عرض و تحليل/د.أحمد ولد نافع
- الكتاب: صحراء الملثمين-
المؤلف: الناني ولد الحسين-
الصفحات: 576-
الناشر: دار المدار الإسلامي، بيروت- الطبعة: الأولى/2007
بصدوره هذه الأيام ودخوله رفوف المكتبات يكون كتاب "صحراء الملثمين في العصر الوسيط" قد أضاف أكثر من مجرد عنوان للعناوين التي تظهر هنا وهناك في شتى حقول المعرفة الإنسانية المختلفة।
ولعل ذلك ما يلاحظه قارئ هذا الكتاب وهو يقرأ التقديم "الشهادة" الذي دبجه أحد المؤرخين المغاربيين الأستاذ الدكتور محمد حجي.
يستعرض أستاذ التاريخ الوسيط في جامعة نواكشوط الدكتور الناني ولد الحسين في كتابه الدور الذي تحملته الصحراء الأفريقية في تاريخ المنطقة العربية والقارة السمراء، وذلك خلال مرحلة هامة من التاريخ الوسيط.
وقد تجلي ذلك الدور في علاقة الإنسان بالمكان على نحو أنتج حضارة، أو عمرانا بالمفهوم الخلدوني، لا تزال الكثير من أسرارها وإشكالياتها ألغازا عويصة تستحث مزيدا من التساؤلات لدى الباحثين من أبناء الصحراء أو من الأجانب.
ومن هنا كان الحافز أمام المؤلف ليقوم بهذا الجهد العلمي المكرس لتاريخ الصحراء، وذلك وفق تناول منهجي اشتمل على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.
وبعد أن هيأ الأرضية للموضوع بإطار ببليوغرافي جغرافي واقتصادي للصحراء وساكنتها وأنشطتهم: الرعي والزراعة والصيد البري والتجارة، تناول المؤلف طبيعة سكان الصحراء في ثلاثة قرون مبتدئا بصنهاجة الصحراء (البربر) واختلاف المؤرخين حول عروبتهم باعتبارهم من محتد حميريٍ كما قال الطبري والمسعودي والجرجاني وابن الكلبي (ص 67).
ومما يعزز هذا الرأي -برأي المؤلف- فخر ملوك صنهاجة بهذا النسب وانتشاؤهم به على ألسنة مادحيهم، ومنهم أبو محمد بن حامد:
قوم لهم شرفُ العلا من حميرٍ وإذا انتموا لمتونةُ فهم همُ
لما حووا إحراز كل فضيلةٍ غلب الحياء عليهم فتلثمُوا
في حين أن آخرين رفضوا ذلك النسب الحميري لصنهاجة ومنهم نسابة البربر أنفسهم، وغيرهم كابن حزم الأندلسي وأبو الفداء وابن خلدون (ص 70).
ويوضح المؤلف قبائل صنهاجة، ومن أشهرها: اكداله ولمتونة ومسوفه ولمطة وبنو وارث وجزوله وتارغا (ص 86-102). كما احتوت الصحراء على غير صنهاجة كزناته وعرب الفتح وقبائل سودانية كالسوننكي والفولان والبافور (ومن بقاياهم: انمادى وإيمراكن) (ص 103-138).
وقد ناقش المؤلف باستفاضة هذه التشكيلات الاجتماعية وأوضاعها وأدوارها التاريخية وتراتبيتها الهرمية التي كانت فئة السادة (إيماجيقان: أمازيغ) باللهجة الصنهاجية القديمة تتربع على قمتها محتكرة السلطة والثروة والسلاح، وفئة أخرى منتصف الهرم (فئة العامة: المواطنون الأحرار) ثم أخيرا فئات حرفية ومهنية في قاع الهرم (صناع ومطربون وعبيد..).
وفي هذه البيئة الصحراوية اللامتناهية لعبت المرأة الصحراوية أدوارا مهمة، نظرا لمكانتها المقدسة في المجتمع الذي تشاركه الأفراح والأتراح في أوقات السلم وفي أوقات الحرب والكوارث (ص 165 -168).
وعن مكانة اللثام في حياة سكان الصحراء والبادية، يشير المؤلف إلى أنه بات عادة لدى القوم في حلهم وترحالهم وفي يقظتهم ومنامهم، وأصبح معلما بارزا به ينعتون ويقترن وصف صحرائهم به.
ألم يقل شاعرهم:إذا التثموا بالربط خلتَ وجوههمْ أزاهِر تبدو من فتوقِ الكمائمِأو التأمُوا بالسابرية أبرزوا عيونَ الأفاعي من جلود الأراقمِ
وقد برهن المؤلف على أن الملثمين استطاعوا تشييد الحضارة وهم ظاعنون في صحرائهم، ومن شواهدها "مملكة أوداغست الصنهاجية".
واستنطق ملابسات النشوء مع أول نص تاريخي عن هذه الدولة لليعقوبي (أحد مؤرخي أواخر القرن 9 هـ) وذلك في الإشارة إلى أن أوداغست كانت عاصمة لبلاد أنبية (مصطلح يعني تحالف قبائل صنهاجة الصحراء).
وكانت تلك الفترة قد شهدت ميلاد ممالك ودول في أجزاء من الصحراء الكبرى مثل إمارة سجلماسة وإمارة تاهرت، ومملكة غانا الوثنية (وعاصمتها كومبي صالح أو قمبي، وتوجد أطلالها الحالية –على غرار أودغست – في منطقة الحوض في الجنوب والجنوب الشرقي الموريتاني).
وقد كان النظام السياسي لمملكة أودغست نظاما ملكيا وراثيا في قبيلة لمتونة (بيت بني ورتنطق، وبيت تلاكاكين (ص 193). واستمرت هذه المملكة حتى سقطت بفعل عوامل داخلية (صراعات على الحكم) و خارجية (تحالف الممالك المناوئة).
المرابطون دولة إسلامية بالصحراء
لقد استطاع أحفاد الملثمين، ومنذ دخول الإسلام إلى الصحراء الكبرى عبر الدعاة والتجار، أن يؤسسوا دعائم دولة مكينة لعبت أدوارا تاريخية على مسرح الأحداث في منطقة الصحراء الكبرى في العصر الوسيط (في القرن 5 هـ).
وقد حرص المؤلف على جمع كل ما قاله كتاب تلك الفترة ومن سار على دربهم حول الظروف والملابسات التي واكبت نشأة الدولة.
غير أنه قدم إضافة جديدة في البحث التاريخي حول الجدل القديم الجديد عن إشكالية المكان الذي تورد المصادر أن الرعيل الأول من المرابطين قد رابطوا فيه وصابروا واعتزلوا مع مشايعيهم من ساكنة الصحراء حتى بلغوا من القوة المرحلة التي أعلنوا فيها الحرب على مخالفيهم، وكان ذلك إيذانا بميلاد دولة المرابطين.
وقد رجح المؤلف، بعد مناقشة شمولية لآراء من سبقوه حول مكان الرباط، أن يكون مكان هذا الأخير قرب مصب نهر السنغال (نهر صنهاجة).
وقدم جملة معطيات يعضد بها رأيه خلافا للرأي المتواتر السائد لدى الباحثين أن جزيرة "تيدرة" في عرض المحيط الأطلسي (60 كلم غرب شواطئ العاصمة نواكشوط) هي مقر رباط المرابطين (ص 230).
وقد ارتكزت نواة الدولة على المزاوجة بين أدوار الفقهاء (عبد الله بن ياسين ت 451هـ/1059 م) والأمراء (يحي بن عمر ت 448هـ/ 1057م، وأبو بكر بن عمر ت 480 هـ/ 1087م) وذلك على أسس "القبيلة والعقيدة والغنيمة" (ص 244).
كما أن هذه الدولة المرابطية أثبتت في شخصيات أمرائها، في طوريهم الصحراوي (يحي وأبو بكر ابنا عمر) والمغربي (يوسف بن تاشفين وأولاده) أنها دولة صنهاجية صميمة ينتهي نسب جميع أمرائها إلى بيت تلاكاكين، أول ملوك أوداغست.
وقد بسطت الدولة المرابطية سلطانها ذات يوم على المغربين الأقصى والأوسط والأندلس وأجزاء واسعة من دواخل السودان الغربي.
ولو ترجمنا ذلك بحدود الجغرافيا السياسية اليوم لدخلت دول كثيرة شمال وغرب أفريقيا في الحدود السياسية للدولة المرابطية!
كما يحمد الكثير من المؤرخين للدولة المرابطية تأخير سقوط الأندلس في أيدي الفرنجة قرونا طويلة.
وجدير بالذكر أن هذه الدولة ارتبطت بعلاقات اقتصادية وتجارية مع باقي شمال أفريقيا (مصر) والسودان الغربي (غرب أفريقيا) حيث كان الشمال مصدرا لزراعة الحبوب والأشجار المثمرة ومعادن النحاس والفضة وبعض الصناعات المختلفة. أما المرابطون فكانوا مصدرا لتوفير بعض سلع التبادل الدولي في العصر الوسيط وهي الملح الحجري، وصناعات الجلود، والدرق اللمطية والعنبر، والصمغ العربي.. إلخ. وكان النطاق السوداني منبعا للذهب والعاج والرقيق!
ويشير المؤلف إلى دور الملثمين في نشر الإسلام غرب أفريقيا، حيث تم لهم ذلك عن طريق نشر الثقافة العربية الإسلامية بواسطة: المثاقفة والدعوة والجهاد.
وكان الملثمون -برأي المؤلف- عبر تاريخهم في الصحراء أنجع قناة لنقل المؤثرات الثقافية والحضارية المتوسطية والمشرقية إلى غرب أفريقيا. ونتيجة لجوار الملثمين للسوادنيين ودرايتهم بشخصيتهم الحضارية أكثر من غيرهم، فإنهم تسنموا مكانة سامقة خولتهم وضع حد لعصور من الجهل والظلامية عاشها الإنسان السوداني غرب أفريقيا في عبودية لمعتقداته الأسطورية وتبعيته لقوانين الفيزيقا (الطبيعة).
فكان اعتناق هذا الإنسان للإسلام تحريرًا لعقله وتفتيحا لفكره لاستقبال الآراء النيرة والارتباط بالحضارة الإنسانية الأكثر تطورا، والعمل في إطارها بعد عهود من العزلة والانغلاق (ص 476).
واستمرت الدولة المرابطية حتى عهد علي بن يوسف بن تاشفين الذي انهارت الدولة أواخر أيامه ودال سلطانها للموحدين سنة 541هـ، وشيد الأخيرون دولتهم على أنقاض العهد المرابطي فكانت صفحة أخرى من صفحات تاريخ المسلمين في تلك الديار الصحراوية.
وبعد أن صمتت عنها الأحداث مدة قرنين، عادت الصحراء مصنعا للأحداث السياسية والثقافية حين هاجرت إليها القبائل المعقلية (هجرة بني حسان) من جنوب المغرب.
بديلا عن خاتمة
لا يملك المرء وهو يتصفح وقائع التاريخ في أزيد من خمسمائة صفحة معتقة بالمعلومات والإخباريات عن صحراء الملثمين، إلا أن يصاب بالدهشة والإعجاب أمام هذا الجهد العلمي الرصين والمعزز بمناقشة هادئة للمصادر التاريخية قديمها وحديثها.
كأن المؤلف يجمع هؤلاء المؤرخين ذوي الباع الطويل في مجالهم حول هذه الأحداث، ويحاورهم ويجادلهم في آرائهم ويخالفهم، ويوافقهم بطريقة أخلاقية ومسؤولة تحترم أدب الحوار وتؤسس للخلاف في الرأي من أجل الوصول إلى الحقيقة العلمية متعددة الطرق والمسالك.
وربما يكون قد شفع للمؤلف –كما ورد في التقديم- أنه ابن المنطقة، وبالتالي فهو يعرف يقينا المواقع والقبائل والعادات والمفاهيم। وقد أثبت أنه قادر على الترجيح بين روايات المؤرخين المتناقضة أحيانا، بما يتفق مع واقع الأشياء ومنطقها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق