26 سبتمبر 2010

من بوركينا فاسو " أرض الرجال " إلى بوابة " اشكيك "!

بقلم - أحمد ولد نافع -
 باحث و أستاذ جامعي
ahmedonava@yahoo.fr 
     حين وصلت مطار بوركينافاسو الدولي في يوم صيف قائظ من أيام يونيو في سنة 2002 ، لم أجد فرقا كبيرًا بينه و بين مطار انواكشوط لجهة وقوع كليهما في قلب العاصمة ، مع أن حجم " مطار واغا " أكبر نسبيا والإجراءات أكثر انسيابية و سهولة ودقة . لقيتُ و الوفود القادمة إلى بوركينافاسو ترحيبا خاصا و نحن الزائرون المشاركون في" مؤتمر شباب الدول المتاخمة للصحراء الكبرى " ، و هو المؤتمر الذي شهد عدة دورات شاركتُ في الملتقي الثاني منها في نوفمبر 1997 ، و الذي انطلقت فعالياته من مدينة مرزق الليبية ( حوالي 950 كلم جنوبي العاصمة طرابلس) ، وهي إحدى مدن قوافل الصحراء الكبرى و لا تزال قلعتها الشامخة تتحدى الأزمان و تدل على الحضور التاريخي لها دهراً طويلا .

7 سبتمبر 2010

على هامش رحيل إبن الرافدين العالم الاقتصادي الدكتور علي القزويني

بقلم – الدكتور أحمد ولد نافع
باحث و أستاذ جامعي - موريتانيا

علمت ، ببالغ الأسى و الحزن ، من أحد الأكاديميين السوريين العرب و هو الأستاذ الدكتور عبد العزيز حسون ، برحيل أستاذي الكبير و عالم الاقتصاد الجليل الأستاذ الدكتور علي محمد تقي القزويني في ماليزيا بعد وعكة صحية أقعدته الفراش زهاء ثلاثة سنوات ، و لاشك أنها خسارة كبرى ليس لأسرته ووطنه المكلوم ، بل للأمة العربية كلها ، حيث كان الفقيد مسكونا بالبحث حول قضاياها و مشكلاتها الراهنة و المستقبلية .
تعود أولى صلاتي بالمفكر الراحل إلى نهاية التسعينيات من القرن العشرين ، بعد اجتيازي امتحانات القبول في الدراسات العليا في أكاديمية الدراسات العليا الليبية في مقرها الأول المحاذي لمستشفي الخضراء - منطقة حي دمشق – طرابلس ، و تنزيلي لأول مادة تخصصية مع الأستاذ الراحل ( مادة النقود و المصارف ) ، وقد انبهرت به من البداية ، نظرا لصرامته و جديته في التعليم و البحث العلمي ، و توطدت علائقنا أكثر في القسم ، حيث نزّلت معه أكثر من مادة علمية ، بل إنني اخترته ليكون المشرف الرئيسي على أطروحتي لنيل شهادة الماجستير عن الاقتصاد الموريتاني ، حيث شجعني قائلا :" لاشك أن موريتانيا بحاجة إلى التعريف بها ، ولهذا فأنصحك بأن تختار موضوعا ذي صلة ، حتى يكون مساهمة في إغناء المكتبة البحثية العربية .." .
وقد كان طيلة الإشراف على البحث و إعداده خير معين و موجه استفدت من ملازمته ساعات طوالا في منزله العامر الذي دعاني لاعتباره منزلي الثاني في أي وقت أشاء ، و ذلك ما جعل الصلة بالاستاذ الراحل تتعزز أكثر فأكثر ، فكان يحدثني عن مسيرته التعليمية التي تفوّق فيها منذ مرحلة الثانوية في بغداد في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين ، و تحصّله على منحة التفوق الدراسي إلى موسكو " عاصمة المعسكر الشرقي " و قد سبب له ذلك ، كما أفاد ، حرجا كبيرا إذ أنه سليل أسرة دينية شهيرة و معروفة تنتمي لمذهب أهل البيت عليهم السلام ، فكيف يكون مقبولا على المستوى الشعبي أن يوجه نجلها إلى دولة " الإلحاد " لإكمال دراساته الجامعية و العليا ، و مع ذلك فقد اثبت الراحل نجاحا متميزا في تحصيله حتى توّجه بالدكتوراه في العلوم الاقتصادية في بداية السبعينيات ، ليعود إلى العراق باحثا و استاذا جامعيا بارزا يساهم في إعداد أجياله للبناء و التقدم ، وقد عرفته فصول و قاعات الجامعة المستنصرية ببغداد خلال عقد كامل ، قبل أن يغادر بلاده مكرها بسبب تداعيات المواقف السياسية و تفاعلات الحرب العراقية الإيرانية ، حيث كانت سوريا محطته الثانية ، ثم الجزائر ، و أخيرا حط عصا الترحال منذ تسعينيات القرن الفارط في الجماهيرية التي ظل فيها أزيد من عقد و نصف باحثا و مدرسا و مؤلفا و مترجما و كاتبا لعشرات المقالات التحليلية و الآراء الفكرية في مؤتمرات و ندوات علمية و سياسية حول قضايا شتى تهم الأمة العربية و إفريقيا في عصر العولمة و الفضاءات العملاقة ، و قد كتب مؤلفا حول هندسة االفضاءات الكبرى و موقع الأمة العربية ضمن ذلك ، و قد أطلعني عليه منذ كان مخطوطا ، وشرفني بمراجعة بعض فقراته و محتوياته . و قام ايضا بترجمة رائعة لكتاب الاقتصادي الفرنسي " اغزافي اكريف" ، الباحث بالمركز الاقتصادي في جامعة السوربون ، حول التحليل الاقتصادي للبيروقراطية ، وقد نشرته أكاديمية الدراسات العليا في ليبيا .
وحين وقع العراق تحت سنابك الغزاة الأمريكيين و أعوانهم الدوليين و المحليين ، اشهد أنه قال لي :" إن العراق بلد الحضارات العريقة من سومر و أكد و بابل و الحضارة العربية الاسلامية ، و لايخشي عليه ابدا من هؤلاء رعاة البقر ( الكاوبوي) الذين سيندحرون كما سائر الغزاة عبر التاريخ ..." ، و أشركني معه في نقاش حول فكرة موضوع يختمر في ذاكرته حول " المشروع الأمريكي في العراق و تداعياته الاقليمية و الدولية " ، بل إنني اطلعت على المخطوطة الأولية للكتاب التي ضمنها الراحل رؤيته لبلاد الرافدين في هذه الانعطافة الحاسمة من تاريخها المعاصر ..!
و بعد ورود الانباء عن المحاولة الانقلابية التي حدثت في موريتانيا في نفس اليوم الذي كان مقررا أن يكون يوم مناقشة أطروحتي للماجستير يوم الأحد الموافق 8 يونيو 2003 اتصلت به طالبا تأجيل الموعد نظرا للتطورات السياسية و الأمنية الجارية في موريتانيا ، فوافق على الفور ، و تولي أخذ الإذن من الاكاديمية ، و تأجيل الموعد إلى يوم الخميس الموافق 12 – يونيو 2003 ، و هذا ما جعله يقول في تقديمه لي أثناء المناقشة المفتوحة " ندعوكم لمناقشة هذا البحث الذي تقدمه أطراف الأمة العربية كلها ، يعده طالب من البوابة الغربية للأمة موريتانيا ، و يشرف عليه أستاذ من البوابة الشرقية للأمة العراق ... و موريتانيا الآن تعاني تداعيات ما بعد المحاولة الانقلابية ... و العراق الآن يعاني تداعيات ما بعد احتلاله من القوات الأمريكية و اندلاع شرارة المقاومة ....الخ"!!

كما يرجع لاستاذي الراحل الفضل في تشجيعي على الدخول في برنامج الدكتوراه فوريا دون انتظار للإستفادة من عامل الزمن ، مذكرا إياي بتجربته في هذا المجال ، و قد اخترته ليكون أحد المشرفين على الأطروحة التي واكبها مضيفا وحاذفا و معدلا، حتى شارفت على الاكتمال و كان منهمكا في سياق ترتيبات السفر للمغادرة إلى العراق بشكل نهائي حتى حدث ما حدث من مرض أقعده الفراش في مستشفيات طرابلس و عمان و ماليزيا ، و كم كان أسفي كبيرا حين عرضت الأطروحة للامتحان و المناقشة في صيف 2008 ، وتعذر على استاذنا الكبير و مشرفي الثاني الدكتور علي القزويني الحضور و المشاركة في قطف ثمرة هذا العمل الأكاديمي الذي رعاه و تعهّده بالمتابعة و المؤازرة ، و شاءت إرادة الله أن يغيب عنه في هذه اللحظة المهمة ، فسبحان من يدبر الأمر كيف يشاء و لا حول ولا قوة إلا به سبحانه و تعالى .
لقد كان الراحل دمث الخلق يتحلي بسمت العلماء و تواضعهم ووقارهم ، وكانت الابتسامة تعلو محيّاه على الدوام ، و قال إن هذا من سيرة السيد جعفر بن محمد الصادق ، الإمام السادس من أئمة أهل البيت النبوي الشريف . و أذكر أنه كان في كل مرة أزوره فيها ينادي على زوجته قائلا :" أم حسين .. قدمي لنا الماء ، فهذا أحمد ضيافته بسيطة لأنه لا يشرب المنبهات لا الشاي و لا القهوة .."!
رحمك الله يا أبا حسين .. و عظم فيك الأجر .. و أثابك على ما قدمت في سبيل العلم و المعرفة ، و رزق أسرتك و أهلك ومعارفك جميل الصبر و السلوان .. و صدق رسول الله الكريم القائل :" اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، و صدقة جارية ، و علم ينتفع به ". و قال سبحانه و تعالى : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .. صدق الله العظيم .

6 سبتمبر 2010

الحقيقة القومية وفق النظرية العالمية الثالثة للأستاذ مرعي علي الرمحي

تاريخ و سنة النشر : الاولى2009 
 قراءة و تحليل : الدكتور أحمد ولد نافع - باحث و أستاذ جامعي موريتاني ahmedonava@yahoo.fr 
 يستعرض كتاب الحقيقة القومية وفق منظور النظرية العالمية الثالثة قضية جدلية مهمة تباينت حولها رؤى و تحليلات المفكرين من شتى فروع المعرفة . و يتصدي الاستاذ مرعي علي الرمحي لهذا الموضوع بعد ان فشلت ، بحسب قوله ، كل من الرسالمالية و الماركسية في جلاء الحقيقة التي طرحتها النظرية العالمية الثالثة ( فكر الأخ القائد العقيد معمر القذافي) .

1 سبتمبر 2010

كتاب الاسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة للدكتور سالم القمودي



قراءة و عرض : الدكتور أحمد ولد نافع - الباحث و الأستاذ جامعي


عن مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية صدر هذا الكتاب " الإسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة " لمؤلفه الباحث و الكاتب الليبي الدكتور سالم القمودي ..

و من أجل دراسة موضوعه فقد قام الكاتب بتقسيمه إلى ستة أجزاء احتوت على حوالي ستة عشر فصلا ، وقد ركز الجزء الأول على موضوعات " الإسلام والفلسفة والعلم " ، تم فيه استعراض كافة الإشكاليات المرتبطة بعلاقة هذه الموضوعات ببعضها البعض ، حيث يخلص المؤلف إلى أن الدين هو الذي يملك مفاتيح معرفية نهائية للحقيقة ، وبالتالي فهو القادر على إنهاء حيرة الأسئلة الوجودية التي يثيرها الإنسان منذ القدم . لأن الفلسفة - بحسب كانط – يجب عليها التخفيف من ادعاءاتها لمعرفة الحقيقة النهائية . كما أن النص ( الإسلام) من عند الله ، وهو متعال و مجاوز فوق الإنسان وعقله . وبالتالي فالعداء بين الإسلام والفلسفة أو بين الإسلام والعلم لا مبرر له إطلاقا .

أما في الجزء الثاني فناقش الكتاب مفهوم " الحداثة و ما بعد الحداثة " ، ويري المؤلف أن البدايات المؤسسة للحداثة كرؤية فلسفية بدأت ، ربما ، مع ديكارت 1596-1650 ، حيث غدت الذاتية هي الأساس الفلسفي للحداثة وأعيد اكتشاف بروتاجوراس اليوناني لتأكيد هذه النزعة الإنسانية النسبية ، ثم بعد ذلك أشعلت أفكار " عصر الأنوار" في القرن الثامن عشر المفرطة في تمجيد العقل ، وسرعان ما تم تجاوز ذلك مع الفلاسفة الألمان " إيمانويل كانط 1724 -1804 " ، ثم بلغت الذاتية قمتها مع هيغل 1770-1831 الذي اعتبر الذات هي المبدأ المطلق لكل معرفة ، وسرعان ما اعتبر " هيغل " أن الدولة البروسية هي نهاية التاريخ ، وكان ذلك هو المهاد الفلسفي الذي ولدت فيه فكرة " نهاية التاريخ"!

ويجزم المؤلف ، بتحليل معمق ، أن الذاتية أطاحت بحياد العقل ، و الإيمان ، و قطعت الصلة بالماضي ، و فصلت بين الدين والدولة ، كانت تلك هي ملامح الحداثة المنقلبة على الميتافيزيقا ، غير أن التقدم العلمي أكسب الحداثة وهجا و ألقًا غطيا على كل سلبياتها و اختلالاتها .

وجاء فكر " ما بعد الحداثة " ( أول من استخدمها المؤرخ البريطاني توينبي في سنة 1959) كردة فعل في الإفراط في ذاتية الحداثة التي فشلت بشكل مريع على المستويات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية ، وبالتالي تم رفع شعار " نسبية المعرفة و عدم قبول تعميمات تنطبق على كل الثقافات .." ، بل إن البعض " نيتشه" ذهب بعيدا في رد الفعل على مشروع الحداثة و نادي بـ" الفوضى"! ..إن جماع مشروع ما بعد الحداثة يرفض نقديا الصروح الفكرية الفلسفية الكبرى ويتبني الدعوة الحاسمة لتفكيكها كمناهج وأشياء وأفكار وقضايا ..وهكذا ولدت مدارس " الوجودية " و " البنيوية " و " التفكيكية " ..و بالرغم من ذلك لم تستطع " ما بعد الحداثة " إنهاء أزمة الاطمئنان النفسي الاجتماعي ، وكذا القلق والتوتر! مما جعل البعض يصفها بأنها إيديولوجية عدمية تزرع اليباب في كل مظاهر الكينونة الإنسانية وتنذر بالموت .

ويركز الجزء الثالث على مفهوم " اعتبار الإنسان " ، وذلك من خلال تتبع موقف الحداثة وما بعد الحداثة من الإنسان ، فالأولى جعلت الإنسان مركز الكون والعقل مصدرا لكل حقيقة ويقين معرفي ، أما الثانية فقد نقدت " إنسان الحداثة " ، وانقسمت إلى تيارين :
الأول عبثي منغمس في اللاعقلية و الفوضوية لا يعترف بمعايير أو قيم إنسانية أو أخلاق موضوعية .. ومن أمثلته " الألماني : فردريك نتشه 1844-1900 " ، و " مارتن هايدجر 1889-1976 " الذي قاد خطابا تفكيكيا للميتافيزيقا لا هو فلسفي عقلاني و لا هو مقتدي بالخطاب العلمي .

الثاني يؤمن أن العلم هو مصدر إلهام للنزعة الإنسانية .. ومن أمثلته ، رائد البنيوية " ليفي ستورس " ، وهي مدرسة تلغي مفهوم الذات ومكوناته ، الوعي و الإرادة . بل إن البنيات اللاشعورية هي التي تتحكم في جميع فعالياته .

و قد ظهر مفهوم " اختفاء الإنسان " لدى الفيلسوف الفرنسي " ميشيل فوكو " في سنة 1984 ، حيث ذاعت مقولته :" إن الإنسان اختراع حديث العهد ، صورة لا يتجاوز عمرها مائتي سنة ، إنه مجرد انعطاف في معرفتنا ، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلا آخر جديد.."!

أما الإسلام ، كدين سماوي ، فقد أنزل الإنسان مكانه الأنسب ، وفي القرآن الكريم آيات بينات تعكس التكريم الذي حظي به الإنسان الذي فضله الله سبحانه على جميع مخلوقاته وأمر الملائكة بالسجود له ، وحفظ له نفسه و حرّم عليه قتل نفسه أو غيره إلا بالحق ، وحفظ له دينه وعقله و ماله ونسبه ، وحرّم عليه الظلم والاستبداد والطغيان وأمره بالإحسان وإقامة العدل والقسط .ووضّح له سبيل الرشاد والهدى وزكاه وألهمه الفجور والتقوى وأعطاه أدوات المعرفة ويسّر له سبل الإدراك ، وعلّمه ما لم يكن يعلم ، وأجاب عن تساؤلاته وحيرته ، وحمّله مسؤولية عمله وكسبه ، وجعل بينه وبين غيره من بني آدم المساواة. وإذا كانت دعوى الحداثة أنها أعادت الاعتبار للإنسان من سطوة الكنيسة و ظلم البابوات وصكوك الغفران ، فإن الإنسان في الإسلام لم يفقد يوما اعتباره كإنسان ولم يفقد حريته وقدرته على المبادرة والاختيار ، لأن ذلك كان اختيارا من الله سبحانه وتعالي .

أما الجزء الرابع فقد تناول " حقوق الإنسان : آراء وملاحظات" ، حيث إن الموضوع كان من ضمن أهم شواغل الفكر الليبرالي الأوروبي في العصر الحديث ، وكانت بدايتها مع إعلان الاستقلال الأمريكي 1776 ، ثم إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي بعد سقوط الباستيل 1789 ، ودستور الثورة الفرنسية 1793 ، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة 1948 ، وحزمة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ..و يجدر بالذكر أن كل ذلك كان وليدا خاصا للثقافة الأوروبية والأوضاع المحلية ، وهي بذلك غير قابلة للتعميم و " العالمية " لعدم إدماج تراث باقي الثقافات الأخرى فيها ..!

أما في الإسلام فحقوق الإنسان مستمدة في شرعيتها من الله سبحانه وتعالى وليست منة أو تكريما إلا منه عز وجل ، ومنها حرية المعتقد فـ" لا إكراه في الدين "( البقرة – أية 256). ولكنها لا تعني حرية الخروج من الإسلام بعد اعتناقه باعتبار ذلك خيانة للمجتمع المسلم . وكذا حقوق المرأة في ممارسة دورها في المجتمع بما يكرمها ويحفظ لها مكانتها ، عكسا للفلسفات الأخرى التي تاجرت بالمرأة و " رجّلتها" ( حولتها إلى رجل )! وامتهنت إنسانيتها وحولتها إلى سلعة وإعلان ودعاية!

الجزء الخامس انحصر فيه الجهد على مناقشة علاقة " الإسلام والغرب" ، ويري المؤلف أن الغرب لا يريد أن يفهم الإسلام على حقيقته ( بشهادة الأب روبير كاسبار) ، بل إنه أكثر من ذلك يخوض ضده حربا تحت شعارات تبطن غير ما تظهر هي : الديمقراطية و حقوق الإنسان ، والإصلاح وحقوق المرأة ، ومقاومة الإرهاب ..الخ ، ولم ينحصر الجهل بالإسلام في أوساط المثقفين والسياسيين ، بل إن رجال الدين غدوا مثالا على ذلك ، كما هو شأن البابا الحالي للمسيحيين " بنديكت السادس عشر " في محاضرته العدائية الشهيرة في جامعة " ريجينس برغ " في ألمانيا يوم 12/9/2006 .. ويري المؤلف أن أحداث سبتمبر 2001 هي أخطاء بحسب البعض ، وهي أخطاء لدفع أخطاء حسب آخرين !

وإذا كان لا بد من محاكمة من قاموا بتلك الأحداث في نيويورك أو لندن أو مدريد ، فلابد بنفس الأهمية والحرص من مقاومة من احتل فلسطين وغزا العراق وأفغانستان واحتلهما ودمرهما وأعادهما إلى العصر الحجري!.

أما الجزء الأخير ، فقد حاول أن يتصّور " النهوض الحضاري الإسلامي" ، وذلك من خلال التأكيد على أهمية البعد الديني الأخلاقي الإنساني الذي يصنع التقدم دون الفساد في الأرض أو العدوان والبغي و الظلم على الآخرين . ولا بد من التفريق بين الحداثة كفلسفة ورؤية للكون والحياة والتحديث كمنجز علمي وتقني يسهم في التقدم الإنساني .

وأشار المؤلف إلى أهمية " تصحيح " القراءة الخاطئة للإسلام ، وهي قراءته من خلال مناهج وآليات الآخرين و إيديولوجياتهم ، أو قراءته من خلال التحريف اللاحق بالمسيحية واليهودية ومساواة الإسلام بذلك و افتراض نفس الشيء عليه ، أو قراءة الإسلام من خلال سلوك المسلمين السياسي وما فيه من ملك عضوض وجور وظلم ! ، أو القراءات البدعية للقرآن الهادفة إلى ممارسة النقد ضد آياته ، أو تطبيق مناهج " الأنسنة" أو " العقلنة " أو " الأرخنة " عليه .. ومن أمثال القراءات والتأويلات الخاطئة ما جاء به مصطفي كمال أتاتورك في تركيا منذ 1924 ، وقراءة الغرب للإسلام التي أنتجت غزوه واحتلاله في فلسطين والعراق و أفغانستان ، وقراءة بعض المسلمين أنفسهم للإسلام مما حوّله إلى طوائف ومذاهب وأحزاب ..

ويضع المؤلف أسسا وقواعد لقراءة الإسلام بشكل صحيح ، وهي الإيمان والتسليم به وبما جاء فيه ، وأنه من عند الله , ومرتبط ببعضه البعض ، ومطلق في الزمان والمكان ، ونقرأه لذاته وليس لدواعي إيديولوجية أو مذهبية .. وربما قراءة بتلك الملامح تحتاج إلى ثروة ( وربما ثورة ) معرفية كبرى ، تسهم في معرفة الواقع والقدرة على تغييره فرديا وجماعيا ، بالإرادة والعلم من أجل تحول الأفكار المجردة لإنجازات واقعية ملموسة ، فتتحقق غايات الفكر و أهدافه ومقاصده في الواقع .

ويناقش المؤلف شروط النهضة ويحددها في أن ينبع المشروع النهضوي من ذات الأمة الفكرية والثقافية ، وفكر إسلامي معاصر يؤسس على الثروة الفقهية وينفتح على متغيرات العصر ، ويقدم رؤية للعالم ولمكانة الإنسان فيه ، ويفهم حقيقة جوهر الدين وأهميته للمؤمن ، و تجذير الشورى كأصل ثابت للحكم في الإسلام ، وانتهاج التفكير النقدي ، والاعتراف بالرأي الأخر ، وتحقيق العدل ، والارتقاء بمستوى التطبيق ، والمحافظة على حياد العقل ، والانطلاق نحو البناء .. وبذلك يكون المؤلف قد أجاب بثقة علمية على العنوان والافتراض الأساسي لكتابه حول إمكانية أن يكون الإسلام فعلا " مجاوزاً للحداثة و مابعد الحداثة"!!

ويمكن اعتبار هذا الكتاب العاشر في سلسلة من الإصدارات التي بدأها صاحبها منذ أزيد من عقد ونصف إضافة كبرى للمكتبة العربية ، علاوة على أنه يسهم في تكوين العقل العربي والإسلامي بهذه المطارحات النقدية للإشكالات المفاهيمية التي يتصدي لها والتي أثارت الكثير من اللغط في الزمن العربي والإسلامي الراهن ، فإنه أيضا يقدم جهدا علميا ثريا وأصيلا ، لا يكتفي فيه بعرض آراء الفلاسفة والمفكرين ، بل إنه يناقشهم ، ويقدم رأيه بوضوح لا لبس فيه ولا تردد .

ولذلك فإن "سالم القمودي" يضيف حجرا جديدا في مشروعه الفكري والثقافي المتميز عن مشاريع ومحاولات عربية جريئة شغلت الساحة الفكرية العربية في القرن الماضي . وقد يكون من الظلم الكبير للكتاب وصاحبه أن يكتفي المرء بقراءة واحدة مستعجلة للوقوف على مضامين الرسالة التي يبغي توصيلها ، بل إن الإنصاف والموضوعية يقتضيان أن تعاد القراءة أكثر من مرة من أجل استكناه الغموض وتوضيح كافة زوايا الحقيقة التي سعي إلى رسمها في هذا الجهد العلمي الكبير .

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya