بول كروجمان " تحليل النظريات الاقتصادية ".
PAUL KRUGMAN “ THE ACCIDENTAL THEORIST”
ترجمة : رانيا محمد عبد اللطيف
الناشر : الدار الدولية للاستثمارات الثقافية – القاهرة – مصر
عدد الصفحات : 270 صفحة .
تاريخ الطبعة العربية : نهاية 2007 .
عرض و قراءة – الدكتور أحمد ولد نافع
يعتبر هذا الكتاب ، الذي ألفه مدرس العلوم الاقتصادية في جامعة برينستون الأمريكية و الحائز لجائزة نوبل في الاقتصاد للعام 2008 الدكتور بول كروجمان ، أحد أكثر الكتب المشوقة المترجمة حديثا إلى اللغة العربية . وخبرة كروغمان في التدريس و علمه الغزير ، ورغبته في تسهيل فهم الأفكار الاقتصادية للعامة هي ما دفعته إلى تحويل هذا العلم من علم ممل و كئيب إلى تحليل سهل وميسر في متناول جميع القراء العاديين .. وهذا ما أشار إليه في المقدمة .. وكان يستغل فرصة الأحداث الاقتصادية التي تعيشها أمريكا أو فرنسا أو بلدان شرق آسيا مثلا ليجعل من ذلك مدخلا منهجيا ليبني على أساسه رؤيته التحليلية المؤسسة على النقد و المعالجة .
النظرية الكينزية وما بعدها
على الرغم من أداء الاقتصادات الرأسمالية الرئيسية في أمريكا و أوروبا الغربية و ازدهارها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية و حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين ، فإن النظريات الاقنصادية قد برهنت في أوضاع الأزمة التي تصيب الرأسمالية من فترة إلى أخرى على فشلها كما قال رئيس الوزراء البريطاني تشرتشيل ذات مرة .
إن أفكار النظرية الكينزية التي راهنت على وضعية توازن المتغيرات الكلية في الاقتصاد في المدى القصير ، على اعتبار أننا كلنا ميتون في المدى الطويل ، تؤكد على أن معدلات الفائدة لا تتحدد بالتوازن بين المدخرات و الاستثمارات عند مستوى العمالة الكاملة ، إنما بحسب تفضيل السيولة الذي يعكس رغبة الناس في حيازة النقود . غير أن هيئة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ، بحسب كروجمان ، كانت تستخدم سياسة معدل الفائدة زيادة أو تخفيضا بحسب الوضع الاقتصادي رواجا أو كسادا !
لقد حرصت النظرية الكينزية على إصلاح الرأسمالية لتجنب انهيارها ، ولذلك داست على بعض معتقداتها في سبيل البعض الآخر ، وانتهكت حرمة معبودها - السوق - بإدخال الدولة في النشاط الاقتصادي كلاعب رئيس.
وكردة فعل على النظرية الاقتصادية الكينزية جاءت أفكار مدرسة جانب العرض (Supply Side Economics ) التي تربط كل أزمات الاقتصاد بـ" ارتفاع تكاليف الضرائب" ، وقد سخر من هؤلاء كروغمان واصفا إياهم بالفشل في التحليل الاقتصادي الكلي ، فمثلا فإن الضرائب وفرت للحكومة الاتحادية الأمريكية في عهد كلينتون حوالي 82.2% من مواردها ، لكن الدعم الموجه لتستفيد منه الطبقات الاجتماعية الخاصة ( فئة المسنين و الفقراء ) لم يتجاوز 5% فقط !!
منافع العولمة هل تدوم؟
لقد باتت العولمة ظاهرة جدية ، فالتجارة الدولية و الاستثمارات قد ازدادتا بثبات أكثر و أسرع من باقي بنود الاقتصاد العالمي ، وهذا ما دفع اقتصادات التكتلات الدولية الكبرى إلى الاعتماد المتبادل على بعضها البعض أكثر من أي وقت مضى ، وهذا ما جعل الدول المتقدمة و النامية كليهما يتحفزان لجني ثمار العولمة و منافعها .
و في سياق اقتصاد العولمة ومنافعه ، فتوجد مجموعة من الصناعات ذات الأجور المنخفضة التي أتاحت الفرصة للدول النامية كي تغزو السوق العالمية بسلع واسعة الاستخدام كالأحذية و القمصان الرياضية ، وهو ما يسهم في تحسين الأوضاع المعيشية للقوى العاملة في هذه الصناعات ، وذلك بالرغم من أن تلك الأجور تعادل في متوسطها ما يتقاضاه أحد المراهقين الأمريكيين العاملين في إحدى سلاسل مطاعم ماكدونالدز الشعبية.
ويعتبر الحاسوب أهم سمات ثورة الاقتصاد المعرفي للعولمة ، وذلك بالرغم من السؤال المتعاظم حول دوره في زيادة الإنتاجية ، حيث أدركت كبريات الشركات المنتجة مؤخرا أن الإكثار من أجهزة الحاسوب في المكاتب يحتاج إلى دعم فني ومشتريات متكررة من السوفت وير الحديث و إعادة تدريب الموظفين والفنيين ذوي العلاقة بالتقانة الفائقة وما إلى ذلك . فإذا كان هناك كومبيوتر بثمن 2000 دولار على أحد المكاتب فسوف يتطلب ذلك تكلفة خفية لا تقل عن 8000 دولار .
هذا على افتراض عدم توظيف ساعات عمل أخرى في اللعب على الجهاز أو التواصل عبر شبكة الانترنت .
وفي المجمل فإن كروجمان يوضح أن العولمة لم تستطع إدارة تداعيات الدورات الاقتصادية ، التي استمرت منذ المائة و الخمسين عاما الأخيرة من عمر الرأسمالية على نحو أكثر فعالية من ذي قبل في التعامل مع الأزمات المشابهة ، بل إنه تمت الاستعانة بآليات و وسائل تقليدية ، مثل كبح جماح القطاع الخاص و تأميم بعض المؤسسات و التدخل في طريقة عملها إنتاجا و توزيعا .
وقد كان عقد التسعينيات بامتياز هو عقد أزمات المضاربات المالية على الأسواق و العملات ، وهي الأزمات التي لم يعد معها الاقتصاد " خطيا " ، بل إنه بات " فوضويا " أكثر من أي وقت مضي ! و أظهرت الوقائع و الأحداث قدرة مضاربين دوليين مثل جورج سوروس على التأثير على بعض اقتصادات العالم جراء دعاوى تعويم العملات و تحرير أسعار الصرف ، وهو ما عرّض تلك الاقتصادات لكرات المضاربين على نحو خطير، و هذا الدرس المستفاد من أزمة نمور شرق آسيا في النصف الثاني من التسعينيات من القرن العشرين.
وفي أمريكا ، فإن إتباع مجلس الاحتياطي الفيدرالي سياسةً نقدية توسعية سيعمل على خفض قيمة الدولار الذي قد يقود إلى التضخم في ما إذا كانت معدلات الأسعار في الولايات المتحدة مقيدة أساسا بالتنافس الخارجي . لأن السياسة النقدية التوسعية لها تأثير على التضخم في دولة ذات نصيب كبير من الواردات و أسعار صرف معوقة أكبر من تأثيرها على نظام اقتصادي ذاتي الاكتفاء خلافا للاقتصاد الأمريكي الذي يشكو من العجز التجاري مع شركائه التجاريين كاليابان و الصين مثلا .. وربما في هذه الجزئية فإن كروجمان قد تنبأ بالأوضاع الحالية للاقتصاد الأمريكي التي تحيل إلى عينة من أزمات الرأسمالية في ثلاثينيات القرن الفارط .
أصولية السوق ..ومستقبل الرأسمالية
ظل الاقتصاديون زمنا طويلا ، و ربما الكثير منهم حتى الآن ، يعتقدون أن نظام السوق الحر الكلاسيكي " دعه يعمل ، دعه يمر " هو أفضل طريقة فعالة لإدارة أي اقتصاد طالما باتت الأسعار حقيقية ، وطالما دفع الناس التكلفة الاجتماعية الحقيقية لأفعالهم . ولكن الأثمان لن تعكس دائما حجم التكاليف الإجمالية ، وخصوصا بعض التكاليف الاجتماعية و البيئية .
وخلال تجارب تنمية الدول الرأسمالية ، فقد كان الثمن فادحا على مستوى الوسط البيئي الذي بات تدهوره ينذر بالكارثة الشاملة لكل ما بناه الإنسان من انجازات مادية ومعنوية ، وهو ما جعل أزيد من 2500 عالم اقتصاد يعيدون تعريف مفهوم التنمية ويضيفون إليه الاستدامة ، ليكون التنمية المستدامة ، بمعني ذلك النمط التنموي الذي يعقلن ويرشد استخدام الموارد الطبيعية ويأخذ عنصر البيئة بعين الاعتبار .
وهو ما فتح المجال أمام ما يعرف بـ" الضرائب الخضراء" ، وهي الضرائب المخصصة لمحاربة التلوث وحماية البيئة المحيطة بالنشاط الإنساني لتكون خضراء بدلا من أن تظل " سوداء " بسبب آثار الاحتباس الحراري و التلوث عموما و تراكماتهما المستقبلية ذات التأثيرات التدميرية وليس أقلها ثقب الأوزون المتعاظم ، و الذي بات يهدد الحضارة البشرية في الصميم.
ومع أن التجارب أكدت أن نظام السوق الليبرالي لم يصل بالموارد الاقتصادية إلى التسيير الفعال و العقلاني ، ولهذا فليس غريبا أن يكون هناك اتجاه اقتصادي لا يزال يتمتع بالحضور القوي في الكثير من الدول ، ومنها الولايات المتحدة ، يعارض توسيع نطاق الأسواق الحرة و التسليم الأبدي بالنظريات الاقتصادية الرأسمالية.
كما ينجم عن آلية السوق ، في المجال الصحي مثلا ، وجود خلل في تعميم الرعاية الطبية على المواطنين ، وهذا ما حدا بالرئيس الأمريكي جونسون إلى اتخاذ برنامج " ميدي كير للرعاية الطبية في 1965 " ، الذي لولاه فإن المجتمع الأمريكي سينقسم تلقائيا إلى أثرياء يمتلكون القدرة على اقتناء مفاصل صناعية و دعامات لشرايين القلب ، وفقراء قليلي الحظ ليس لهم إلا أن يتعرجوا ويتألموا في الطرقات أو يواجهوا مصيرهم المحتوم!
إن كل المثالب التي يوصم بها اقتصاد السوق الحر تصغر أمام حقيقة أن السوق بات في مواجهة حدية مع المعني الحقيقي للديمقراطية ، فسوق أكبر يعني ديمقراطية أقل ، وهذا ما عكسته أحوال الشركات العابرة للأوطان و القوميات التي باتت بمثابة حكومة الفضاءات الاقتصادية الدولية ، وبلغ الأمر مبلغه حين باتت الدولة الوطنية تتسول موطء قدم لدى هذه المؤسسات الجديدة التي لا تهتم إلا بالطريق السريع – في عصر السرعة – لتعظيم المنافع وجني الأرباح ..
فالشعوب وهي تتظاهر و ترفض النفوذ المتعاظم للشركات العالمية ، تطالب بأن تسيطر على مواردها و إمكانياتها في سبيل تحقيق أمانيها في الحياة الكريمة ، وهذا يتطلب أن تسيطر على قرار مستقبلها السياسي بديمقراطية حقيقية وليست شكلية ومقتصرة فقط على آلية تشرع الباب أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة لنهب الموارد الوطنية للشعوب و المجتمعات المختلفة.
ويري كروجمان أن أي اقتصاد يجب عليه تقديم خدمة للمستهلك أو منفعة مباشرة ، وإلا فمن الجائز وصمه بالفشل الكبير ، فملايين الأسر في العالم الثالث لا يريدون مشاهدة رسوم أو صور جميلة على الانترنت ، بل يريدون الحياة في منازل جميلة إضافة إلى تملك سيارات وغذاء و كساء و دواء !
و أمام النفق الذي سارت و تسير فيه الرأسمالية ، فإن كروجمان يرى مع اقتصاديين آخرين ضرورة تجاوز بعض الأفكار و النظريات الاقتصادية التي جمدت عن مواكبة التغيرات المتسارعة في احتياجات مواطني الألفية الجديدة .
لقد كان هذا الكتاب بالفعل تحليلا للنظريات الاقتصادية ، حيث حاول فيه المؤلف أن يزيل الانطباع لدى العامة بأن علماء الاقتصاد مملون ، يهتمون فقط بنظام من المعادلات و الرسوم التوضيحية و المصطلحات المبهمة ، بينما الناس يبحثون عن شيء يعطيهم الإحساس بالرضا العاطفي أو السياسي . ولعل ذلك ما دفعه إلى تبسيط آراء وتحليلات الاقتصاديين برؤية نقدية شمولية وتاريخية بثها في هذا الكتاب المتميز الذي هو في الأصل مقالات و بحوث نشرها المؤلف في مجلات أمريكية مثل " سليت " ، و " واشنطن مانثلي " ، و " فورن آفيرز" ، و " نيويورك تايمز".
نقلا عن موقع الجزيرة نت /www.aljazeera.net
0 التعليقات:
إرسال تعليق