بقلم – الدكتور أحمد ولد نافع
باحث و أستاذ جامعي - موريتانيا
باحث و أستاذ جامعي - موريتانيا
علمت ، ببالغ الأسى و الحزن ، من أحد الأكاديميين السوريين العرب و هو الأستاذ الدكتور عبد العزيز حسون ، برحيل أستاذي الكبير و عالم الاقتصاد الجليل الأستاذ الدكتور علي محمد تقي القزويني في ماليزيا بعد وعكة صحية أقعدته الفراش زهاء ثلاثة سنوات ، و لاشك أنها خسارة كبرى ليس لأسرته ووطنه المكلوم ، بل للأمة العربية كلها ، حيث كان الفقيد مسكونا بالبحث حول قضاياها و مشكلاتها الراهنة و المستقبلية .
تعود أولى صلاتي بالمفكر الراحل إلى نهاية التسعينيات من القرن العشرين ، بعد اجتيازي امتحانات القبول في الدراسات العليا في أكاديمية الدراسات العليا الليبية في مقرها الأول المحاذي لمستشفي الخضراء - منطقة حي دمشق – طرابلس ، و تنزيلي لأول مادة تخصصية مع الأستاذ الراحل ( مادة النقود و المصارف ) ، وقد انبهرت به من البداية ، نظرا لصرامته و جديته في التعليم و البحث العلمي ، و توطدت علائقنا أكثر في القسم ، حيث نزّلت معه أكثر من مادة علمية ، بل إنني اخترته ليكون المشرف الرئيسي على أطروحتي لنيل شهادة الماجستير عن الاقتصاد الموريتاني ، حيث شجعني قائلا :" لاشك أن موريتانيا بحاجة إلى التعريف بها ، ولهذا فأنصحك بأن تختار موضوعا ذي صلة ، حتى يكون مساهمة في إغناء المكتبة البحثية العربية .." .
وقد كان طيلة الإشراف على البحث و إعداده خير معين و موجه استفدت من ملازمته ساعات طوالا في منزله العامر الذي دعاني لاعتباره منزلي الثاني في أي وقت أشاء ، و ذلك ما جعل الصلة بالاستاذ الراحل تتعزز أكثر فأكثر ، فكان يحدثني عن مسيرته التعليمية التي تفوّق فيها منذ مرحلة الثانوية في بغداد في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين ، و تحصّله على منحة التفوق الدراسي إلى موسكو " عاصمة المعسكر الشرقي " و قد سبب له ذلك ، كما أفاد ، حرجا كبيرا إذ أنه سليل أسرة دينية شهيرة و معروفة تنتمي لمذهب أهل البيت عليهم السلام ، فكيف يكون مقبولا على المستوى الشعبي أن يوجه نجلها إلى دولة " الإلحاد " لإكمال دراساته الجامعية و العليا ، و مع ذلك فقد اثبت الراحل نجاحا متميزا في تحصيله حتى توّجه بالدكتوراه في العلوم الاقتصادية في بداية السبعينيات ، ليعود إلى العراق باحثا و استاذا جامعيا بارزا يساهم في إعداد أجياله للبناء و التقدم ، وقد عرفته فصول و قاعات الجامعة المستنصرية ببغداد خلال عقد كامل ، قبل أن يغادر بلاده مكرها بسبب تداعيات المواقف السياسية و تفاعلات الحرب العراقية الإيرانية ، حيث كانت سوريا محطته الثانية ، ثم الجزائر ، و أخيرا حط عصا الترحال منذ تسعينيات القرن الفارط في الجماهيرية التي ظل فيها أزيد من عقد و نصف باحثا و مدرسا و مؤلفا و مترجما و كاتبا لعشرات المقالات التحليلية و الآراء الفكرية في مؤتمرات و ندوات علمية و سياسية حول قضايا شتى تهم الأمة العربية و إفريقيا في عصر العولمة و الفضاءات العملاقة ، و قد كتب مؤلفا حول هندسة االفضاءات الكبرى و موقع الأمة العربية ضمن ذلك ، و قد أطلعني عليه منذ كان مخطوطا ، وشرفني بمراجعة بعض فقراته و محتوياته . و قام ايضا بترجمة رائعة لكتاب الاقتصادي الفرنسي " اغزافي اكريف" ، الباحث بالمركز الاقتصادي في جامعة السوربون ، حول التحليل الاقتصادي للبيروقراطية ، وقد نشرته أكاديمية الدراسات العليا في ليبيا .
وحين وقع العراق تحت سنابك الغزاة الأمريكيين و أعوانهم الدوليين و المحليين ، اشهد أنه قال لي :" إن العراق بلد الحضارات العريقة من سومر و أكد و بابل و الحضارة العربية الاسلامية ، و لايخشي عليه ابدا من هؤلاء رعاة البقر ( الكاوبوي) الذين سيندحرون كما سائر الغزاة عبر التاريخ ..." ، و أشركني معه في نقاش حول فكرة موضوع يختمر في ذاكرته حول " المشروع الأمريكي في العراق و تداعياته الاقليمية و الدولية " ، بل إنني اطلعت على المخطوطة الأولية للكتاب التي ضمنها الراحل رؤيته لبلاد الرافدين في هذه الانعطافة الحاسمة من تاريخها المعاصر ..!
و بعد ورود الانباء عن المحاولة الانقلابية التي حدثت في موريتانيا في نفس اليوم الذي كان مقررا أن يكون يوم مناقشة أطروحتي للماجستير يوم الأحد الموافق 8 يونيو 2003 اتصلت به طالبا تأجيل الموعد نظرا للتطورات السياسية و الأمنية الجارية في موريتانيا ، فوافق على الفور ، و تولي أخذ الإذن من الاكاديمية ، و تأجيل الموعد إلى يوم الخميس الموافق 12 – يونيو 2003 ، و هذا ما جعله يقول في تقديمه لي أثناء المناقشة المفتوحة " ندعوكم لمناقشة هذا البحث الذي تقدمه أطراف الأمة العربية كلها ، يعده طالب من البوابة الغربية للأمة موريتانيا ، و يشرف عليه أستاذ من البوابة الشرقية للأمة العراق ... و موريتانيا الآن تعاني تداعيات ما بعد المحاولة الانقلابية ... و العراق الآن يعاني تداعيات ما بعد احتلاله من القوات الأمريكية و اندلاع شرارة المقاومة ....الخ"!!
كما يرجع لاستاذي الراحل الفضل في تشجيعي على الدخول في برنامج الدكتوراه فوريا دون انتظار للإستفادة من عامل الزمن ، مذكرا إياي بتجربته في هذا المجال ، و قد اخترته ليكون أحد المشرفين على الأطروحة التي واكبها مضيفا وحاذفا و معدلا، حتى شارفت على الاكتمال و كان منهمكا في سياق ترتيبات السفر للمغادرة إلى العراق بشكل نهائي حتى حدث ما حدث من مرض أقعده الفراش في مستشفيات طرابلس و عمان و ماليزيا ، و كم كان أسفي كبيرا حين عرضت الأطروحة للامتحان و المناقشة في صيف 2008 ، وتعذر على استاذنا الكبير و مشرفي الثاني الدكتور علي القزويني الحضور و المشاركة في قطف ثمرة هذا العمل الأكاديمي الذي رعاه و تعهّده بالمتابعة و المؤازرة ، و شاءت إرادة الله أن يغيب عنه في هذه اللحظة المهمة ، فسبحان من يدبر الأمر كيف يشاء و لا حول ولا قوة إلا به سبحانه و تعالى .
لقد كان الراحل دمث الخلق يتحلي بسمت العلماء و تواضعهم ووقارهم ، وكانت الابتسامة تعلو محيّاه على الدوام ، و قال إن هذا من سيرة السيد جعفر بن محمد الصادق ، الإمام السادس من أئمة أهل البيت النبوي الشريف . و أذكر أنه كان في كل مرة أزوره فيها ينادي على زوجته قائلا :" أم حسين .. قدمي لنا الماء ، فهذا أحمد ضيافته بسيطة لأنه لا يشرب المنبهات لا الشاي و لا القهوة .."!
رحمك الله يا أبا حسين .. و عظم فيك الأجر .. و أثابك على ما قدمت في سبيل العلم و المعرفة ، و رزق أسرتك و أهلك ومعارفك جميل الصبر و السلوان .. و صدق رسول الله الكريم القائل :" اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، و صدقة جارية ، و علم ينتفع به ". و قال سبحانه و تعالى : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .. صدق الله العظيم .
1 التعليقات:
عيد مبارك أخ الفاضل
أشكرك جزيل الشكر على هذه المدونة الرائعة والتي نحن في أمس الحاجة إلى نوعها في وطننا العربي مدونات تتيح تتيح التحاور وتبادل الآراء .
أتمنى لك التوفيق في كل أعمالك
إرسال تعليق