت امتعاضا سياسيا للبلد تلاه انقلاب المؤسسة العسكرية في 10 /7/ 1978 ليتعاقب على حكم موريتانيا أربعة عسكريين في أقل من سنتين.

ونجم عن ذلك أزمات مستحكمة في الوضع الاقتصادي منذ الثمانينيات، حيث بلغ ارتفاع عجز الموازنة العامة حوالي 9% من الناتج المحلي الإجمالي، كما وصل عجز ميزان المدفوعات نسبة 34%، وزادت المديونية إلى أكثر من 20%، والتضخم وصل إلى 14%.. وهكذا سارت موريتانيا في ركاب برامج الإصلاح.
الإصلاح وما أدراك ما الإصلاح
الإصلاح من حيث الجوهر هو الذي يشرف عليه صندوق النقد والبنك الدوليان، ويعني إصلاحات مالية من اختصاص صندوق النقد، وإصلاحات أخرى من شأنها إزالة التشوهات ودفع النمو ويتولاها البنك الدولي.
ويرى "رمزي زكي" أن مرجعية تلك البرامج هي أفكار ما يسمى النيوكلاسيك، التي تدعو إلى: تخفيض قيمة العملة، وتحرير التجارة، وتقليل العجز في الموازنة العامة من خلال إلغاء الدعم وزيادة أسعار منتجات القطاع العام، وتجميد الأجور وخفض التشغيل في الحكومة، وزيادة الضرائب ورفع أسعار الفائدة، واقتصار الاستثمارات العامة على مشروعات البنية التحتية إلى غير ذلك من السياسات التي تنبأ "عرابو" صندوق النقد والبنك الدوليين بأنها كفيلة بإحداث التوازنات الشاملة ودفع عملية النمو إلى الأمام وتخليص الاقتصاد من المشاكل كلها.
ومن أجل نيل ذلك تبنت موريتانيا "الإصلاح الاقتصادي"، وشجعتها مؤسساته الراعية له، بل وقدمت جميع متطلبات السيولة اللازمة لإنجاح تلك البرامج، فولد البرنامج الاقتصادي 1985-1988، وبرنامج الدعم والدفع 1989-1991، والبرنامج الاقتصادي 1992-1995.
وقد بلغ الغطاء المالي الذي تسلمته موريتانيا على مدى الفترة 1985-2000 حوالي 4.5 مليارات دولار، وفي مقابل ذلك قامت بالتنفيذ "النصي" للبرامج الاصطلاحية، حيث خفضت عملتها (الأوقية) بنسبة 310%، وألغت الدعم عن السلع حتى تضاعفت أسعارها، وصفت مؤسسات القطاع العام ومنها: شركات النقل، والسكر، والصيدلانية، وتسويق المواشي، والتأمين، وتوزيع المحروقات.
وشرعت الباب أمام الخصخصة للاستثمار في جميع الأنشطة الاقتصادية كالزراعة والاتصالات والبنوك، وجمدت الأجور التي حددت حدودها الدنيا في جميع القطاعات بـ44 أوقية لساعة العمل الواحدة، وألغت التوظيف إلا في قطاعات الصحة والتعليم والأمن بفروعه، على ألا يتم أي إجراء بالخصوص إلا بالمعرفة المسبقة لـ"المندوبين السامين" الذين "لا تخفى عليهم خافية".
نموذج من الحصاد

لوحظ على مستوى الزراعة أنها لم تسهم عام 2000 في تشكيل الموازنة العامة بأكثر من 22%، كما لم يتجاوز الإنتاج المحلي 20% من عرض الحبوب، أما المساعدات الغذائية فبلغت حوالي 15%، وأما الواردات فبلغت 67% فقط, وأسهمت الصناعة بحوالي 28% من الموازنة، وذلك لأنها ترتكز على التعدين (الحديد)، وكذا الصناعات التحويلية (الأسماك).
أما على مستوى القطاع الخدماتي بمفهومه الموسع فأسهم في الموازنة بنسبة 50%، وقد يكون ذلك لكونه أصبح من أهم القطاعات المولدة للدخل في فترة الإصلاحات.
وقد أدى إلغاء الوظائف إلى وجود جيش عرمرم من البطالة، وخصوصا من حملة الشهادات الجامعية الذين يفوق عدد المسجلين منهم أكثر من 6000 حامل شهادة. ناهيك عن بطالة المدن والأرياف، وتشير بعض التقديرات "الرسمية" حسب الجنس إلى: 40% من النساء، و25% وسط الرجال. أما حسب المناطق الجغرافية فهناك 35% من سكان الحضر، و30% من سكان الريف، و20% من مناطق البداوة.
والمؤكد أن ارتفاع مؤشرات البطالة يمثل أضمن المصادر للكثير من الأمراض كالجريمة المنظمة في المدن، والشذوذ في السلوك العام، وتعاطي المخدرات والمسكرات، والتفكك الأسري وما يقود إليه من تحلل للنسيج الاجتماعي.
مآزق الفقر
ومن أبرز النتائج "الكارثية" لبرامج الإصلاح في موريتانيا انهيار الطبقة الوسطى، واتساع دائرة الفقر حيث شرائح واسعة من المواطنين لا تكاد تسد الأود، وقد وجدت المنظمة العربية للتنمية الزراعية في بداية التسعينيات أن أكثر من ثلثي الموريتانيين يحتلون بجدارة خطوط ما بعد الفقر.
وخط الفقر هو المستوى الذي لا يمكن الإنسان من توفير متطلباته الحياتية اليومية من غذاء ومواصلات وتكاليف الحياة العادية مع الآخرين. ولا شك أن انسحاب الدولة من توفير متطلبات الخدمات العمومية وإلغاء الدعم كما تمليه "حيثيات" الإصلاح كشفت عورة الأوضاع الاقتصادية للسكان.
وبعد تجارب عقدين من تطبيق "الإصلاح" في أنحاء شتى من المعمورة انتشرت موجات زاحفة من الفقر المطلق في المجتمعات التي أخضعت للتجربة القاسية، وهو ما دفع "الخبراء" إلى الاعتراف بفداحة الجرم العظيم في محاولة للتكفير عنه، وذلك ما جعلهم يلحقون ببرامج الإصلاح برامج تكميلية أخرى لمكافحة الفقر، وذلك من خلال خلق نشاطات مدرة للدخل.
وهكذا أسست موريتانيا مفوضية أسندت إليها المهمة "التاريخية" في القضاء على الفقر وفقا لـ"إستراتيجية وطنية لمكافحة الفقر" باركها "الخبراء" وتوقعوا لها القضاء النهائي على الفقر قبل حلول 2015 وبكلفة مالية قدرها مليار دولار، ويوضح حجم المبلغ حقيقة الكارثة التي يحياها الشعب الموريتاني في أغلبيته الغالبة، وذلك طبعا باستثناء طبقة محدودة من الأثرياء "الجدد" المستفيدين وحدهم من مناخ الإصلاح وفرصه الذهبية وقوانينه الرائعة التي تضمن لهم الصفقات المربحة وبأسرع من لمح البصر.
وقد أوردت جريدة القلم الموريتانية المستقلة في عددها 252 الصادر بتاريخ 22 مارس/ آذار 2004 تصريحات الأستاذ موسى ولد حبيب رئيس رابطة إنصاف لحماية المستهلك أكد فيها أن نسبة الفقر ارتفعت خلال سنتي 2001 –2002 بنسبة 113%، والفقر "المدقع" من 2% إلى 27%، والفقر "الشديد" من 12% إلى 40%، كما أوضح أن 39% فقط من المستهلكين يتوفرون على ماء الشرب، وأن أربعة أخماس المستهلكين لا تتوفر لديهم الكهرباء، وأن 30% من الناس معدومو الرعاية الصحية، وثلث سكان المدن يعيشون في مساكن تشبه الصفيح.
إن واقع الفقر المطلق الذي يعيشه الموريتانيون لا يتناسب البتة مع حجم القروض والمساعدات الخيالية التي تم ضخها في الاقتصاد طيلة العقدين الماضيين، مع افتراض أن موريتانيا خالية وجرداء من أي إمكانيات وموارد أخرى (وهذا مخالف للحقيقة إذ تزخر البلاد بموارد لا محدودة من الحديد والأسماك والثروة الحيوانية).
ولعل ذلك يطرح مشروعية أخلاقية للسؤال حول مصير تلك الأموال التي يبدو أنها انحرفت عن مسارها المفترض إلى مسارات أخرى نتيجة الفساد الذي لا تبرأ منه موريتانيا، والذمة في ذلك على تقرير الشفافية الدولية الذي يعطيها موقعا متميزا فيه(تقرير الشفافية الدولية لسنة 2003).
أين الخلل
وماذا بعد؟ .. إن برامج الإصلاح الاقتصادي التي أسهمت في حدوث "الديمقراطية" ومرجعيتها في دستور الـ20 يوليو/ تموز وما تلاه من تراخيص لأحزاب حقيقية أو وهمية، إلا أنها لم تحل دون الآثار الاقتصادية والاجتماعية السابقة، ولم تحل دون استمرار الاضطراب والقلق في الحياة السياسية العامة منذ 1987، حتى أصبح ملازما للمناخ العام التململات والمظاهرات النقابية من حين لآخر (العمالية والطلابية)، ومحاولات خفية وظاهرة للاستيلاء على الحكم لعل من أجلاها وربما أقساها المحاولة الانقلابية الأخيرة في 8-9 يونيو/ تموز 2003.
كما أن الوضع الاقتصادي الآن في موريتانيا أبعد ما يكون عن "التوازنات الداخلية والخارجية" التي كانت هي الأمل والمبرر للإصلاح، حيث تتزايد فجوة الموارد المحلية وتعجز الإيرادات عن تغطية المصاريف التسييرية، أما التوازنات الخارجية فلا مكان لها تحت حد سيف المديونية الخارجية التي وصلت في نهاية العام 2003 إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار أي أكثر من عدد السكان.
وللاستئناس ببعض معطيات الاقتصاد الكلي يمكن التذكير بأن الميل الحدي للاستهلاك بلغ حوالي 0.45 في المدى القصير و0.59 في المدى الطويل خلال الفترة 1985-2000، ويعني ذلك تضاؤل حجم التراكم والادخار الرأسمالي الذي هو حجر الزاوية في إحداث التنمية الاقتصادية وهي التنمية التي تفقد كل مضمون ما لم تتوجه أساسا إلى إشباع الحاجات الأساسية للسكان، وإلا تفقد الدولة مبررها "التاريخي".
فهل يدرك الموريتانيون أن برامج الإصلاح التي أفسدت الأوضاع في الكثير من الدول لن تصلح من أمرهم شيئا؟ ولماذا لا يدرسون حقيقة مشكلاتهم الصميمة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا بطريقة علمية وموضوعية، لعل وعسى أن يسلكوا سبيل الرشاد يوما للخروج من النفق المعتم.

نقلا عن موقع الجزيرة نت .

0 التعليقات:

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya