26 سبتمبر 2010

من بوركينا فاسو " أرض الرجال " إلى بوابة " اشكيك "!

بقلم - أحمد ولد نافع -
 باحث و أستاذ جامعي
ahmedonava@yahoo.fr 
     حين وصلت مطار بوركينافاسو الدولي في يوم صيف قائظ من أيام يونيو في سنة 2002 ، لم أجد فرقا كبيرًا بينه و بين مطار انواكشوط لجهة وقوع كليهما في قلب العاصمة ، مع أن حجم " مطار واغا " أكبر نسبيا والإجراءات أكثر انسيابية و سهولة ودقة . لقيتُ و الوفود القادمة إلى بوركينافاسو ترحيبا خاصا و نحن الزائرون المشاركون في" مؤتمر شباب الدول المتاخمة للصحراء الكبرى " ، و هو المؤتمر الذي شهد عدة دورات شاركتُ في الملتقي الثاني منها في نوفمبر 1997 ، و الذي انطلقت فعالياته من مدينة مرزق الليبية ( حوالي 950 كلم جنوبي العاصمة طرابلس) ، وهي إحدى مدن قوافل الصحراء الكبرى و لا تزال قلعتها الشامخة تتحدى الأزمان و تدل على الحضور التاريخي لها دهراً طويلا .
    وكان المؤتمر فرصة للقاء و التفاكر المستفيض مع عينة من نشطاء شباب من الدول الإفريقية المتاخمة للساحل و الصحراء الكبرى ( ليبيا ، الجزائر ، النيجر ، موريتانيا ، مالي ، السنغال،..الخ) ، و ذلك لمناقشة بعض قضايا الشباب و دوره في تنمية وتطوير الشعوب و المجتمعات الإفريقية ، و بما أن الجهة الراعية هي جهة ليبية ، فإن أغلب الفعاليات كانت مقامة في قاعات المركز الثقافي الليبي في العاصمة التي شهدت القرار المشهور ، في يونيو 1998 ، الذي أقرته القمة الإفريقية بخصوص رفض الحصار الظالم على الجماهيرية الليبية و إمهال الولايات المتحدة و بريطانيا ثلاثة أشهر للاستجابة للطلب الليبي ، وهو المحاكمة للمشتبه فيهم في بلد ثالث ، و دون ذلك فإن الدول الإفريقية لن تعترف بعد ذلك بالحظر الجوي ، و ستقوم الوفود الرسمية و الشعبية الإفريقية بكسره وتحديه ، و قد كان!! ! 
 ولذلك باتت " وغادوغو " رمزا للتحدي و التضامن الإفريقي ، وقد خلدها الليبيون حيث حملت اسمها أكبر قاعة للمؤتمرات العالمية في مدينة "سرت" الساحلية ! 
    و قد كان الملتقي فرصة للاطلاع على معالم هذه المدينة الإفريقية المتواضعة ، برغم حجم الحيوية و الحركة الاستثمارية النشطة في مجال المطاعم و الفنادق و التجارة ، وهو قطاع نام و متطور يبدو أنه يستوعب نسبة هامة من القوى العاملة بشكل عام .. و يعج قلب " واغا " بالحركة الدائبة في النهار و الليل ، و تنتشر المطاعم الشعبية الافريقية بحسب كثافة هذه الجالية أو تلك ، فهذا المطعم السنغالي ، وذلك المطعم النيجيري ، و المالي ، ..الخ ، وحتى الجاليات العربية وجدت لها في المطاعم اللبنانية و الجزائرية و المغربية قبلة تتوجه إليها كنوع من الحنين إلى الأوطان العربية في تلك المهاجر و الأصقاع الإفريقية . وتنتشر في واغادوغو ظاهرة استخدام الدراجات ( الموتوسيكلات ) بشكل ملفت للانتباه ، و في الوهلة الأولى يتوقع المرء أن الظروف المادية للبوركينابيين هي السبب في تحولهم عن اقتناء السيارات الباهظة الكلفة و المتطلبات في بلد يعتبر واحدا من أكثر البلدان الإفريقية من حيث انتشار الفقر و توابعه ، غير أن التقييم السائد هو أن الدراجات أكثر عملية في الاستخدام و أقل مصاريف و أرحم بالبيئة من السيارات ، ولهذا فإنه حتى أولئك الذين تسمح أوضاعهم المادية بمطاردة أحدث منتجات مصانع السيارات لا يترددون ، أو يخجلون ، من التساوي مع عامة الشعب في أخذ نصيبهم من " الموتوسيكلات " ، بل يتندر ساكنة " واغادوغو" أن كبار موظفي الدولة و الوزراء ، وربما حتى الرئيس كومباوري ، لديهم دراجاتهم الخاصة بهم ، التي يستخدمونها عند الضرورة ، أو مجاملة للاستخدام الشعبي الواسع لهذه الوسيلة البدائية !!
 و لا يمكن لزائر بلد " فولتا العليا " ( هوت فولتا ) ، و هو الاسم الذي كان رائجا قبل التحول عنه إلى " بوركينافاسو"  ، ومعروفا لدى الموريتانيين على نحو واسع ، إلا أن يتوقف عند ضريح " رجل الهامة المرفوعة " المناضل و الرئيس السابق ، النقيب توماس سانكارا الذي ترك بصماته واضحة في المخيال الشعبي للبوركينابيين الذين يذكرونه بفخر و اعتزاز قلّ أن يوجد لزعيم إفريقي في أوساط شعبه ، وذلك بعد أن غادر السلطة غيلة منذ عقدين من الزمن تقريبا ( توفي في 17 اكتوبر 1987) و سمعنا بوفاته عبر إذاعة فرنسا الدولية حين كنا على مقاعد الدراسة في ثانوية تمبدغة حينئذٍ..! 
 و في أحد الأيام ، و أنا أركب سيارة أجرة ، فوجئت بورشة بناء ضخمة تقول لوحتها التعريفية إنه مشروع بناء مبنى البنك التجاري في بوركينا على شارع المناضل الرئيس الراحل الدكتور كوامي نكروما زعيم الثورة الغانية وقائد الاستقلال الشهير ، فسألت السائق : لمن هذا البناء الضخم ، فأجابني : هذا المبني يتم بفضل جهود الأخ القائد معمر القذافي ، واستطرد إنه صديق البوركينابيين و قد أنجز الكثير من الاستثمارات التي وفرت آلاف فرص العمل للشباب البوركينابي الذي يشكو من البطالة السافرة و المقنعة ..!
    و حين علم بوجودي عن طريق الإعلام المحلي صدفة أحد الاصدقاء الموريتانيين المهمين " الاستاذ ابراهيم .ب " زارني في الفندق الذي أقيم فيه و ترك لي توصية لدى الاستقبال أن أتصل به في فندق " صوفيتل سيلماندي " ، وحين استفسرت عنه وجدته أضخم فندق في العاصمة يومها ، وهو الذي يقيم فيه الزائرون الكبار من رؤساء دول ووزراء و رجال الأعمال ، و كانت فرصة لي للتعرف مباشرة على الأخ المصطفي ولد الإمام الشافعي ، وهو رجل الأعمال الشهير ، و المستشار الخاص للرئيس البوركينابي بليز كومباوري ، الذي أحسن وفادتنا في منزله الجميل ، وأرانا في صالونه مجموعة كبيرة من الصور مع رؤساء العالم العربي الذين يزورهم من حين لآخر محملا برسائل من الرئيس كومباوري ، و الزائر لمنزل الأخ المصطفي لا يشك لحظةً سوى أنه في أحد منازل انواكشوط المهمة ، لأنه سيقابل أعدادا كبيرةً من الموريتانيين الذين يأتون لبوركينا كمقر عمل محتمل ، أو عابري سبيل إلى دول افريقية أخرى ، وبالتالي يتوافدون على منزل آل الشافعي للقِرى و تذليل وعثاء السفر و تعقيداته ، خصوصا بعد أن باتت التأشيرة مطلبا رئيسيا للموريتانيين القادمين لواغادوغو بعد خروج دولتهم من مجموعة دول غرب إفريقيا منذ سنة 2000 ، وهكذا فإنهم مجبرون على الاتصال بالسيد المصطفي ولد الإمام الشافعي لحل مشاكلهم اللامتناهية ! و يتردد في هذا الخصوص بين الجالية الموريتانية أن الدور الإنساني الكبير الذي يقوم به الأخ المصطفي منذ تسعينيات القرن الماضي لا يماثله إلا ما كان يقوم به أحد المهاجرين " الأشراف الحوضيين" مولاي الحسن ، الذي قام بنفس المهمة في ستينيات القرن العشرين و في السنوات الأولى لإستقلال الجمهورية الاسلامية ، حيث تشكلت المجموعات الأولى من الشباب و الرجال الموريتانيين الذين كانت جميع مناطق غرب افريقيا مسرحا لنشاطاتهم التجارية و الاقتصادية و الدينية . 
 و ربما يفسّر زحمة المسافرين و العابرين في منزل آل الشافعي هو انزياح أغلب النشاطات الاقتصادية للموريتانيين إلى العاصمة الاقتصادية " بوبو جولاسو" ، و ندرتهم في العاصمة السياسية " واغا" .
 و بالرغم من غياب إحصائيات دقيقة رسمية حول أوضاع الأديان المنتشرة في بوركينا فاصو إلا أن الجميع متفق أن المسلمين يشكلون أغلبية سكان هذا البلد الإفريقي بنسبة تزيد عن الخمسة و الستين في المائة ، ويعدّ المسلمون في بوركينافاصو عينة مصغرة للتنوع المذهبي الإسلامي ففيهم المنتمون للتصوف ( التيجانية الحموية) و غيرها ، و السلفية ، و المالكية ، و الشيعة ،،،الخ.
    كما أن المسيحيين لهم حضور قوي في الحياة الدينية و السياسية ( و تكفي الكاتدرائية الفخمة في العاصمة للدلالة على النفوذ المحسوس و المتنامي للتبشير الإنجيلي في بوركينا). ومن الطرائف التي حصلت معي في صلاة جمعة أحد المساجد في المناطق الشعبية أن الإمام الرسمي غاب ، لظروف مرضية ، فقام أحد مساعديه بنسخ خطبة من أحد المراجع الدينية تضمنت دعوة بالنصر و السؤدد لخليفة المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد الثاني ، قرأها الإمام النائب ، بكل ثقة ، دون التنبه إلى زوال حكم العثمانيين و " خلافتهم الاسلامية " منذ انتصار الضابط مصطفي كمال أتاتورك في إعلان الجمهورية العلمانية في تركيا منذ عشرينيات القرن العشرين . وحين نبهه بعض " المصلين " بعد انتهاء الصلاة إلى ذلك أجاب أنه لم يشعر بالموضوع ، وأنه أخذ الخطبة من الكتاب الذي كان يستعين به الإمام الغائب في إعداد خطبه و مواعظه و إرشاداته !
 غادرتُ " واغا" و ذكرياتها الجميلة التي تسببت لي ببعض المتاعب - لاحقا - بعد ذلك بسنتين حين رجعت في إحدى العطلات الخريفية إلى الوطن ( يوليو 2004) ، فما كان من ضباط مطار نواكشوط الدولي ، و في خضم تداعيات ملاحقة زعماء تنظيم فرسان التغيير بعد فشل محاولتهم الانقلابية (8-9  يونيو 2003)، إلا أن تلقف تأشيرة الدخول إلى مطار وغادوغو ليعتقد أنه وجد " صيدا ثمينا !!" من المعلومات عن هؤلاء القادة " الملاحقين " ، و طلب مني الانتظار ساعات حتى يأتي الضابط الأسمى رتبة منه  في الوردية المُداوِمَة الذي اكتشف بسهولة أن الدخول إلى بوركينافاصو كان في صيف 2002 قبل سنة من تاريخ الانقلاب الفاشل ، فاعتذر إليًّ ووبخ مأموره على عدم التثبت من التواريخ!! . 
 كما أن نفس اللقطة حدثت معي عند بوابة " اشكيك" بعد منعرج " جوك" الجبلي الخطير بولاية العصابه ، حيث استحدث الدرك الوطني نقطة تفيش " دقيقة"! مكلفة بمتابعة المسافرين ، وبعد أن تمكن قائد المحاولة الانقلابية من تجاوزها في عزّ الملاحقة الأمنية له و لرفاقه عقب الانقلاب ، وهو ما شكّل ضربة قوية ، يومها ، للبوابة الأمنية جعلتها تزيد من حسّها الأمني ، الذي دفعنا ثمنه المبيت ليلة كاملة بسبب أختام الدخول إلى بوركينا فاصو ، التي باتت معقلا بديلا للفرسان في تلك الأيام الخوالي ..
 سافرت عن " واغا" بذكريات جميلة لم تصل إلى مستوى الأساطير الشعبية المنتشرة عن سكانها قبائل " الموسي"(موشيات ، كما يلقبهم موريتانيو الأعماق) أنهم كانوا في سالف الأزمان من " أكلة لحوم البشر " ! ، وهو نوع من الحكايات الشعبية التي تتنزل في سياق التواصل الإجتماعي و الرؤية التي يكونها المرء عن الآخر في مخياله اللاواعي ، ربما ! و الله أعلم .

0 التعليقات:

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya