وثقت كتب السيرة والتاريخ قبل ثماني قرون مضت وقائع الهجمات المغولية التترية التي قادها جنكيز خان وأدت إلى اجتياح واسع النطاق لمناطق واسعة من آسيا المعروفة حاليا ، وما يهمنا منها هو ما حدث في اجتياح عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد التي عاث فيها المحتلون يومها خرابا وقتلا ودمارا ، واحرقوا مكتباتها التي عمّرت ذات يوم بخزائن دار الحكمة ، وزرعوا الفساد بكل ما تتسع له معانيه. وكان ذلك مثالا واقعيا على الوحشية حين تغدو سلوكا إنسانيا معتادا.. ذلك غيض مما تداعي إلي ذاكرتي حين شاهدت والعالم أجمع نزرا يسيرا من الصور البشعة المروعة التي تسبب فيها الأمريكيون وحلفاؤهم في سجن أبو غريبمنذ سقوط بغداد في 9 نيسان أبريل 2003.. إلا أن ما يستحق الوقوف عنده أنه قبل غزو العراق وفي ظل تداعيات هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي جرحت كبرياءأكبر زعيمة للعالم الحر ، جعل الحكومة الأمريكية خصوصا جناحها الليكودي( والوصف للوزير باول") يدق طبول الحرب على ما يسمى الإرهاب في أفغانستان لاستئصال شأفة حركة طالبان و ضيوفها من تنظيم القاعدة الذين نفذوا تلك الهجمات الشهيرة. ولم يمضي وقت طويل حتى وقعت أفغانستان تحت وطأة الاحتلال الأمريكي الذي بلغ نصره العسكري المحقق بعد أن استخدمت أحدث آلات الدمار والفتك المعروف منها والمجهول .ومع فشلها في القبض على الرؤوس الكبيرةمن طالبان والقاعدة ، فإن أمريكا استطاعت أن تلقي القبض على الآلاف قي معسكرات اعتقال جماعية لمن نجا من الموت في المعارك داخل القواعد العسكرية التي ذرعت طول أفغانستان وعرضها ، ومن بين أولئك تم شحنالمئات منهم من أكثر من أربعين دولة إلى معسكر اعتقال تم تجهيزه خصيصا لذلك في إحدى الجزر الكوبية النائية في عرض البحار التي اتخذها الجيش الأمريكي قاعدة منذ تفاعلات الحرب الباردة.وهكذا تحولت قاعدة جوانتاناموإلى أكبر معتقل تاريخي خارج دائرة القانون الدولي والأعراف الإنسانية. حيث لا يدرك العالم قاطبة على وجه الدقة ما يدور داخل أسوار الحصن الرهيب إلا فتات المعلوماتالذي نشره بعض المفرج عنهم مؤخرا ، والتي تؤكد أن الحياة داخل المعسكر أشبه ما تكون بـالتراجيدياحية أبطالها ومنفذوها بشر تجري في أجسادهم الدماء ، وهي تراجيديا حصدت أرواح كثيرين تحت وطأة التعذيب الهمجي. ومن بقي منهم على قيد الحياة أصابه الخبل والجنون ، ولم تجدي نداءات المنظمات الدولية العالمية ولا الأمم المتحدة في أن يكشف النقاب عن يوميات جوانتاناموالتي ربما لو رفع عنها حجاب السرية والكتمان لأدت إلى تغيير في الكثير من التصورات حول ما يجري باسم الحرب على الإرهاب"! وقد أشارت جريدة الواشنطن بوست في عددها الصادر في 10/5/2004 إلى معلومات تشي بخطورة الأوضاع داخل السجن المذكور حيث يتم استجواب السجناء عرايا تحت أزيز الموسيقي الصاخبة وبعد حرمانهم من النوم ليالي متوالية .وبعد حربهم على أفغانستان شحذ الليكوديونأسلحتهم لغزو بلد عربي مسلم تحت ذرائع أوهي من خيوط العنكبوت ، ومن بينها تخليصالعراق من أسلحة الدمار الشامل الحلال على إسرائيل وحدها في الشرق الأوسط ، و كذلك نشر رسالة الحرية والديمقراطيةفي المنطقة وأولها بلاد الرافدين ، لكن حقيقة الأمر ببساطة هي أن الهدف هو السيطرة والهيمنة على العراق كدور وموارد .وقد أدرك المجتمع المدني العالمي حتى قبل اندلاع الغزو حجم الكوارث التي يتم التخطيط لها وشهدت أرجاء البسيطة مظاهر الانزعاج من الحرب التي كان قرارها في البدء والمنتهي قرارا أمريكيا صرفا ، وحتى الأمم المتحدة التي كثيرا ما تم إجبارهاعلى إضفاء أغطية الشرعية ولو كانت شفافة لم تستطع هذه المرة ?خلافا لمرات أخرى- إلا أن تعلن بافتقار قرار الولايات المتحدة للشرعية الأخلاقية فتهاوت كل ذرائعها الواحدة تلو الأخرى بسرعة البرق و استحال العراق إلى مختبر كبير لتجربة صنوف القهر والإذلال اليومي للمواطن العراقي يبقي بعده كل حديث عن إدانة للدكتاتورية أو تبشير بالحرية كلاما فارغا ومفروغا منه.وكان غزو العراق مثال صارخااتضحت معه وبه أهداف ونوايا المسكونين بجنون العظمة والغطرسة الذين يرون أنهم مبعوثي العناية الإلهيةلتطهير الإنسانية من الشرور والآثام ، وذلك ما أثبته الكاتب الأمريكي ستيفن مانسفيلد في كتابه الأخير عن عقيدة جورج بوش ، وهو نمط مطورلفلسفة نظرية الحق الإلهي التي سادت قديما ويبدو أنها لاتزال تلقي بظلالها في الألفية الجديدة ولدى من هم في قمة التقدم العلمي والتكنولوجي ، وما يهمنا منها هو أن ترجمتها على أرض الواقع في بلاد الرافدين تمت بأسلوب ومنهج أبعد من أن يؤدي إلى الحرية والديمقراطية المجني باسمهما"، حيث لم يجد الشعب العراقي أثرالتلك الحرية اللهم إلا إذا كانت تعني حرية الاحتلال في العبث بالعراق أرضا وشعبا وصب ألوان العدوان عليه ووسم الألوف المؤلفة من أبنائه سوء العذاب في السجون والمعتقلات على طريقة فرعون قديما أو شارون حديثا.و تأكيدا على ذلك يمكن أن تتنزلوقائع سجن أبو غريب في بغداد في هذا الصدد ، وذلك بعد أن اصبح السجانون وحوشا بشرية كاسرة تنتشي فرحا وسادية وهي تنزل العذاب و الإهانة للأـبرياء وتعاملهم معاملة أدنى من معاملة الحيوانات في البرية!! هل تلك هي القيم التي لقنوها أثناء تحشيدهم وتعبئتهم للحرب؟ أم أنها تعكس ثقافة أمريكا التي يراد غزو العالم لتعميمها عليه؟وبدلا من الاعتراف بالجرم الكبير الذي ارتكبه القادة الأمريكيون بزعامة الليكودييْن العتيدين رمسفيلدو مايرزلحفظ ماء وجه أمريكا الذي تبخر منذ زمن ، شاهد العالم بأسره الرئيس بوشوهو ينتحي جانبا في حفل بهيج في بيته الأبيض 10/5/2004 ملتفتا إلى الوزير رمسفيلد واصفا إياه بأنه أفضل وزير للدفاع في التاريخ الحربي الأمريكي وهو بذلك يستحق الشكر والثناء العميم على جهوده وصنيعه!.. هكذا إذن .. إنها مفارقة كبرى وملهاة شكسبيرية أن يتم توشيحوزير الدفاع من رئيسه على جهوده الحربية وفي طليعتها إبداعات سجن أبوغريبفي بغداد .. وهي الإنجازات ? الفظائع "التي سيذكرها التاريخ بالبنط العريض على أساس أنه إحدى أروع القصص على هدر الكرامة الإنسانية. إن العزة بالإثم التي أخذت الأمريكيين بعد فضح أمرهم في أبوغريب و إعلان مشاة البحرية أنهم ليسوا أكثر من أدوات تنفيذللأوامر العليا الصادرة من البنتاغون .. يدلّل على عمق الإفلاس السياسي الذي تعانيه الدبلوماسية الأمريكية التي يحركها حق القوة وليس قوة الحق لإرواء عطشها المرضي إلى السيطرة والتسلط على العالم .. وذلك طريق ليس سالكا دائما ، وهذا من دروس التاريخ التي لا ولن تنسي وقد شهد بذلك النهايات المأساويةلمشاريع الطغيان العمياء التي حاولها هتلر وموسيليني وستالين وغيرهم .. ومثل تلك الدروس قد لا تجدي نفعا واستيعابا مع الأمريكيين ربما لأنهم بلد حديث عهد بالتاريخ ، وبالتالي فذاكرتهم التاريخية اللاشغوفة بالتاريخ قد تدفعهم إلى المزيد من حماقات النهاية السياسية كونيا بعد أن يجيئ دور الاستنزاف على الاقتصاد تأسيسا على ما أعلنته الأخلاق من إفلاس في فيتنام واجوانتانامو وابوغريب .. والبقية تأتي!
نشر في موقع الأخبار بتاريخ 17/5/2005
0 التعليقات:
إرسال تعليق