بالرغم من أن الهدف الرئيس من الزيارة إلى أرض الكنانة هو هدف علمي وبحثي بالدرجة الأولى ، إلا أنه ما كان لي أن أفوت هذه الفرصة الكبيرة دون أن أتواصل فكريا و سياسيا مع نماذج هامة من النخب السياسية الوطنية المصرية ، وخصوصا الذين كنت على صلة و معرفة بهم بطريقة أو بأخرى .. فكثيرا ما ألتقي ضمن مناشط علمية وفكرية بعلماء و سياسيين ومثقفين من مختلف الساحات العربية و الإسلامية ، ومن بينها مصر ، ولهذا ربطتني بالكثيرين من المصريين علاقات وثيقة هي بالنسبة لي مصدر اعتزاز و إلهام ..!
في ضيافة عبد الناصر
ومن الشخصيات المصرية الرفيعة التي تعرفت عليها هو الدكتور عادل عبد الناصر حسين ، و هو الأخ الشقيق للزعيم العربي القومي ، بل و الإنساني الكبير ، الراحل جمال عبد الناصر ، وبالتالي كانت الزيارات إلى مصر هي في الواقع زيارة لبلد هذا الزعيم الخالد . وقد استقبلني الدكتور عادل عبد الناصر بحفاوة بالغة وكرم عربي أصيل ، و رافقني إلى قبر الزعيم ومسجده في منشية البكري ، حيث وصلناه في عصر يوم جمعة و قرأنا الفاتحة على روحه ، وهنا تذكرت مطلع القصيدة الشهيرة للعلامة المعروف الشيخ عبد الله ولد الشيخ المحفوظ ولد بيه ، مؤسس و رئيس المركز العالمي للتجديد و الترشيد في لندن والأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز بجدة ، التي يرثي فيها عبد الناصر ، حيث يقول :
هذا جمال صامت في قبره و الصمت أبلغ حين يعيى المنطق
وغير بعيد من ذلك ما رثاه به الأديب و الشاعر الراحل شغالي ولد أحمد محمود الشنقيطي الذي يقول في قصيدة طويلة :
نفخ أصاب الأرض أم زلزال لم لا وقد ذهب الرئيس جمال
ذهب الذي هو قوة وشجاعة وشفاعة وجلالة وجمال
وفي نفس المنوال قال الشاعر العربي السوري الراحل نزار قباني بلغته الشاعرية الأخاذة :
زمانك بستان وعصرك أخضر وذكراك عصفور من القلب ينقر
ملأنا لك الأقداح يا من بحبه سكرنا كما الصوفي بالله يسكر
دخلت على تاريخنا ذات ليلة فرائحة التاريخ مسك وعنبر
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهي و تأمر
ومن الأشياء اللافتة عند الضريح هي سجل الزيارات الذي يوثق فيه الزائرون انطباعاتهم عن حال الأمة بعد زعيمها ، وبتصفح هذا السجل يجد المرء قادة وعسكريين ومفكرين ومثقفين من مشارق الأرض و مغاربها ، وكلهم على قلب رجل واحد أن الأمة ثكلت برحيل هذا القائد الكبير وهو في قمة صموده وجهاده وشعاره "أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها " ، و " ارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستعباد .." !
و أمام هذه اللحظات المؤثرة لا يمكن أن يغيب عن البال حركة الكفاح التحرري العربي التي أرغمت الاستعمار التقليدي على أن " يحمل عصاه على كاهله ويرحل " من الجزائر وباقي مناطق إفريقيا وآسيا و أمريكا اللاتينية ، و تأسيس عدم الانحياز في باندونغ 1955 ، والعدوان الثلاثي على مصر 1965، و سنوات التحدي و الكبرياء للعرب و للشعوب المستضعفة .. سنوات كان فيها العربي يلقي الاحترام و التقدير أينما حل في العالم شرقه أو غربه ، وكان عبد الناصر يتحرك على مساحة الدوائر الثلاث العربية و الإفريقية والإسلامية .. وبغض النظر عن تقييم تاريخه و أدائه في السلطة و الحكم ، الذي كان محكوما بظروفه الذاتية و الموضوعية ، فإن الأعداء شهدوا أن عدوهم عبد الناصر كان عدوا شهما وشريفا ، ولهذا ليس غريبا أن يصرح وزير الدفاع الفرنسي السابق " ميشال جوبير" لو كنت عربيا لكنت ناصريا "!!
ومن نافلة القول إن الزعيم جمال عبد الناصر يلقي في موريتانيا ، كغيرها من الدول العربية والإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية ( الرئيس الفنزويلي هوغوتشافيز قال في لقاء خاص مع قناة الجزيرة إنه : ناصري!) ، يلقي احتراما و تقديرًا متعاظمين وباقيين منذ ظهوره على المسرح السياسي العربي في بداية الخمسينيات ، حيث اعتبرته الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج تجسيدا لطموحاتها في الحرية والعزة و الكرامة ، لأنه كما قال المفكر ساطع الحصري " رجل اتسعت همته لآمال أمته " ، و مع أن الفترة التي ظهر فيها جمال عبد الناصر و إذاعة صوت العرب كانت موريتانيا لا تزال تدار سياسيا و تنظيميا من الإدارة الاستعمارية الفرنسية في " سينلوي " ( : اندرْ ) في شمال السنغال و لم تنل استقلالها بعد ، إلا أن البدو الرحل في كافة أنحاء بلاد شنقيط (أو مستعمرة موريتانيا) ، كانوا متابعين جيدين للتطورات المتسارعة التي يشهدها المشرق العربي منذ ثورة 23 يوليو 1952 ، وكان مجرد إعلان إذاعة صوت العرب بحنجرة الصحفي القدير الشهير" أحمد سعيد " عن قرب إذاعة خطاب للزعيم الكبير كفيل بأن يلغي الحي البدوي مراسم الارتحال إلى مكان أكثر خصوبة ومرعى ، خوفا من عدم إمكانية متابعة ما سيقوله عبد الناصر في خطابه من مواقف سياسية أوفكرية .. ولذلك انتشرت أسماء " جمال " في مواليد الستينيات في موريتانيا ، بل و أكثر من ذلك فإن تاريخ 28 سبتمبر 1970 بات جزءا من التقويم المحلي للموريتانيين ، فأصبح ببساطة " عام وفاة جمال "!! فأصبح يحال إليه و تثبت به عقود الميلاد و تقرب منه الأحداث الأخرى الجليلة أو تبعد .. هذه هي الصورة التي رسمها الموريتانيون لجمال عبد الناصر و عهده في مخيالهم الشعبي ، وذلك قبل أن يعترف بهم العرب في جامعتهم العتيدة في سنة 1973 بعد وفاة عبد الناصر بثلاث سنين ، وقد اعتذر الزعيم عبد الناصر للرئيس المختار ولد داداه ، كما قال لنا ذات مرة على هامش قمة سرت التي انبثق عنها إعلان الاتحاد الإفريقي 9 – 9 – 99 ، و أثبتها في مذكراته ، أنه لم يكن مطلعا على حقيقة الشعب الموريتاني ، وأصالته العربية الإفريقية ، وقد وعد بزيارة انواكشوط ( وهذا سرّ التسمية الاستباقية للشارع الرئيسي في العاصمة انواكشوط على جمال عبد الناصر ، كتعبير عن الترحيب الكبير بالزيارة و الاستعداد لها رسميا و شعبيا ) ، ولكن تداعيات النكسة الأليمة وحرب الاستنزاف و" إزالة آثار العدوان"! ، و أيلول الأسود لم تدع فرصة لعبد الناصر حتى أتاه اليقين قبل زيارة موريتانيا وعمره لم يتجاوز يوم رحيله اثنان و خمسين عاما ..رحمه الله...
الكزرات على الطريقة المصرية
تعرض الأفلام المصرية جوانب مختلفة و متباينة من حياة الشعب المصري ، وذلك في الموضوعات التي تتناولها ، وقد شاهدت في أحد هذه الأعمال المصرية فيلما يحكي عن " المساكن في المقابر" ، وهو ما لم أصدقه للوهلة الأولى ، واعتبرته نوعا من النقد الدرامي القوي لأزمة السكن و غلاء المعيشة في مصر لا أكثر ، غير أنني و بعد زيارتي لمصر وجدت الأمر خاليا تماما من المبالغة و التهويل ، إذ تجولت في " مدينة الأموات و الأحياء" في قلب قاهرة المعز لدين الله ، حيث تفاجأت بدبيب الحياة في المدينة الميتة ، مئات الأسر و العوائل ، إن لم يكن أكثر ، يقيمون سنوات عمرهم في المقابر .. يلاحظ المرء أسرة بكامل أفرادها تقيم في منزل تعلوه عبارة " مدفن فلان الفلاني ".. شيء أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع .. ولكنه الواقع المرير .. وحين تجاذبت أطراف الحديث مع سيدة عجوز عن ظروف الإقامة ، فإنها لم تبدى تذمرا و حنقا ، بل إنها قالت إن هناك من يبيتون ليلهم تحت الكباري و الجسور و في النهار يدورون على وجوههم على غير هدى دون أن يكون لهم بيت يأويهم قرص الشتاء ولفح القيظ .. فتنهدت ، وعلمت أن " الكزرات " أو الأكواخ القصديرية التي تسوّر العاصمتين انواكشوط و انواذيبو ربما تكون أرحم بكثير ، من العيش المذل المهين في هذه المقابر الجماعية ، التي ضاقت بها الحياة و أهلها ، الأخيرون الذين أرادوا أن يشوشوا على سكونها الأبدي بهرجهم و صراعهم الأسطوري من أجل البقاء بعيدا عن عالم الأموات الذي لابد لاحقوه وإن طالت أيامهم عمر نوح عليه السلام ، أو هو نوع من تقريب المسافة بهذا العالم المستقبلي ، أو دورة متقدمين و طلائع للتهيؤ لعالم الأموات ما دام عالم الأحياء يضن عليهم بأن يطعمهم من جوع أو يوفر لهم مسكنا لائقا بالأحياء وليس الأموات ..!
دفاع عن المرحلة الانتقالية
وقد أتاحت لي الزيارة اللقاء بنخب سياسية من الوزن الثقيل ، ومن بينهم رؤساء أحزاب و مرشحين لرئاسة الجمهورية ، أظهروا لي إعجابا رأيته مبالغا فيه بطبيعة الانقلاب العسكري في الثالث من أغسطس 2005 ، واغتنموا فرصة حضوري معهم باعتباري " من أهل مكة .."! من أجل شرح ملابسات و أهداف هذا الانقلاب و دوافعه " الحقيقية " ، ووجدتني منساقا للدفاع عن المرحلة الانتقالية ، مؤكدا على أن ما حدث " علامة فاصلة " في تاريخ موريتانيا ، وربما شبه المنطقة أو العالم الثالث ، حيث من شبه المستحيل عموما أن يحدث انقلاب على الحكم لا يريد منفذوه " الحيلولة " في السلطة ضد من كان فيها ليذوقوا طعمها ويتمتعوا بها ما تيسر لهم ذلك ، إلى أن يضيق آخرون ذرعا وينقلبون على أسلافهم .." كلما دخلت أمة لعنت أختها .." ، وقد كان في وعد المجلس العسكري بأنه لن يترشح أي من أعضائه أو حكومته الانتقالية دليلا على حسن النوايا ، ثم تصحيح الخلل الدستوري الذي كان يمكن من خلاله للرئيس أن يستمر مدى الحياة ، واستبداله بدورتين رئاسيتين فقط على الأكثر ، ..و غير ذلك من البشائر التي كانت كلها تؤكد على أن موريتانيا تنوي أن تقدم تجربة متميزة في مجال الديمقراطية التعددية السلمية .. و أكد أحد المسؤولين المصريين أن التجربة الموريتانية ، إذا نجحت ، قد تلهم الكثيرين للسير عليها من أجل تخليص بلدانهم من أدران الديكتاتورية والتسلطية . في حين ذهب آخر إلى أن الحركة الشعبية المصرية من أجل التغيير ( المعروفة اختصار بـ كفاية ) بدأت تضيف موريتانيا إلى شعاراتها السياسية ، حيث يكتبون ويهتفون :" موريتانيا يا موريتانيا خللي الجيش يخلصنا تانية .."!
موريتانيا : بريطانيا .. أهلا وسهلا!!
يشكو كثير من الموريتانيين حين يشيرون بمرارة إلى التجاهل العربي لهم ، وربما هم مساهمون في ذلك ومقصرون في تقديم أنفسهم بالشكل السليم أو ربما أن العرب لم يهضموا بعد أن الموريتانيين هم ورثة الشناقطة الذين يكنّ لهم العرب و المسلمون كل مودة وإكبار ، ولم أتصور أن ينالني نصيبي من ذلك .. وقد كان !
حدث ذلك حين عزمت على حجز موعد سفري على طريق القاهرة طرابلس ، وحين وصلت مكتب الخطوط الجوية العربية الليبية في ميدان طلعت حرب ، فوجئت بطابور من المسافرين ينوون إنهاء إجراءات حجوزاتهم ، وحين وصول دوري أخذت الموظفة المصرية الخمسينية جواز السفر و قرأته هكذا " أحمد وليد نافع " ، فصححت لها الاسم وهو ما تسبب في إزعاجها فأردفت " حضرتك من فين " ، فأجبت من موريتانيا ، فهزت رأسها بريطانيا أهلا وسهلا .. بس غريبة ! وما شاء الله عليك تتكلم عربي كويس..!!
فقلت لها نحن أهل العربية ..موريتانيا وليس بريطانيا ..دولة عربية ، فلاحظ رئيس الوردية الليبي غضبي من موظفته وقال لها : " هؤلاء يتكلمون العربية أفضل من جميع العرب الآخرين".. فاعتذرت قائلة إنها ، ربما نسيت ، و أنها لم تسمع أو تقرأ شيئا عن موريتانيا ..!
غير أن ذلك ليس قاعدة ، فقد التقيت ومعي الدكتور إسماعيل رئيس اتحاد الطلاب الموريتانيين بالقاهرة ، وكنا نسير في شارع طيبة بالمهندسين ، حيث التقينا صدفة بالفنان المصري طلعت زكريا ، فنبهني له ولم انتبه بداية ، مع أنني لا أجهل أدواره الكوميدية في أفلام عديدة منها : " حاحا و تفاحة " و آخرها " طباخ الرئيس" ، فقلت له لنسلم عليه ، فأظهر لنا بشاشة وترحيبا ، وحين سؤالنا إياه عن " هل تعرف موريتانيا " ، قال بالتأكيد ، وبأسلوب الدارجية المصرية المازحة " و ده كلام برضو .."
مصر هبة النيل
هكذا رأي الأقدمون أن النيل قد وهب مصر الحياة بجريانه الدائم فيها من جنوبها إلى شمالها ، و الذي بدونه ستكون الحياة صعبة إن لم تكن مستحيلة ، ويحرص القاهريون و زوار مصر على رحلات ليلية في " مراكب النيل " ، حيث تكفي جولة أو جولتين في هذه المراكب البحرية الصغيرة ، ليأخذ الإنسان فكرة عن ليل هذه المدينة العريقة التي لا تنام ..
وبمجرد أن تعطي التعريفة المطلوبة لا بد أن تنتظر حتى يكتمل العدد الإجمالي للحمولة ، أو إذا كنت من الموسرين ، فعليك أن تدفع مصروف الحمولة ، وذلك من أجل أن يتمكن المركب من الإبحار بك في جولة في نهر النيل تتنسم فيها عبقه وتدرك أهميته للمصريين قديما وحاضرا ومستقبلا .. وقد تستمع داخل هذه المراكب بنماذج من الأغاني التقليدية لأم كلثوم أو عبد الحليم ،أو محمد عبد الوهاب ، وقد يجبرك المشرف على المركب بأن تستمع لأغاني متواضعة ذوقا وحسا فنيا من عينة " ليك الواوا ..!"
وما عليك إلا الصبر حتى يئوب المركب الصغير إلى مرساه بعد هذه الرحلة السياحية الصغيرة التي تطل فيها على جهات وجوانب من مدينة القاهرة على جنبات النيل الخالد .
وفي ختام الزيارة ، لا يمكن أن أنسى مستوى الأريحية التي يلاحظها زائر مصر من الشعب المصري بعامة ، وهو الذي يتميز بالبساطة و التواضع الكبير و تقدير الضيف و الغريب ، أما النخب المصرية في مراكز الأبحاث و الجامعات فإنهم متجاوبون إلى أبعد الحدود ، وهنا أسجل التسهيلات التي لقيتها من مكتبات جامعة القاهرة كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ، ومكتبة الدراسات العليا بجامعة عين شمس ، ومكتبة الدراسات العليا بكلية التجارة جامعة الإسكندرية ، ومكتبة الإسكندرية الكبرى ، ومكتبة معهد التخطيط القومي ، ومكتبة الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي و التشريع و الإحصاء ومقرها قرب الشهر العقاري ونقابة المحامين و جمعية الشبان المسلمين .. كل هذه الجهات ضربت مثلا في التعامل الإنساني مع ضيوف القاهرة ، وبذلك لم يخب الظن في مصر أبدا .. التي قدرها أن تظل في قلب هذه الأمة قاعدة وقائدة ورائدة ..كان هذا في التاريخ الفرعوني و الإسلامي و الحديث ، وهذا حكم التاريخ والجغرافيا .. فلا مستقبل لمصر دون أمتها ، شاء من شاء و رفض من رفض..أتمنى أن أزور أرض الكنانة في ظروف أفضل لست فيها مقيدا بالبحث العلمي و سرايا معرض القاهرة الدولي للكتاب حتى أعيد اكتشافها دائما و أبدا ..فتحية لمصر و أهلها الذين هم أهلنا و إخوتنا ..ولنا فيها نسبا وصهرا كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
نقلا عن موقع صحراء ميديا :
http://www.saharamedia.net/new/index.php?option=com_content&task=view&id=1275&Itemid=36
0 التعليقات:
إرسال تعليق