26 مارس 2008

مقابلة شاملة مع جريدة الأمل الجديد اليومية - انواكشوط - موريتانيا

مقابلة شاملة مع جريدة الأمل الجديد اليومية – انواكشوط – موريتانيا


الأمل الجديد :
تعيش موريتانيا حاليا وضعية اقتصادية واجتماعية تتميز بنوع من الغموض والضبابية خاصة في ظل الجدل الطارئ بين النظام والمعارضة حول الوضع الاقتصادي ، بوصفكم أستاذا للعلوم الاقتصادية ، كيف تقيمون هذه الوضعية من زاوية مهنية بحتة بعيدا عن السياسة ومواقف أهلها؟؟

أحمد ولد نافع :
من الصعب البعد عن السياسة ، وحتى الاقتصاد ألصقوا به السياسة ، فغدا " الاقتصاد السياسي" ، ومع ذلك نحترم توصيفكم للمشهد الراهن في موريتانيا وهو مشهد كما أجليتم يتسم بمسحة من الغموض والضبابية اقتصاديا واجتماعيا ، حيث إن المعارضة بدأت تتذكر أن لها دورا سياسيا " تقاعست" ، لنقل مؤقتا، عن لعبه . وربما ، إذا أحسنا النية بها ، لإتاحة الفرصة للحكومة لعمل شيء ما .. وبعد أن بدأت الايام تصل إلى حوالي 180 يوما من العمل السياسي .. كان من نتائجه " الاقتصادية" .. أزمة الغلاء المعيشي للمواطنين .. وانهيار الخطوط الجوية الموريتانية على نحو درامي مثير للشفقة.. وغير ذلك من التفاصيل الجزئية لعنوان كبير هو الأزمة بكل ما تعنيه الكلمة من معني .. هنا من الطبيعي أن يتنزل في عمق المشهد هذا الجدل الساخن أحيانا بين الحكومة التي تدافع عن نفسها ، والمعارضة الباحثة عن دور في هذه اللحظة التاريخية .. ومن زاوية مهنية فإن المؤشرات هي أن هناك وضعا اقتصاديا بعيدا جدا عن الحالة التي حلم بها المواطن غداة اختياره البرنامج الانتخابي للرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله بنسبة 52% وبعد معركة شرسة انتخابيا .. وهذا الوضع الشاذ لاشك أنه ينطوي على نتائج اجتماعية قد تنعكس آجلا أو عاجلا بصورة غير إيجابية على الطبقات الاجتماعية التي لا تستطيع حيلة ولا تهتدي سبيلا إلى الحصول على المعيشة اللائقة بيسر وسهولة .

الأمل الجديد :
تلوح في الأفق شائعات حول احتمال بيع الشركة الوطنية للصناعة والمناجم " اسنيم" التي غني رواد الاستقلال بتأميمها وانتزاعها نهائيا من قبضة الاستعمار ما تأثير ذلك على الاقتصاد الوطنى وأحلام الوطنية والاستقلال التي هتف لها الجميع ؟
أحمد ولد نافع:
لاشك أن ما أشرتم إليه يبين أهمية الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (SNIM ) وهي التي تم تأميمها من طرف الدولة الموريتانية منذ الستينيات تقريبا في عهد الحكومة المدنية الأولى بقيادة الرئيس المؤسس المختار ولد داداه رحمه الله ، بمعني بعد سنوات قليلة من الوجود السياسي للدولة الموريتانية وفي ذلك ما فيه من دلالة رمزية لايمكن إنكارها ، وهي شركة ذات راسمال مختلط تمتلك الدولة الموريتانية حوالي 78.35% من رأسمالها ، و 21.51% يمتلكها مستثمرون عرب ، و0.14% لمستثمرين محليين ، هذه الشركة مختصة بإنتاج وتسويق مادة أولية إسمها الحديد الذي تأتي بلادنا في قائمة العشرة المنتجين الكبار عالميا له ، و" اسنيم" توفر خدمات كبرى للاقتصاد الموريتاني ، مثلا تساهم في الميزانية العامة للدولة بنسبة معقولة حوالي 14%تقريبا ، وتصحح الخلل في الميزان التجاري وميزان المدفوعات ، وتسهم في حجم التشغيل الكلي للعمالة إذ يصل عدد مستخدميها إلى الآلاف إذا أخذنا بعين الاعتبار تكتل الشركات التابع لها ، وبذلك تكون هي المؤسسة الثانية بعد القطاع العام الموريتاني، التي توفر شغلا ثابتا وقارا لقسم كبير من المواطنين ، وهو ما لم يكن بمقدور أية مؤسسة أخرى عامة أو خاصة في موريتانيا أن توفره ، إن الأرقام في هذا السياق تأتي كلها لصالح هذه المؤسسة العريقة ، وعلى سبيل المثال فقد بلغت حصتها من الاستثمارات العمومية في سنة 1993 حوالي 33.10%، ثم تناقصت بعد ذلك حتى وصلت إلى 1.5% في سنة 1996 ، ثم عاودت التزايد بعد ذلك إلى أن وصلت إلى 13.54% من إجمالي الاستثمارات العمومية في نهاية سنة 2005... وتصل الطاقة الانتاجية لاسنيم إلى 11 مليون طن من الحديد سنويا .
ولم يتم تأكيد " بيع اسنيم" لرجل الأعمال الهندي وملك الحديد الصلب كما يلقب في الصحافة ، كما أن الحكومة لم تقدم حتى الآن بيانا بالمشاكل التي تواجهها الشركة ، سوى القول إن هناك رغبة في زيادة الانتاج ليست بالإمكان ما لم تتم زيادة رأس المال ، والطريق إلى ذلك هو التنازل " أو البيع" لنصيب الأسد حوالي 40%من الأسهم الإجمالية للشركة إلى شركة " اغلوبل استيل" الهندية العابرة للأوطان ، حيث تتمدد على خريطة العالم كله ، وذلك مقابل مليار أو مليارين من الدولارات الأمريكية للخزينة الموريتانية ..
إن ذلك لن يكافئ بأي من الأحوال الخدمات الاجتماعية ( المياه والكهرباء) التي كان يستفيد منها عشرات الآلاف في انواذيبو وافديرك وازويرات وشوم..وغيرهم ، هؤلاء لن يجدوا عزاء هذه الخسارة الاقتصادية والمعنوية التي ستحيق بهم جراء " خصخصة" هذه الشركة التي هي كما قال أحدهم "آخر رموز السيادة الوطنية"!
وما نخشاه هو أن تكون المبررات حول التخلص من هذه الشركة " كلمات حق يراد بها غير ذلك"! ..حيث يجب الموازنة بين ايرادات اسنيم الاقتصادية والاجتماعية الجليلة ، و ايرادات بيعها بالتقسيط أو بالجملة إلى رجل أو رجال أعمال دوليين ربما لا تعني لهم الاعتبارات الاجتماعية للشعب الموريتاني الشيء الكثير ..
ولهذا يجب التوكيد على خطورة هذه الموجة " البيعية" إن صح التعبير التي يبدو أنها ستجهز على ما تبقي من شركات القطاع العام في سابقة هي الأولى من نوعها في شبه المنطقة ، بعد أن جربت تلك الدول مثل هذه الخطوات ، كما جربناها نحن ، وتراجعت عنها حين ثبت خطأها الاستراتيجي الكبير...
لهؤلاء المصرين : ماذا عساهم قائلين للذين " أمموا" اسنيم أول مرة لفائدة الشعب الموريتاني
هل نجيبهم أنه خلف من بعدهم خلف أضاعوا المكتسبات واتبعوا تعليمات وكلاء الرأسمالية العالمية..!!


الأمل الجديد:
كيف تقيمون من خلال متابعاتكم البحثية تجربة الخوصصة في موريتانيا ؟

أحمد ولد نافع :

لقد وجدنا من خلال المتابعات البحثية التي قيم بها لتقييم حصيلة تجربة الخوصصة في موريتانيا ، كحالة دالة على تجربة الخوصصة في دول افريقيا جنوب الصحراء ، وذلك في أبحاث علمية منشورة في دوريات جادة علميا ، وفي مواقع مشهور كموقع قناة الجزيرة( الجزيرة – نت) ، ومن تلك العناوين " الاقتصاد الموريتاني من آمال الاصلاح إلي مآزق الفقر" ، و" تقييم تجربة الاصلاح الاقتصادي في دول افريقيا جنوب الصحراء – حالة موريتانيا" .. الخ ، وكل تلك الأبحاث التي تستند في خلفيتها على منشورات مؤسسات بريتون وودز( وما يسمون في موريتانيا بشركاء في التنمية) ، التي لديها الخبر اليقين ولا اعتقد أن هناك من يشكك في نزاهتها ، برهنت أن ما يسمى الخوصصة ، أي إتاحة الفرصة للقطاع الخاص لدور اقتصادي كبير يحل فيه محل القطاع العام أو الدولة التي تستحيل الى دولة حارسة فقط لا تهتم الا بالامن والدفاع والقضاء ، هذه التجربة المرعية من وكالات الاقراض الدولية باءت بالفشل الذريع في آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا ، حيث لم تنعم تلك الدول ، بما فيها موريتانيا ، بفضائل الخوصصة المزعومة ولم تتحسن الفعالية الاقتصادية لديها ، ولم تنتعش أوضاع الناس المعيشية بل زحف الفقر المطلق والنسبي وأطبقا على ثلاثة أرباع المجتمع الموريتاني .
وهذا ما أدركته الجهات الوصية على الخوصصة ، ونصحت بمعالجة هذه الآثار والتداعيات الجانبية منذ سنوات في تقاريرها التقييمية تحت مسميات " مكافحة الفقر" ، ألم تتأسس مفوضية خاصة لمكافحة الفقر وكانت تابعة مباشرة لرئاسة الجمهورية ، وذلك بعد مرور عقد ونصف من برامج الخوصصة ، هذا أكبر دليل على أن هذه البرامج لم تحقق أهدافها إلا بصورة عكسية أبعدت هذه الدول عن يوم التنمية المنشود .. بل تفاقمت المشكلات الاقتصادية كالباطالة والاجتماعية كالجريمة المنظمة في المدن والاتجار في المخدرات والتفكك الأسري والقلق الدائم من المستقبل وتراجع المعنويات والتذمر من الوطن وإيثار الهجرة إلى الخارج.. ولك يا محفوظ وللقارئ الكريم أن يضيف من عندياته ما شاء من علامات غياب العافية والصحة عن المجتمع التي يعرفها الجميع .


الأمل الجديد:
مرت موريتانيا خلال السنتين الماضيتين بانقلاب عسكري ناجح كان خلاصة سلسلة انقلابات فاشلة قادت البلاد إلى أجواء من التوتر الامنى والاضطراب السياسي ، هل ترون أن موريتانيا دشنت طريق اللاعودة ؟

أحمد ولد نافع :
إذا كنت تقصد طريق اللاعودة إلى التوتر الأمنى والاضطراب السياسي اللذين يقودان بداهة إلى الانقلابات فهذا ما ندعو الله أن يحققه ، ولكن الأمنيات والدعوات في خانة ومآلات هذه الدعوات واستحالتها الى واقع معيش في خانة أخرى ،، إن سلسلة الانقلابات الظاهرة والمستترة لم تكن وليدة الصدفة ، بل إنها تفاعل واقع سياسي واقتصادي واجتماعي طيلة عقدين من الزمن من السير في بنيات طريق غير سالك البتة ، وبالتالي كان الانقلاب الناجح في الثالث من أغسطس 2005 هو النقطة التي طفح عندها الكيل ، والآن بعد ما تم إنجازه من تناوب عسكري ومدني على السلطة كان مبهرا للإخوة والأعداء على حد السواء برغم شوائبه الجمة ، يجب أن نبدأ رحلة السؤال والنقد والتمحيص حول ماذا نريد؟؟ وماذا انجزنا؟؟ أم ما لم ننجز ولماذا؟؟ وكيف ؟؟..
وتلك هي البداية الصحيحة لقطع طريق اللاعودة إلى الانقلابات وخطر غياب الاستقرار .. واعتقد أن الحالة التي عليها الدولة الآن ليست " مثالية" كما أشرت سلفا ، بدليل هذا التململ غير الآتي من فراغ بأي حال من الأحوال .. هذا القلق مدعاة للتنبه ومؤشر على خطر أو ربما خطإ يجب الالتفات إليه وليس القفز عليه إلى المجهول.

الأمل الجديد :
النظام التعليمي في موريتانيا يعاني الكثير من النواقص ، ما هي أبرزها في نظركم؟؟

أحمد ولد نافع :
سيكون ظلما كبيرا وافتئاتا على المنهج العلمي عرض حالة النظام التعليمي الموريتاني في هذه العجالة الصحفية ، لأن هذا النظام يعاني من أزمة تراكمت اسبابها منذ أربعة عقود حتى الآن والحبل على الجرار ..ومع ذلك فاعتقد أن حل أو حلحلة وضعية النظام التعليمي هو قضية مجتمع بأسره ، لابد من أن ينعقد العزم من كل أطراف العملية التعليمية ، بمعية صناع السياسة " أهل الحكم" ، على دراسة وضعية التعليم في موريتانيا ، لأنه سبيل تقدم هذه البلاد .. لابد من توفير الإمكانيات للمعلم الابتدائي ليقوم بمهمته ، ويجب قطع الطريق أمام الفكرة الخاطئة السائدة وهي أن التعليم هو فقط للمتردية والمنخنقة والموقوذة من الطلاب ، ففي ألمانيا حملة شهادة الدكتوراه هم أساتذة التعليم الابتدائي .. ولك أن ترى القمة السامقة التي وصلت إليها ألمانيا برغم الحروب وتقطيع الأوصال ، لولا صلاحية النظام التعليمي فيها ، الذي أورث ثروة بشرية بلغت شأوا بعيدا في التألق والابداع فأعطت شعبها تقدما ونماء وتطورا .. أما نحن فتردي التعليم لدينا .. وتردينا معه إلى هوة سحيقة من الجهل والأمية والسخافة بلا قرار .. فالتعليم هو البداية .. وبدونه سنظل نعاني كمعاناة سيزيف والصخرة !!
هل يعقل ما حدث في مسابقة تكوين المعلمين التي نجح فيها 7 فقط بمعني 0.007% هذه فضيحة بكل المقاييس ، وكذا نتائج الباكولوريا لهذا العام المخيبة للآمال ، ،
إصلاح التعليم يبدأ من الابتدائية وحتى الجامعة ، وليس معقولا أنه بعد قرابة خمسة عقود فإن جامعة واحدة وواحدة فقط غير مكتملة البنيان الأكاديمي حتى الآن ؟؟ أي مهزلة بعد هذه؟؟ في الوقت الذي غزت فيه أفقية التعليم العالي أرياف الجيران الأقربين ..يا سبحان الله


الأمل الجديد :
يبدو أن موريتانيا ومنذ الوقت الذي أعلن فيه عن اعتزام السلطة إنشاء حزب سياسي جديد قد بدأت تقدم على حالة جديدة من الاحتقان السياسي والأمنى ، ماهي أسباب ذلك في نظركم؟؟

أحمد ولد نافع:
أسباب ما نعتموه بالاحتقان هو أن الجميع ، بما فيهم أهل السلطة ، يعلم علم اليقين خطورة الخلط بين الحزب والدولة ، هذا يعني أن الحزب سيختصر الدولة في ذاته وتكون مواردها وإمكاناتها وقفا خاصا لهذا الحزب دون سائر الأحزاب ، وهذا " عود – غير- أحمد" إلى المربع الأول الذي أشرنا إلى ما أدى إليه من ويلات لهذا الشعب المسكين طيلة عقدين من الزمن إن لم يكن قبل ذلك !..
الدولة الموريتانية وما تملكه من ثروات ظاهرة وباطنة هي ملك للشعب الموريتاني بجميع فئاتة وأحزابه وقبائله وجهاته ، ليس فقط الموجودين حاليا أحياء ، بل إن الأجيال القادمة من وراء الغيب لها حق في هذه الدولة ومواردها وإمكانياتها ، وليس لأي كان أن يستأثر بهذه الموارد حتى ولو كان في السلطة ويحرم الباقين حتى ولو كانوا في المعارضة ، أو حتى ولو كانوا غائبين أو غير موجودين ..
هذه حقيقة ثابتة ولايمكن تجاهلها إلا ممن يؤمن بمبدإ لويس الرابع عشر :" أنا الدولة"! .. وقد ردت علي ذلك الثورة الفرنسية في 1798 م حين قوضت حكم الملكية وأوجدت الجمهورية في القرن الثامن عشر الميلادي ... وحيثما يوجد لويس الرابع أو الخامس عشر فتوجد ثورة شعبية بالمرصاد!..
إن ذلك لا يعني أن داعمي البرنامج الانتخابي للرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله ، سواء في الشوط الأول أو الثاني أو المستقلين أو مستقلي المستقلين أو المستقلين بعد ستة أشهر من عمل الحكومة ، ليس من حقهم الدستوري أن ينتظموا في حزب سياسي معين ، ولكن بشرط ألا يلغي هذا الحزب بقية الأحزاب أو يتصرف في الدولة تصرف المالك في ملكه ، هذا ما لا يجوز البتة ، والخوف منه هو الذي ولد موجة التذمر و الجدل المثير منذ ظهرت نوايا تأسيس الحزب الجديد .. وكان سيكون الوضع أخف وطأة لولا أن الوزراء والكتاب العامون في هذه المرحلة زاحمهم نظراؤهم في العهد المباد لتبوؤ اللجان التأسيسية للحزب ..وهذا ما أثار الإشكال أكثر ، بينما لو عهدت ، في البداية ، مسؤولية الإشراف على اللجان التأسيسية للحزب إلى نشطاء في الحملة الانتخابية للرئيس ممن لا توجد ملاحظات على سوابقهم في الفساد ، فأعتقد أنه كان سيكون هناك تفهم أكثر قبولا لحزب الأغلبية الرئاسية الجديد .
الأمل الجديد :
ماهي أبرز التحديات التي تواجه النظام الموريتاني الحالي ؟

أحمد ولد نافع :
لاشك أن إجابة هذا السؤال ستكون " تناصا" مع جوانب من الإجابات السابقة ، ومع ذلك فلا مناص من التذكير أن من أهم المشاكل التي تواجه النظام السياسي الموريتاني منذ الستينيات هو تحدى " بناء دولة قيم حديثة وعصرية " ، وبدء بحكومة عهد الاستقلال التي من المشاركين فيها الرئيس الحالي ، وربما ذلك من الأقدار العجيبة ، فإن جميع من توارثوا الحكم في " بلاد أنبية " بالتعبير التاريخي المحلي ، لم يؤسسوا لبنات حقيقية لهذه الدولة الحديثة العصرية ، إذ أن الموريتانيين لا يطلبون المستحيل وهم يرون الجيران يتقدمون بخطوات واثقة إلى الأمام ، رغم أن مواردهم أقل أحيانا من مورادنا ، وهذا ما يحز في النفس حقيقة .
إن حل الملفات العالقة " المبعدين ، ومخلفات العبودية ،..الخ" هي خطوات مهمة على الطريق ، ولكن الأهم من ذلك هو بناء دولة مؤسسات محترمة ومسؤولة ، ترفرف عليها رايات العدالة وتكافؤ الفرص ، وقيمة المواطن فيها بعمله ، لافضل فيها لعربي على زنجي إلا بالتقوى والعمل الصالح في خدمة عموم الشعب عربا وزنجا ..
ولابد من التفكير الجدي في تحسين وضعية الناس المعيشية ، حيث إن أكثر من 80% من الشعب الموريتاني لادخول لديهم لتأمين متطلبات الحياة الأساسية ( المأكل ، المسكن ، الملبس ، التعليم ، الصحه ..الخ) ، وإن التقاعس عن ذلك سيجعل البطالة والفقر يستعبدان شعبنا الموريتاني ، كما فعلوا في شعوب أخرى جنوبنا ونتائج ذلك نضرع إلى الله ألا نعيشها.. آمين .
ومن الخطوات "الاستعجالية" الممكنة في هذا السياق هو إعادة العمل بسياسة الدعم للسلع الأساسية ورفض متاجرتها أو المضاربة في أسعارها ، وهذه مسؤولية القطاع العام ( الدولة) لأن في ذلك نوعا من اعادة توزيع الثروة والانصاف الاجتماعي ، وفي دول العالم المتطور لا تزال الدولة حتى هذه اللحظة تقدم خدمات اجتماعية وتساهم بنسبة معتبرة في النمو ، ففي الولايات المتحدة مثلا ، فأن القطاع العام يساهم بنسبة 12.3% في الدخل القومي ، و يساهم القطاع العسكري لوحده ب27% من النمو الاقتصادي ، وقد بلغ الانفاق على قطاعات ( الادارة والتعليم والدفاع ) في فرنسا حوالي 11% من الناتج المحلي الاجمالي ، وفي بريطانيا 8% ، وفي المانيا 8% ، واليابان 24% ، والسويد 14% ، والنرويج 12% ، ....الخ .
لماذا لا يتم كبح جماح القطاع الخاص " قليلا" في النشاط الاقتصادي ؟ هل السبب هو كون القطاع العام تسبب في تخلف الادارة الاقتصادية ، فمن أين سيأتي القطاع الخاص بإدارة متقدمة وهو في بلد متخلف؟؟ هل سيسلم الاقتصاد لإدارة أجنبية مثلا ؟؟ وهل يتناسب ذلك مع دعاوي الاستقلال الوطني والسيادة والكرامة .. ؟؟
إن التحدي الحقيقي أمام الدولة الموريتانية هو ما تقدمه التقارير العالمية ، فعلي سبيل المثال ووفقا لما نشرته مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy الصادرة عن معهد كارنيجي للابحاث بالتعاون مع صندوق التمويل من أجل السلام ، ما نشرته هذه المجلة عن القائمة السنوية للدول الفاشلة ، التي تواجه جملة من المشاكل هي : الطابع التسلطي لنظام الحكم ،واحتكار النخب الحاكمة للسلطة وغياب القانون وتدهور حقوق الانسان ، والفساد المستشرى في مؤسسات الدولة واستئثار قلة بالثروة الوطنية ، والاختلافات المذهبية ، ومشاكل النازحين واللاجئين .. وقد تضمنت القائمة 77 دولة ، غير أنها حددت 60 دولة كأسوء دولة فاشلة ، وقد تضمنت هذه الدول الثماني موريتانيا في المركز الخامس والأربعين التي احتلت هذه المرتبة بعد استحالتها الى أنموذج صارخ لإشاعة الاحزان الجماعية بفعل الغلاء المعيشي واستشراء الفساد والتفاوت الطبقي وشيوع احتكار الثروة من قلة قليلة ...الخ! كما أن تقرير الشفافية الدولية ايضا لهذا العام كان فضيحة كبرى للدولة الموريتانية التي باتت تنافس في صدارة الدول الأكثر فسادا وفوضوية وتبديدا للمال العام في العالم .. هذا هو التحدي الحقيقي ..كيف نسير بدولتنا إلى خانة الدول التي تخدم شعبها في حاضره ومستقبله ..دولة تحافظ على قيم العروبة والاسلام والأفرقة والحداثة في نفس الوقت ... ولابد أن يفهم الجميع أن التنافس الحقيقي هو على موقع من هو أكثر خدمة للشعب الموريتاني ، اليوم يخدمه من هو في موقع السلطة الحاكمة ، وغدا يخدمه غيرها من الموقع نفسه ، وهكذا دواليك يتناوب الجميع على خدمة هذا الشعب ، هكذا يفعل الآخرون وهكذا سنة الحياة .. والايام دول بين الناس .. ولو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم!!..؟؟
الأمل الجديد:
تتحدث تقارير اقتصادية دولية عن أزمة عالمية قد تشبه أزمة الكساد الكبير في سنة 1929 ، ويصاحب ذلك أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية ، ما تأثير ذلك على أوضاع العالم الثالث خاصة ، وإذا علمنا أن الدول الغربية هي الأكثر استقطابا للاستثمارات المالية في العالم؟

أحمد ولد نافع :
أزمة الرهن العقاري التي حدثت في أمريكا ، وهي أكبر اقتصاد راسمالي في العالم ، أزمة لاشك أنها جدية وأصلها هو وجود قطاع اسكاني نشط حفز على مدى سنوات سابقة القطاع المالي وخصوصا الرهن العقاري ، وبدورها قامت مؤسسات الرهن هذه بتحويل قروضها إلى سندات مغطاة بأصول أهمها صناديق التحوط ، وقد تم بيعها إلى العديد من المؤسسات الأوروبية وأمريكا اللاتينية وآسيا، لكنه حصلت أزمة في السيولة المحلية وتراجع مفاجئ في القدرة الائتمانية للمقترضين الأمريكيين من مشتري العقار تجسدت في تعثر هؤلاء في تسديد التزاماتهم المالية إلى مؤسسات الرهن العقاري في بعض الولايات مما خلق أزمة ثقة في قطاع العقار برمته وفي مؤسسات التمويل الأمر الذي اضطر هذه المؤسسات للجوء إلى عمليات حبس الرهن العقاري أي استيلاء المقرض على العقار المرتهن وإعادة بيعه مرة أخرى لتصل إلى أرقام قياسية أذهلت الخبراء والمحللين الاقتصاديين . وصاحب ذلك ارتفاع أسعار الفائدة في أمريكا على نحو غير مسبوق، وانجرفت الأزمة إلى قطاع الاستهلاك وبالتالي الاستثمار مما قد يؤثر ذلك في معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة. ومن الطبيعي والحال هذا أن تقوم تلك المؤسسات الاستثمارية في داخل الولايات المتحدة وخارجها ببيع سنداتها للحصول على السيولة مما سيؤدي حتماً إلى انخفاض أسعارها وعوائدها. وفي هذا السياق، تشير التوقعات إلى أنه نظراً لشدة الأزمة فأنه حتى بعد زوالها سيبقى المعروض من العقارات في أسواق أمريكا وبالتالي أسعارها في حال تقهقر دائم ريثما يتم تصحيح الأوضاع واستعادة الثقة من جديد ، بل وتمكن مالكي العقار (المقترضين) من دفع أقساط الرهن إلى المؤسسات المالية المعنية وفك الحبس العقاري لتنشط الدورة الاقتصادية من جديد... ومن خطورة الأزمة أن إدارة بوش تدخلت فيها ولم تستطع تجاهلها ، مما يبين تداعياتها .
وبالرغم من أزمة الكساد الكبيرفي سنة 1929 التي أشرتم إليها في السؤال بدأت بداية مشابهة لأزمة الرهن العقاري ثم ما لبثت أن شملت العالم النشط اقتصاديا في حينها ، إلا أن بعض العارفين بأوضاع الاقتصاد العالمي يفرقون بين اللحظة الراهنة وأوضاع العالم في نهاية العشرينيات من القرن الماضي ، خصوصا في ظل وجود " مشاريع أقطاب" اقتصادية في الصين و اليابان ، مما يجعل من الصعوبة القول بإمكانية انتشار الأزمة عالميا . ومع ذلك تبقي الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات ، فيما لو تفاقمت الأزمة على مستوي الاقتصاد الكلي الأمريكي .

الأمل الجديد :
هناك تكالب دولي على افريقيا من الصين شرقا إلى أوروبا وسطا إلى أمريكا غربا ، وذلك من أجل بسط السيطرة على ثرواتها ، كيف تبرز لنا تجليات ذلك الصراع ؟
أحمد ولد نافع :

ربما لأن القارة الافريقية هي قارة المستقبل ، لما تحويه من موارد واحتياطيات هائلة لأغلب المواد الأولية من النفط ومشتقاته التي ترقد في باطن الأراضي الافريقية ، والحديد ، والنحاس واليوارنيوم ،والجبس.. الخ ، كما أن الثروة البشرية بدأت تقترب حثيثا من المليار نسمة بمنتصف الالفية الحالية ، وتوسطها للعالم شرقه وغربه ، وإطلالتها على أهم المحيطات والبحار في العالم ، علاوة على أنها قارة " بكر" أغلب مواردها لم تستخرج حتى الساعة ، كل ذلك وغيره جعلها في عمق اهتمام العالم باسره ، من الصينيين إلى الأوروبيين( المستعمرين القدماء والجدد) ، والأمريكيين ، هؤلاء كلهم يتقاتلون في حرب لا تزال باردة حتى الآن على الأهمية الجيوسياسية واقتصادية للقارة السمراء ، ويجدون من الحروب الأهلية التي يشعلونها وكالة من خلال شركاتهم ووكلاء الرأسمالية العالمية فرصة للتدخل العلني والسري في شؤونها .
ومن أزماتها يجدون فرصة للاستثمار المربح ، فقضية دارفور ليس سرا أنها معركة اقتصادية بامتياز بين الشركات الصينية والشركات الأمريكية على نفط دارفور وخيراته .
كما أن الحرب على ما يصفه الأمريكيون بالإرهاب في العالم جعلتهم وهم الذين لا تفصلهم عن افريقيا إلا آلاف الأميال البحرية يجهدون من أجل تدريب الجيوش المحلية الافريقية على مكافحة هذا العدو الوهمي ، بل إن الرغبة في تحويل قيادة آفريكوم ( القيادة الأمريكية العليا في افريقيا) من ألمانيا إلى إفريقيا يتنزل في هذا الإطار من الرغبة في السيطرة العسكرية والسياسية على افريقيا تمهيدا لنهب " عولمي" لثرواتها وتأجيل نهوضها عقودا أخرى ...
ولكن يخطئ " الآخر" الذي يتصور أن أفريقيا لا تزال افريقيا الأمس القريب التي يخطط لها من وراء البحار ، فإفريقيا بدأت تلملم شتاتها ، وتؤسس " اتحادها" ، الذي يصالحها مع نفسها ، ويقدمها عزيزة قوية قادرة على أن تلتئم جراحها وتصنع غدها بنفسها وبالاعتماد على إمكانياتها الذاتية .. قد تكون هذه الحروب الأهلية والأمراض والتخلف والجهل هي مخاضات الولاد العسير لإفريقيا .. ولكن أعتقد أنه قد بدأ الميلاد الثاني لإفريقيا بعد ميلادها الأول وانتصار حركاتها التحريرية وهزيمة الاستعمار التقليدي وجيوشه الامبراطورية الجرارة .

0 التعليقات:

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya