لم تكن قوات التحالف الأنجلو أمريكي تنتظر حين يتم التمثيل بجثامين الجنود الأمريكيين في الفلوجة لتعلن الحرب الشعواء على المدينة الآمنة بأحدث صنوف الآلة العسكرية المدمرة ، بل إنها في واقع الحال قد أعلنت تلك الحرب الظالمة على الفلوجة منذ فترة بعد أن غدت رمزا "عراقيا" للمقاومة المسلحة للقوات المحتلة للعراق. وفي الوقت الذي كان الحاكم الأمريكي للعراق يجهز نفسه بوسائله المختلفة للاحتفال بمايدعوه :" الذكرى الأولى لتحرير العراق" ، كان المقاومون يعدون عدتهم لتكبيد القوات المحتلة خسائر نوعية لا تقل في اهميتها عن حدث "سقوط" العراق واستباحته أمريكيا.وليست عملية " التمثيل" بالجنود الأمريكيين في العراق هي الأولى في التاريخ الحربي الأمريكي ، بل إنها هي الثانية ، فقبل حوالي عقد من الزمن فعلها المقاومون الصوماليون الذين وجدوا أراضيهم وأعراضهم منتهكة صباحا ومساء على يد القوات الأمريكية الغازية ، فما كان منهم إلا إعلان المقاومة ، وتمكنوا في ظرف وجيز من إصابة الأمريكيين في مقتل وأوقعوا مجموعة من المارينز بين قتيل وجريح في إحدى عمليات المقاومة وساروا بجثامينهم في شوارع مقديشو يوما كاملا على مرأي ومسمع من العالم كله .وكان ذلك إيذانا بفشل الحل العسكري الأمريكي في الصومال مما دفع المارينز إلى حمل أسلحتهم على كواهلهم ومغادرة أرض الصومال! والواقع أن الإدارة الأمريكية الحالية تساس من طرف مايسمي بالمحافظين الجدد (بوش ، وتشيني، ورامسفيلد..) وبالتالي فإن لهؤلاء أجندتهم الخاصة بضرورة السيطرة على الشرق الأوسط بأية وسيلة( نشر الديمقراطية ، منع انتشار أسلحة الدمار الشامل إلا على إسرائيل..) ، وأرادوا أن يجسدوا عمليا مشاريعهم المفصلة على مقاس الشرق الأوسط إنطلاقا من " نموذج أولي" اختاروه أن يكون العراق ، ليسهل استنساخه وتعميمه على الدول الأخرى بعد " نجاحه" المرغوب بطبيعة الحال..إلا أن أولئك المحافظين و من يعززهم من الساسة والاستراتيجيين الأمريكان لم يحسنوا هذه المرة قراءة إحداثيات الموقف الجيوسياسي واستراتيجي لغزو العراق.وكانت بداية " أمارات الفشل" هي أن الجنود المارينز لم يستقبلوا بالقبول والورود كما اشيع شططا ، لكنهم استقبلوا بالرفض المطلق والبنادق! هذا من سنن الكون التي لاتتبدل لأن من وقع موضوعا للاحتلال بكل مايعنيه ذلك من هدر للكرامة و انتهاك لآدمية الانسان واستباحة لحرماته ، لايمكن إلا أن يدفع عن نفسه وبكل ما أوتي من أسباب مايرد عنه غائلة العدوان استردادا للحرية الحمراء التي يدق بابها بكل يد مضرجة كما يقول الشاعر العربي. ولهذا يمكن للمرء أن يفهم الشجاعة الأسطورية لأهالى الفلوجة ، وفوق ذلك يمكن ببساطة الوثوق من الفرضية القائلة بأن بغداد "سلمت" خيانة وغدرا بدون حرب ، وإلا فكيف تصمد الفلوجة عدة أسابيع ولايتجاوز عدد سكانها ثلاثمائة نسمة في حين تسقط بغداد في يوم واحد وهي التي يناهز قاطنوها الــ6 مليون نسمة !! وبينت يوميات حرب الفلوجة " جبن " قوات التحالف الأنجلو أمريكي المدججة بطائرات مقاتلة من نوع ف16 و ف 18 ، وبى 52 ، وغيرذلك من أفتك أسلحة الدمار الشامل ، في الوقت الذي لايملك أهالى الفلوجة اكثر من " خردة" سلاح ، لايعززها إلا الايمان بعدالة القضية وياله من سلاح أمضى كثيرا من الاسلحة المادية كلها. وقد تكون الحرب المعلنة بجميع تسمياتها وألوانها على المقاومة العراقية سواء كانت في الفلوجة أو النجف أو القائم أو أي مكان آخر في أرض العراق ليست سوى محاولة " لتسوية الأرض " قبل حدث 30 حزيران يونيو القادم ، الذي أعلنته القوات الغازية كتاريخ لتسليم السلطة وليست السيادة لمايسمى " مجلس الحكم الانتقالي" المعين من طرف " بول بريمير".. والذين سيسلمون السلطة ? شكليا- هم من جاؤوا مع دبابات الاحتلال الخلفية ، ولايعرفون شيئا من أمر العراق ، ولاتعرفهم الجماهير العراقية ، بل إنهم أفنوا أعمارهم يتنقلون بين لندن وواشنطن التي ربما يعرفون من شوارعها وطرقها أكثر مما يعرفون عن حارات بغداد وأحيائها.لهذا فهم في واد والعراقيون في واد آخر بهمومهم ومشاكلهم الحياتية ، وهو أمر يجعلهم أبعد مايكونون عن كسب ثقة الجماهير العراقية . ولعل ذلك ما فهمه الاحتلال أو " أفهموه" له، وهو ما دفع بقوات الاحتلال لشن تلك الحرب الشاملة على ما يصور أنه " منابع" للرفض الشعبي لما يخطط له الاحتلال وأعوانه الذين وجدوا أنفسهم في حرج شديد حين لم يتجرأوا على إدانة صريحة ? مع استثناءات قليلة- للإبادة الجماعية للعراقيين في كل أنحاء العراق خوفا من إغضاب السيد" بريمر" ، بل إنهم أكثر من ذلك طالبوا الفلوجيين بتسليم من قاموا بالتمثيل بجثامين المارينز ، ولسان حال أولئك أن قتل سبعة أمريكيين والتمثيل بهم جريمة لاتغتفر ، بينما قتل العراقيين بالجملة والقطاعي مسألة تحتاج أكثر من نظر! وهذا بالتأكيد منطق مقلوب لحقيقة الأشياء قد لايوازيه في عجبه سوى أن يدار عراق الحضارات الانسانية من طرف الأمريكان.وقد برهنت المعركة بين الفلوجة وقوات الاحتلال أن الأهالى هم طراز نادر من الأبطال الأشاوس الذين استطاعوا أن يضربوا المثل لمن يريد في التضحية والفداء ، كما أنهم أعطوا بصمودهم دروسا مجانية لصناع الحروب في هذا الزمان سواء كانوا في الصفوف الأمامية أي الإدارة الامريكية الحالية ، أو للآخرين القابعين في المراكز البحثية وغيرها ممن ظلوا يرفدون الساسة الامريكان منذ نصف قرن بخططهم وتحليلاتهم و طموحاتهم في الغزو والسيطرة على العالم. وسقطت أيضا نظرية التفوق العسكري التي تباهي بها الأمريكيون وأرهبوا العالم بها ، بعد أن ثبت في الفلوجة أن القوة الباطشة ليست وسيلة النصر للجندي الذي لم تعلمه الجغرافيا الأمريكية أن يجتاز الحدود إلى ماوراء البحار ليواجه الموت الزؤام.وانتصرت ارادة من يتسلحون بالقوة المعنوية المعززة بالوحدة بين أولئك الخاضعين للاحتلال ، واستطاعوا بأتفه الوسائل العسكرية مقارنة بعتاد الخصم أن يحققوا النصر الذي هو أن يفشل العدو في الوصول إلى أهدافه الاستراتيجية المعلنة والخفية. ومع أن اهل الفلوجة مسلمون وعرب إلا أنهم لم يجدوا مناصرة من الحكومات الاسلامية والعربية باستثناء الجماهيرية الليبية التي كانت الدولة الوحيدة التي أعلنت رسميا الحداد ، ولكن الشعوب من المحيط الى المحيط كانت هناك حاضرة في المعارك بقلوبها ومشاعرها الجياشة. و تؤكد تجربة سنة من الاحتلال خطورة المأزق الذي يواجهه المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط الذي يستند على القوة الباطشة ، وصدق مهاتير محمد حين قال :" إن عدد من قتلته القوات الغازية للعراق يفوق كل مايروج عن القبور الجماعية.." وشهد العالم أن ماتم الترويج له من خلق " جنة الفردوس" على أرض العراق لصالح العراقيين لم يكن إلا أكذوبة كبرى قد لايعرفها الناخب الأمريكي إلا بعد فوت الأوان وبعد أن تقع الفأس في الرأس كما يقال.إلا أن الشعوب الأخرى في العالم اكتشفت قبل ان تندلع المعارك حجم الزيف الذي يراد تسويقه وتمريره. والشعوب بطبيعتها راغبة في الحرية والديمقراطية وكارهة للظلم والطغيان والتجبر ، ولذلك فلن يذهب كثير من الوقت حتى يعلموا علم اليقين أن هناك فرقا شاسعا بين القول والعمل ، بين الحرية وهم لايأمنون على أنفسهم من رصاصة طائشة من قوات الاحتلال في أية لحظة ، وبين الديمقراطية وهم لايملكون منها غير التظاهر والصراخ الذي يصل الى كل شيء إلا أن يصل إلى آذان المحتل ، إنها باختصار "ديمقراطية الاحتلال" اذا جاز هذا المفهوم! ومادام الاحتلال جاثما على الصدور فليس أمام العراقيين من خيار إلا المقاومة وهم ليسوا أقل شأنا من الأمريكيين أنفسهم الذين قاوموا الاحتلال البريطاني وهزموه واستحقوا أن يثابوا على ذلك بهدية تمثلت في " مشعل الحرية" الذي أهدته الثورة الفرنسية إلى الأمريكيين .ولو كان هؤلاء الأخيرين منصفين لأهدوه إلى الثوار العراقيين الذين لاذنب لهم إلا أن يحرروا أرضهم من دنس الاحتلال مثلما تحررت أمريكا قبل ذلك من الاحتلال ، فهل نلومهم على رغبتهم في التحرر أم أنه يحل للأمريكيين أن يحرروا أنفسهم ويحرم على العراقيين ذلك ؟ أي شرعة أخلاقية تحلل وتحرم مثل الشرعة الأمريكية التي تحلل لنفسها واسرائيل القتل والتقتيل والاغتيال آناء الليل وأطراف النهار في فلسطين والعراق وافغانستان وتحرم على تلك الشعوب ان تقاوم ، وتصف مقاومتها للاحتلال بانها " ارهاب" ! أما أنتم أيها " الفلوجيون" بخاصة والعراقيين بعامة فقدركم هو جلاء الاحتلال عن أرضكم لأنكم شعب يستلهم ذاكرته التاريخية التي ترفض الظلم والأذى أيا كان مصدره ، وليس أمام الأبطال إلا الانتصار يكونون به أو لايكون .تلك هي إحدى السنن الكونية التي لن نجد لها تبديلا أو تغييرا.
نشر في موقع وكالة الأخبار المستقلة بتاريخ 21/4/2004
0 التعليقات:
إرسال تعليق