بقلم / الدكتور أحمد ولد نافع
تنفطر القلوب و تدمع العيون في لحاظ الخطب الجلل ، و لاشك أن الموت هو إحدى تلك اللحاظ المهيبة التي تتأثر بها النفس البشرية لا إراديا ، و قد حزن الرسول الأكرم صلى الله عليه و على آله و صحبه حزنا شديدا على عمه ابي طالب و زوجته خديجة و ابنه ابراهيم ، و بذلك يكون الحزن سنة نبوية شريفة .
و برحيل الإمام الأكبر و فقيه الفقهاء الشيخ بداه ولد البوصيري تكون موريتانيا قد فقدت أحد واضعي حجر أساسها المعرفي المكين ، حيث ظل العلامة الراحل هو المرجع النهائي للفتيا و الإمامة في هذه البلاد منذ استقلالها في ستينيات القرن الماضي .
و من المعروف أن الشيخ بداه قد حاز من العلوم و المعارف العربية و الاسلامية المتداولة في المحاظر الشنقيطية ما جعله منارة شامخة تذكر بعهود تألق العلماء و الفقهاء الشناقطة في الأيام الخوالي ، ولهذا ليس بالغريب أن يختار – بالإجماع - و بلا منازع ليكون أول إمام للدولة الفتية ، نظرا لعلمه الموسوعي الشمولي ، بالإضافة إلى السمات الشخصية و الخلقية التي يتمتع بها و التي جعلته صداحا بالحق قوالا له في وجوه نسخنا المحلية من السلاطين و الحكام .
و قد كنا ، و نحن صغار ، نسمع الشيخ بداه بصوته الجهوري المميز على أثير الإذاعة المسموعة في الجُمَعِ و الأعياد و نتأثرا إعجابا بما يقوله رغم محدودية إدراكنا الحقيقي للكثير من المعاني و الدلالات التي تشملها تلك الخطب الجميلة .
و أتذكر في ثمانينيات القرن الماضي الإشادة التي قالها الوالد الراحل العلامة الفقيه إدوم ولد نافع التجاني الحموي ، قدس الله سره ، في حق الشيخ بداه البوصيري رحمه الله ، حيث روى لنا عن بعض وقائع أول لقاء جرى بينهما بترتيب من السيد محفوظ ولد خطري النائب الحالي لمقاطعة جكني ، و حكي لنا عن مضمون اللقاء و النقاش " الفقهي " الذي دار بينهما و تنوع من مسائل غيبية تتعلق بخلق الملائكة ميلادهم و هلاكهم ، إلى بعض نوازل الفقه و رؤية الشيخ بداه لمسائل التقليد و التجديد في الفقه المالكي ، كما أثني على تواضعه و كريم أخلاقه ، و أضاف أنه قبل نهاية اللقاء دخل أحد تلامذة الشيخ بداه بورقة تشرح مشكلة شخصية حول شرعية طلاق أحدهم لزوجته ، وحين قرأ الشيخ بداه الرسالة دفعها إلى الوالد قائلا : ما رأيك في هذا ؟؟ و لما اطلع الوالد على النازلة رأى أن الطلاق يمكن أن يعاد فيه النظر ، فالتفت الشيخ بداه على السائل قائلا له بروح تملؤها الدعابة و الأريحية : لقد أرجعها عالم " لقلال " !
و توثقت عرى الوصل بين الوالد و الشيخ بداه بعد ذلك ، حيث كثيرا ما يرسل الأول إلى الثاني فتاواه الفقهية راجيا رأيه و مشورته فيها ، ومن هذا على سبيل المثال أن الوالد أجاب في إحدى زياراته للعاصمة انواكشوط عن سؤال لأحدهم عن حكم الجهر بالبسملة في الصلاة ، فأجابه باقتضاب و أرسل ما كتبه للشيخ بداه الذي علق بخط يده مقرظا : " هذا فقه مسلم عندنا أصلا و فرعا .. كتبه بداه ابن البوصيري "
و في فتوى ثانية متعلقة بحكم سلم الفلوس بعضها ببعض علق العلامة الجليل بداه البوصيري قائلا : " أما بعد فقد تأملت الأنقال التي تضمنها هذا المكتوب فإذا عزوها سليم صحيح ، ومغزاها سليم ، و أنا سابقا أقول للناس إني أرخص لهم فيه عوضا عن معاملة الأبناك ، ونظرا إلى أن الإمام مالك رضي الله عنه اختلفت فتاويه وحده دون أصحابه إلى ما زاد على مائة مجلد " ، ويضيف الشيخ بداه :" فجيز ذلك الإمام الأصولي النظار المجتهد الفقيه أبا اسحاق الشاطبي حتى ذهب الى شيخ المشائخ ابن لب فسأله عن وجه ذلك فقال الترخيص للسائلين ، ونظرا لما في شرح المواق عند قول المصنف في الإجارات احصر و ادرس ولك نصفه من عدم قبول هذا النص ، و قوله ان هذا لا تضيق به على الناس معايشهم الى غير ذلك و هو كثير في الفروع و الاصول .." اهـ
هذا غيض من فيض هذا العالم اللوذعي النابغة بداه البوصيري ، الذي يستحق على الدولة الموريتانية أن تكرمه و تحفظ مقامه بنشر تراثه الفقهي الزاخر للأجيال الصاعدة لتنهل من معينه الذي لا ينضب ، هذا ما يحفظ للأمة ذاكرتها و يجددها باستمرار ، و الأمم الحية لا تموت ، بل إنها تجعل من مناسبات رحيل عظمائها فرصة لجعلهم خالدين يحيون من جديد من خلال نفض الغبار و الإهمال عنهم و تقديمهم بالصورة اللائقة حتى يظلوا بمنأى عن النسيان و الهجر .. و لاشك أن ما بثه الشيخ بداه من علم و فقه في صدور رجال من كافة أنحاء الوطن ومن كل القبائل و الفئات لقمين بأن يحفظ علمه الغزير الذي وصل به ما انقطع من تاريخ الآباء و الأجداد الشناقطة الذين شرقت وغربت علومهم و معارفهم وحفظ لهم التاريخ مكانة ومكانا عز نظيره ..
و لايفوت المرء أن يشير الى أن مناسبة رحيل الشيخ بداه قد جاءت بعد أسبوع واحد من رحيل عالم شنقيطي آخر هو العلامة الشيخ محمد سالم ولد عدود ، و هي مصيبة أخرى لعلوم اللغة العربية و الشريعة الاسلامية ، ولكن لا نقول إلا ايمانا و تسليما بإرادة الحي الذي لا يموت سبحانه " إنا لله و إنا إليه راجعون "..
و موريتانيا التي أنجبت هذين العلمين البارزين الشيخ بداه و الشيخ محمد سالم بقادرة بحول الله أن تنجب المزيد من العلماء و أهل الفضل مهما بدا الواقع سيئا ، و من يقنط من رحمة ربه إلا الظالمون .. صدق الله العظيم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق