24 أبريل 2008

ملفات الزمن الهارب (3) : عند ملتقي النيلين في الخرطوم!

لا يمكنني وصف الحبور الذي انتابني وأنا أتلقى دعوة المشاركة في ورشة قضايا التعليم فوق الجامعي في الوطن العربي التي نظمتها وأشرفت عليها جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا .. حيث إن تلك الدعوة ستتيح لي فرصة زيارة السودان الحبيب الذي أكن له منذ صغري تقديرا خاصا ، وذلك بعد أن علمت من والدي العلامة الفقيه الراحل إدوم ولد نافع ، قدس الله سره ، أن هذا البلد كان قنطرة الحجيج الشنقيطي الميمم للأراضي المقدسة في الحجاز.. فمن تجربة الوالد في خمسينيات القرن الفارط ، الذي أكمل دراساته التعليمية المحظرية بعد حفظ القرآن الكريم ومتون الفقه المالكي السائدة في البلاد الشنقيطية .
فإن حُلم الشباب العربي المسلم هي الاستزادة من العلوم وتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج .. وقد كان التفكير في هذا الأمر في مجتمع البادية في أرض الحوض الشرقي ضربا من التحدي الذي لا يوفق الكثيرون في ردّه والخطر الذي يهلك دونه الآلاف ، نظرًا لوعورة الطرق التي تتشعب لتشمل أقطارًا افريقية ( مالي – بوركينا فاصو – النيجر – تشاد – السودان – مصر) ، و تنطوي على الملمّات التي جعلت بعض الفقهاء يفتون بحرمة الحج في مثل تلك الظروف الصعبة العسيرة ..!
وحين عزم الوالد في يفاعته وفتوته – وفي سرية تامة عن الأهل والأحبة الذين يرون في الأمر إلقاءً بالنفس إلى التهلكة - الالتحاق بركبٍ من الحج شمل قافلة من أشتات القبائل رجالا ونساء .. أكمل القليلون منهم رحلة التحدي المقدسة ووصلوا إلى السودان بعد أشهر قاربت السنة من السفر على الأقدام .. ولأنه لم يكن يتوفر على أوراق ثبوتية مدنية ، على غرار الجميع في ذلك الوقت ، – كان هذا قبل ميلاد الدولة الموريتانية في سنة 1960- فإن السلطات الانجليزية منعته من مواصلة الرحلة ، مما اضطره ، بمشورة من مجرّبين ، إلى أداء خدمة وطنية في الجيش السوداني مدتها ستة أشهر ، تكللت ببطاقة تعريف وطنية سودانية مكنته من تحقيق حلم العمر في الوصول إلى الديار المقدسة وأداء فريضة الحج والنهل من العلوم العربية والإسلامية المنتشرة في مكة والمدينة في ذلك الوقت .. تلك هي القربي " الاجتماعية " التي جعلت السودان يحتل مساحة كبيرة من التقدير في قلبي ، وعزمت على زيارته وفاءً للدين الذي يدين به الموريتانيون ( والشناقطة عموما ) للشعب السوداني الذي وفّر لهم وِفَادةَ الضيافة التي يستحقونها كفقهاء وعلماء وحجيج إلى بيت الله ، مما شكّل بذرة من التواصل الاجتماعي السوداني الشنقيطي الذي كان من نتيجته وجود مجموعات قبلية مختلفة في السودان الحالي تعود في جذورها الاجتماعية إلى ذلك الرعيل الأول من الحجيج الشنقيطي الذي استطاب العيش في كسلا وواد مدني وكردفان ودارفور و الجزيرة والأبيض وأم درمان والخرطوم ، وقدّم علمه وشيد المحاظر في تلك الربوع العامرة ( أو الخلاوي ، كما تسمي في السودان وتشاد حاليا) لتدريس القرآن الكريم والعلوم العربية و الفقهية الإسلامية ..نزلت في مطار الخرطوم في ليلة رأس السنة الميلادية 2005 وفي ذاكرتي كل تلك الصور التاريخية المشرقة ، وحين قدمت جواز سفري لموظف المطار لختم علامة الدخول ، فوجئت به يقول لي :" وين الفيزا يا زول .. أنت موريتاني .."!! والزول تعني : الرجل بالدارجة السودانية المحلية .
لم أكن أعلم أن العلاقات الدبلوماسية الموريتانية السودانية مقطوعة منذ منتصف التسعينيات ، وأنه من اللازم على مواطني كلتا الدولتين الحصول على تأشيرة دخول مسبقة ، فأوضحت له إنني في زيارة عمل للسودان بدعوة من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في الخرطوم .. وأن أحد مسئولي الجامعة سيكون في انتظاري في الصالة ريثما أنهي إجراءات الدخول . . فاعتذر بضرورة إخبار مسؤول وردية المطار الذي قابلني بحرارة مؤكدا أن :" الزول ده لازم يرجع على الطيارة .. لأنو من غير فيزا .."!!
وبعد القيام باتصالات بمسئولي الجامعة الذين تأخروا لزحمة العاصمة الخرطوم بتخليد احتفالات رأس السنة الإفرنجية وكل الطرق المؤدية للمطار القابع في وسط العاصمة أصبحت معطلة أو شبه مقفلة بالكامل ..اعتذروا عن الخطأ غير المقصود بالطبع .. وقاموا بعمل المشاورات اللازمة مع وزير التعليم ووزير الداخلية ..!! . وفي ذلك الأثناء غادرتْ الطائرة التي جئت على متنها .. وكان لزاما عليّ قضاء ليلة ليلاء على مقاعد انتظار مطار الخرطوم الدولي ..
وفي الصباح الباكر تم تجاوز المشكلة ، وصحبني مضيفي البروفسور" عبد العزيز" مع تقديم الاعتذار اللازم عن هذا الخلل الذي كان بالإمكان تفاديه بمجرد الانتباه إلى موضوع الروابط الدبلوماسية " المعطّلة" بين الخرطوم و انواكشوط .. وكانت الورشة فرصة لتبادل الرأي والأفكار حول مشكلات وقضايا التعليم فوق الجامعي في البلاد العربية ، حيث حضره مفكرون وأساتذة من عدة جامعات سودانية وعربية قدموا زبدة أفكارهم وعصارة مقترحاتهم في سبيل تجاوز التحديات التي يواجهها التعليم العالي في الجامعات العربية ، وعلى هامش الزيارة وبعد انتهاء الورشة ، فإن مقامي في فندق الميريديان في وسط الخرطوم أتاح لي فرصة التجوال الحر مع شارع الإمام المهدي وزيارة كلية الطب – جامعة الخرطوم التي فوجئت بحجم الإعلانات والبيانات والملصقات التأبينية لمنفذ عملية معسكر الغزلان للقوات الأمريكية في الموصل والمنفذة يوم 25 دجمبر 2004 ، حيث استطاع أحد الجهاديين أن يتنكر في لباس عسكري عراقي وتجاوز كل النقاط الأمنية ودخل مع الضباط والجنود الأمريكيين في مطعم يرتادونه للغداء وفجّر نفسه موقعا عشرات القتلى والجرحى بينهم ، وهي عملية مشهورة تابعها الملايين على وسائل الإعلام المرئية ، لم أكن أعلم قبل زيارتي لكلية الطب أن منفذها هو أحمد الغامدي ، أحد الطلبة السعوديين الذي كان يدرس في السنة الثانية في الطب البشري .. واختفي عن كليته وانقطعت أخباره عن زملاءه حتى علموا أنه نفّذ العملية المذكورة .. وهذا هو سر الاحتفاء الكبير به في كليته ومن صحبه الطلبة الذين يرونه بطلا شهيدا قدّم نفسه في سبيل الأمة العربية وضد قوات الاحتلال !
كما أنني عزمت على زيارة ملتقي النيلين الأبيض والأزرق في العاصمة الخرطوم ، حيث إنه من أهم المناظر الآسرة التي لا تفارق الذاكرة ، و عند ذلك الملتقي يتشكل نهر النيل الخالد الذي " وهب مصر" بحسب الأقدمين.. ويعتبر السودان إحدي الدول الواعدة من الناحية السياحية نظرا لانتشار وتعدد المواقع الأثرية، والمناظر الطبيعية الخلابة ، والمحميات البرية ، والحياة البحرية، والبرية خارج المحميات. وتغلب الطبيعة الصحراوية على الجزء الشمالي والشرقي من البلاد، في حين تغطي الغابات والمساحات الخضراء معظم أجزاء الجنوب الذي يحوي أيضا جزءا من النفط والثروات الطبيعية الأخرى.و قد أخبرني البروفسور " الخوجلي" ، أبلغت لاحقا عن إحالته على التقاعد ، الذي زارني في إقامتي وصحبني في سيارته وقمنا بجولة صباحية في يوم الجمعة في ولاية الخرطوم ( أو العاصمة المثلثة حيث تتكون من الخرطوم ، والخرطوم بحري ، وأم درمان) ، أحسن وفادتي في داره في أم درمان وأخبرني أن السودان محاط بتسع دول هي مصر وليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى والكونغو وأوغندا وكينيا وإثيوبيا واريتريا.وتبلغ مساحته مليون ميل مربع 2505810 كيلومترات مربعة، أي أكثر من مساحات بريطانيا وفرنسا واسبانيا وايطاليا وألمانيا وجمهورية أيرلندا وهولندا وسويسرا والبرتغال وبلجيكا والنمسا مجتمعة، بحيث يبلغ مجموع مساحة كل هذه البلدان المذكورة 2504777 كيلومترا مربعا.وعبرنا شارع الشنقيطي الشهير في أم درمان ، وكانت فرصة أحكي له فيها عن الشناقطة الذين كان السودان بالنسبة لهم بشارة الخير في بلوغ الحج ، إذ أن من يصل إليه تكون الطريق أمامه سالكة بعد ذلك لإكمال المهمة المقدسة ، فأخبرني عن دور الشناقطة في السودان وبقاياهم وقبائلهم وتواجدهم ، ومنهم محمد صالح الشنقيطي ، أول رئيس للبرلمان السوداني ، و هو الذي كرمته مدينة أم درمان بتسمية شارعها الرئيسي عليه ، وكذا جامعة الخرطوم في إطلاق إسمه على مكتبتها المركزية ، وهو الذي ساهم مع عدد من الساسة والزعماء في قرار مؤتمر جوبا الشهير ، الذي حدد مصير السودان وكان هذا في عام 1947ف.ومررنا من أمام قبر الإمام المهدي الشهير، الذي يقع مقابل بيت الخليفة المبني من الطوب الجميل عام 1887، وتحول اليوم إلى متحف يتم فيه عرض الصور والأدوات والأسلحة التي استعملت أيام ثورة الإمام المهدي وخليفته عبد الله التعايشي ، ضد الاحتلال البريطاني.
وكانت فرصة تناقشنا فيها عن اقتران اسم السودان خلال العقود الأخيرة بالحروب الأهلية، والأزمات الغذائية، والفقر، بالرغم من أن هذا البلد غني بثرواته البشرية والطبيعية ، والتي قد تعززها أكثر فرص إطلالة السلام، وتدفق النفط... الذي بدأ يضخ في الخزينة السودانية ، وبدأت ثماره واضحة لزائر الخرطوم حيث التغييرات التي بدأت تطرأ على الكباري وتحسينات الطرق المعبدة وتوسيعها ..وبيّنت للبروفسور الكريم أنني لاحظت من خلال التعدد القبلي والتنوع العرقي وجود تشابه كبير بين موريتانيا والسودان ، حيث تنتشر في كليهما القبائل العربية والزنجية .. ويبقي الفارق الوحيد في وجود نسبة مسيحيين 5% ووثنيين 25% ، ومسلمين 70% في السودان ، بينما موريتانيا لم يسجل التاريخ أن عرفت ، منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمان تقريبا ، غير الإسلام السني الأشعري المالكي .!كما تنتشر في الخرطوم تجمعات من المواطنين الذين يسيرون في الشوارع جماعات جماعات ، ولا يترددون حين حلول الأذان في الصلاة حيثما كانوا متجمعين ، وهي ظاهرة تذكرني بمثيلها في العاصمة انواكشوط أيضا وخصوصا قرب الوزارات والمصالح الحكومية ..

وحين عبرنا فوق الجسر المقام على نهر النيل أخبرني البروفسور أن هذا النهر يقطع أكبر مسافاته في الأراضي السودانية أكثر من أي أراض أخرى يمر بها في رحلة الحياة من أوغندا حتى البحر الأبيض المتوسط .وليل الخرطوم من أجمل الليالي التي تبقي في الذاكرة بهدوءه الذي يلبسه ، منذ مغيب الشمس مباشرة ، وخصوصا في مناطق وسط العاصمة ، بعد هوجة النهار وفوضويته بالحركة الدائبة ، غير أن سكون ذلك الليل لا يعكره على زائر العاصمة إلا كثرة الإجراءات الأمنية ( كان هذا قبل توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام مع الحركة الشعبية) ، حيث توجد سيارات الأمن والشرطة عند أغلب التقاطعات المروربة بشكل كبير وملفت لا يجعل بدًّا من الاستفسار عن سبب ذلك ، فيكون الرد الجاهز : أن هذا شيء روتيني وعادي لدي ساكنة العاصمة وأن الأمن خير من انعدامه والبلد لا تحتمل أكثر ..!!
وقد أوقفت سيارة التاكسى التي تحملي في اتجاه مطعم يبدو أنه من أرقى وأنظف مطاعم الخرطوم ويسمى " أمواج" إحدى دوريات الشرطة ، فسألوه في أي اتجاه يسير ، رد عليهم أنه يحمل ضيفا عربيا موريتانيا يزور السودان هذه الأيام ، وأنه سائر إلى مطعم أمواج ، فأخلوا سبيله بعد الترحيب بنا بالقول : " أنت في بلدك السودان.


وتزامنت زيارتي للسودان بإعلان الخرطوم عاصمة للثقافة العربية في سنة 2005 ، وهو حدث فكري وثقافي اهتم به السودانيون شعبا ونخبة عالمة اهتماما بالغا ، بعد الحفل الخطابي الذي أعلن فيه الرئيس الفريق عمر حسن البشير انطلاقة السنة الثقافية العربية في قاعة الصداقة المعروفة في الخرطوم ، بحضور كوكبة من المثقفين العرب من مختلف الأقطار العربية يتقدمهم الدكتور المنجي ابوسنينة المدير العام للمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم ( الآلسكو) ومقرها تونس .
وفي نفس الأسبوع افتتح معرض الكتاب السوداني المصري في نادي الضباط ، حيث زرته لأتقفي آخر الاصدارات السودانية والمصرية ، وكانت المرة الأولى التي أشاهد فيها كتاب الحركة الإسلامية في السودان من تأليف الأخ الصديق والكاتب الكبير محمد بن المختار الشنقيطي ، كما رأيت في أحد الأجنحة كتاب الحقيقة والتاريخ عند ميشيل فوكو للدكتور " الفيلسوف" عبد الله السيد ولد اباه ، وسعدت بأن الكتاب الموريتانيين ، على تواضع حجم منشوراتهم ، يجدون في النهاية الباب إلى المعارض العلمية ، ويسهمون بالتالي في استكمال أدوار الآباء الشناقطة الذين مروا من السودان ذات يوم علماء وفقهاء ودعاة .
ومن أهم المعالم الجمالية للعاصمة الخرطوم مجمع برج الفاتح الاستثماري الذي تقوم بتنفيذه الشركة الليبية للإستثمارات الخارجية كرمز مهم للتعاون الثنائي بين الأشقاء الليبيين والسودانيين .وقد شاهدت جزءا من أعمال التنفيذ لهذا المشروع الاستثماري الكبير الذي يدشّن ، كما أفادني أحد المهندسين السودانيين العاملين فيه ، على مساحة إجمالية قدرها خمسة وأربعين ألف وثلاثمائة وستين مترا مربعا تبلغ المساحة المسقوفة منها ستين ألف متر مربع .
ويضم هذا المشروع الاستثماري الكبير فندقا من فئة خمس نجوم يتكون من تسعة عشر طابقا وثلاثة مراكز خدمية منها مركز تجاري يحتوي على مكاتب فخمة وقاعات عرض وأسواق ومركز لقاعات المؤتمرات ومركز رياضي متكامل بالإضافة إلى سلسلة من المطاعم والمقاهي وموقف سيارات متعدد الطوابق وحدائق وقد صممت واجهة مجمع الفاتح على هيئة سفينة شراعية زجاجية من أجل أن تعكس طبيعة المنطقة النيلية التي يقع فيها المجمع على النيلالأزرق في منطقة الخرطوم. كما أن الإضاءة الليلية للواجهة روعي فيها أن تكون رؤيته البصرية متاحة من جميع المناطق مثل أم درمان والخرطوم بحري...


و من الأحياء الشعبية التي زرتها وذكرتني بموريتانيا منطقة "منطقة اجريف " التي ترقد في أحضان النيل الأزرق وتحدها من الغرب أرقى أحياء الخرطوم ، حيث شبهتها بمقاطعة توجنين في انواكشوط ، نظرا لزحمتها الشديدة وانتشار الأزقة الضيقة الترابية التي تسبب إزعاجا حقيقيا للعربات الهندية ، المستعملة على نطاق كبير في النقل في الخرطوم ، التي كنا نشاهدها في الأفلام الهندية بعجلاتها الثلاثية ومقصورتها التي لا تسع أكثر من ثلاثة أو أربعة أشخاص..
ولا يخطئ المرء الفرق بين الحياة في منطقة اجريف و بين الأحياء الجديدة كمنطقة الخرطوم (2)... التي تأتي على مقربة من دوار الكوكاكولا وتحديدا بشارع دانفوديو حيث الحدائق الخضراء التي تحيط بالفيلات القريبة وعلى بعد دقائق معدودة من الهيئات و الوزارات الحكومية و المستشفيات و المدارس و الجامعات ، وتشتهر بمجمع سكني سياحي يسمي"جوهرة الحجاز" ويبدو أنه عمل استثماري خليجي سعودي ولا يمكن لزائر الخرطوم إلا أن يمر من أمام مبني وزارة الحج و " مركز عفراء سنتر التجاري " ، وهو نشاط استثمار تركي يحوز على تصنيف أكثر المواقع زيارة من السودانيين وضيوفهم في العاصمة الخرطوم ..وفي آخر أيامي في العاصمة السودانية الخرطوم أخذت الوقت الكافي لأتجول في مطار الخرطوم الدولي ، الذي يشبه مطار انواكشوط ، من حيث كونه يقع في وسط العاصمة ويحتاج للتوسعة والتطوير..
وقد تأخرت طائرتنا نظرا لبرمجة زيارة من عشائر وأعيان قبائل دارفور من المقرر أن يستقلوا معنا نفس الطائرة المغادرة إلى طرابلس بالجماهيرية الليبية استجابة لدعوة من الأخ القائد معمر القذافي في إطار جهود التقريب بين الأشقاء والمصالحة لمشكلة درافور" المستعصي"! ، ولم أكن أدرى أن القدر يخبئ لي فرصة رؤية "الشيخ موسى هلال" ، أحد القادة المفترضين بحسب وسائل الإعلام الأمريكية لمليشيا الجنجويد . حيث أشار إلي أحد الجالسين في قاعة انتظار مطار الخرطوم هل تعرف الشخص القادم ، فأجبته لا ! فقال لي هذا : موسى هلال ..ألم تسمع عنه؟؟وجدته رجلا أربعينيا يتشابه في سماته وقسماته وطوله وبشرته النحاسية مع صديقي العزيز ( مع الاعتذار الأخوي) الأستاذ المختار ولد حنده بشكل كبير . سبحان الله ، ، ويخلق من الشبه أربعين!
وبحسب وسائل الإعلام الأمريكية فإن الشيخ موسى هلال يأتي على لائحة تضم خمسة مسؤولين سودانيين كبار متهمين في قضايا الإبادة الجماعية للأهالي في دارفور ومطلوبين للمحكمة الدولية في لاهاي...كنت أتمنى أن تتاح الفرصة لي للاقتراب منه والسلام عليه ، لكن وجوده في الدرجة الأولي (Business class) والإجراءات المشددة في عزله عن الناس العاديين أمثالي ضيعت علي فرصة التحاور معه ومناقشته وقراءة أفكاره .. ربما تأتي فرصة أخرى .. والله أعلم!
ولا يمكن أن أقفل هذا الملف السوداني دون أن أشير لماما إلى المرأة السودانية التي كنت أخالها بحكم القرب الجغرافي أقرب للسلوك المشرقي للمرأة العربية ، ولكنني وجدتها تشبه وضع شقيقتها الموريتانية البدوية التي تعشق الحرية وتأبي الارتهان للروتين و القولبة ، فالمرأة السودانية أقرب إلى سلوك المرأة الموريتانية ، حيث لفتت انتباهي ظاهرة حضورها للحفلات و السمر الليلي ، و لها أن تحجز بارتياح كامل طاولات بإسمها ، فهذه طاولة الآنسة زبيدة ، وهذه طاولة خاصة بالآنسة خديجة .. الخ ، وهو ما لاحظته في صالة أفراح فندق الميريديان الخرطوم ، حيث السهرات التي تنعشها فرق طرب إثيوبية ( أو حبشية كما يفضل السودانيون) ليالي الأحد و الخميس ، علاوة على الحضور اللافت للمرأة السودانية في عالم التجارة و الأعمال المختلفة ، وهو ما أبان عن قوة شخصيتها وثقتها الكبيرة بنفسها ..!


كما تصادفت أيامي في الخرطوم مع إخوة عرب يمثلون جامعات عربية مختلفة تقيم اتفاقيات تعاون وشراكة مع الجامعات السودانية التي تربو على الثلاثين مؤسسة جامعية في أنحاء السودان ، ليس هذا فقط ، بل قابلت عدة طلبة عرب من دول شقيقة كالإمارات والأردن يتابعون دراساتهم في مراحل الماجستير و الدكتوراه في الجامعات السودانية ، وهو شيء جميل ويعني أن هذا البلد العربي الإفريقي راكم حصادا معرفيا مهما يمكن المراهنة عليه في عمليات صنع رأس المال العربي في الألفية الجديدة .
وأخيرا ... تركت السودان وفي قلبي لها معزة كبرى وتقدير لا يوصف ، أتمنى أن أزوره مرة ومرة ومرة أخرى وأتجول فيه دون تعجل من الشرق والجنوب والوسط والشمال حتى يتسنى لي أن أراه بصفة شمولية أوضح وأقرب إلى الحقيقة.. خصوصا أنني أحسست بتوحد كياني ولا غربتي البتة عن الأشقاء السودانيين ...


17 أبريل 2008

إلى أين تتجه موريتانيا....؟!!

في المستهل أعبر عن شكري لوكالة انواكشوط للأنباء (ANI ) على هذه المبادرة التي فتحتها للنخب السياسية الموريتانية من مختلف الجهات الفكرية الوطنية للتحاور حول السؤال الشائك أين تتجه سفينة موريتانيا في هذه اللحظة التاريخية الحرجة ؟..
أولا : وقبل كل شيء ما هي الظروف التي ألحت في طرح هذا السؤال و الوقوف عنده ، إنها ببساطة كبيرة وبدون مقدمات ، هي أوضاع معيشية عسيرة تتوالي ليلا و نهارا على الموريتانيين وتنغص عليهم حياتهم و تكاد تحجب عنهم بارقة الأمل ، التي تولدت لديهم منذ الثالث من أغسطس 2005، في مستقبل مشرق كانوا يرقبونه قريبا .. وها هو يتباعد أمامهم يوما وراء آخر .. كما أن الوضع الحالي في موريتانيا منذ سنة من وصول حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا ليس على ما يرام من الناحية الأمنية على سبيل المثال ( مقتل الفرنسيين في شرق مدينة ألاق ، و مقتل الجنود الموريتانيين في حامية الغلاوية في أقصى الشمال الموريتاني مما يلي الحدود مع الشقيقة الجزائر ، والهجوم على السفارة الصهيونية في انواكشوط ، وأخيرا .. هروب السجين سيدي ولد سدينا من معتقله في قصر العدالة ، وما عقبه بأيام قليلة من حرب الكلاشينكوف التي تم بثها على الهواء مباشرة من إحدى جهات تفرغ زينه بين مجموعة توصف بأنها " سلفية "!! و الشرطة و الحرس و الجيش الموريتاني ، ،، و ما تلا ذلك من توتر في الوضع الأمني ، ومطاردات ، وقتل وترويع لبعض المواطنين بالخطأ !! ، وتعكير جو السلم الذي ما كان يزيده " أغشت" أصلا كما أشرنا سابقا !!

وثانيا : هذه الأوضاع المعيشية الصعبة بدأت نذرها منذ أشهر حين شهدت المناطق الداخلية في أغلب أنحاء الوطن احتجاجات بالجملة على الغلاء الذي وجد أمامه الناس أنهم غير قادرين على مواصلة حياتهم بشكل طبيعي ، وقد وضعت الحكومة خطة إنقاذ عاجلة " أولى " لتدارك الموقف غير أنها لم تكن فعالة في وضع حد للمعاناة .. بشهادة من استهدفتهم الخطة ذاتها!

ولم يمضى وقت طويل حتى أعلن برنامج الغذاء العالمي (PAM ) أن موريتانيا على شفا جرف هارٍ من المجاعة الحقيقية التي قد تكون نتائجها كارثية على المجتمع وبأسرع مما يمكن تصوره .. وهنا أيضا أعلن رئيس الجمهورية خطة استعجالية " ثانية " لإنقاذ الموقف مرة أخرى ، ندعو لها بالتوفيق بالرغم من المخاوف التي بدأت تثار من هنا وهناك على طريقة تنفيذ الخطة ومن تم تكليفهم بتنفيذها !

إن الأزمة التي تمر بها موريتانيا هي أزمة شاملة ذات أوجه متعددة سياسية و اقتصادية و أمنية واجتماعية ، ولهذا فإن مقاربة حلولها يجب أن تكون شاملة أيضا ، ولكي تكون كذلك فإن الجميع موالاة ومعارضة مدعوون للمساهمة فيها و إعطاء تصوراتهم و أفكارهم بشأنها ، ليشعر الجميع بأنهم شركاء في هذا الوطن ، الذي يقيم فيهم ويقيمون فيه ، و ليس فقط دولةً بين مجموعة محدودة منهم ولو كانت من العباقرة و الصالحين ، بل الكل شركاء في موارد موريتانيا و إمكانياتها وشركاء في تحمل عناء النهوض بها من كبواتها و عثراتها الدائمة ..

و لهذا فإن الإنفراد ، حتى من النظام الحاكم ، بتولي مسؤولية معالجة جوانب تلك الأزمة ، سيعيدنا إلى نقطة الأصل و البداية ، وتظل الأزمة تعيد إنتاج نفسها بصور أقسي و أفدح من ذي قبل .. والموقف الوطني من جماعات الغلو و العنف و التطرف يجب أن يكون قاسما مشتركا بين الجميع ، و كذا لا بد من فتح قنوات التفاعل و الحوار الصريح و الصادق و الأمين بين هاته الجماعات و فعاليات المجتمع كلها من سياسيين و علماء و فقهاء وشيوخ وغيرهم من حملة الرأي و أصحاب المواقف و الكلمة ، ولاشك أن الاحتكام إلى مقارعة الحجة بالحجة و الفكرة بأختها أفضل بكثير من الاحتكام إلى المسدسات و الكلاشينكوفات ، وقد كان هذا الطريق سالكا في دول عديدة ، وكان من نتائجه أن بدأت جماعات مشابهة لـ "جماعاتنا" حملة مراجعات فكرية شاملة ، جعلتها تطلِّقُ العنفَ و سبيله بالثلاث ، وكسب المجتمع في النهاية أمنا وأمانا ..

وهذا هو المدخل الجدي و الصحيح للتفاهم مع ظاهرة العنف المعولم العابر للأوطان و الدول .. أما الحل " الأمني" وحده ، فلا قيمة له ، و هذا ما تؤكده تجربة الولايات المتحدة الأمريكية التي تمتلك أقوى ترسانة عسكرية في العالم ، حيث فشلت في العراق و أفغانستان ، وباتت تتخبط على غير هدى في هذه الساحات المختلفة ، وهو ما جعل الحزب الديمقراطي يضع في أولى أولوياته حين الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة الانسحاب ( المقنن أو الفوري ) من هذه المواقع و التفكير في وسائل أخرى للخروج من نفق " الإرهاب "!

إن المكاسب السياسية التي تحققت منذ الثالث من أغسطس 2005 ، هي جديرة بالتأسيس عليها في سبيل الحكم الرشيد و دولة المؤسسات وحكم القانون والقضاء المستقل العادل النزيه ، وغير ذلك من عناوين التنمية المستدامة الشاملة التي هي البلسم الوحيد لجميع مشاكل موريتانيا و شعبها ذي التراث العربي الإفريقي الأصيل ، والذي لا يريد المستحيل ، إنه يريد فقط أن يعيش بكرامة ، كغيره من الشعوب في هذا العالم ، ولديه من الإمكانيات المادية و المعنوية ما يؤهله لذلك ، و هناك فرص نهوض أخرى تتيحها الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي هي عاقدة العزم على الدخول إلى "السوق" الموريتاني ، فعلينا أن نهيئ لها المناخ الآمن و الأجواء المريحة ، وبذلك قد يتحول البلد في ظرف وجيز إلى ورشة هائلة للإنشاءات الكبرى ، فتنطلق المشاريع الاقتصادية العملاقة التي قد تغير وجه الحياة في موريتانيا بأسرها ، بعد أن ظلت رهينة للنسيان المطبق زمنا طويلا ، هذا هو السيناريو الذي يجب أن تتجه إليه موريتانيا ..

أما بديله ، فسيناريو مرعب : أزمات تتوالي و تتوالد سياسيا ( من إقصاء وتهميش سياسي و خنق لحريات الإعلام و الفكر و التنظيم..) ، و اجتماعيا ( هشاشة و تصدع في تماسك فئات عريضة وواسعة من شعبنا ، وهو ما ينذر بانفلات اجتماعي أو مقدمات توتر غير مسيطر على مآلاته .. ) ، و اقتصاديا ( انتشار دوائر الإملاق و الفقر و إطباقها على النسبة الكبيرة من الموريتانيين ، بسبب الليبرالية المتوحشة و منطقها الطبيعي في تجذير الاحتكار البائس ، و فشل المشروعات الاقتصادية ) ، وأمنيا ( تغول الجريمة المنظمة و ارتهان الأجهزة الأمنية لها وشيوع المخدرات و الممنوعات من كل صنف ولون .. و تحول موريتانيا إلى مثال جلي في غرب إفريقيا لجمهوريات الموز التي يحكمها منطق العصابات ورجالها .. وقد تتحول إلى منطقة نفوذ إقليمي أو دولي ..!!)

لقد مل شعبنا الكلام المعسول ، وينتظر العمل الخلاق لتغيير واقعه و الأمان على مستقبل أجياله ، ونحن مسلمون ومؤمنون وربنا عز وجل يقول لنا في القرآن الكريم "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، {التوبة:109}. وينهانا عن الكلام دون العمل به: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون.. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" {الصف: 2-3}. إن الرهان الحقيقي في كسب معركة الاتجاه في موريتانيا أن نجتهد ، حكاما و محكومين ، في عمل الأصلح ، وكما يقول الإمام الشاطبي في " موافقاته " ما معناه كل عمل يقوم به الإنسان يتنزل بين المصلحة والمفسدة ، وعلى الإنسان أن يتحرى المصلحة و يسعى إلى تحقيقها.. وأن يتجنب المفسدة و ما يقود إليها من قول أو عمل ..هذا رأيي المتواضع في سؤالكم .

المصدر :

وكالة نواكشوط للأنباء :

http://www.ani.mr

16 أبريل 2008

كتاب " منح الرب الغفور في ذكر ما أهمل صاحب فتح الشكور"


مخطوط :" منح الرب الغفور في ذكر ما أهمل صاحب فتح الشكور "

المؤلف : أبوبكر بن أحمد المصطفي المحجوبي الولاتي سنة 1289 هجرية

دراسة وتحقيق : الدكتور الهادي المبروك الدالي - طرابلس - ليبيا

تقديم وتحليل : أحمد ولد نافع

9 أبريل 2008

عن الجدل " المفتعل" حول إنشاء مصفاة للنفط في موريتانيا

لا يختلف اثنان عاقلان في عصر العولمة والفضاءات الاقتصادية الكبرى ، الذي نعيشه اليوم على الأهمية الاستراتيجية النسبية للاستثمار الأجنبي المباشر كأحد مكونات التدفقات المالية للدول النامية. ومع أن العالم يشهد تراجعاً عاماً في معدلات تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة (870 بليون دولار عام 2006 مقابل 1.45 تريلون عام 2002)، إلا أن الدلائل تشير إلى وجود منافسة قوية بين الدول النامية لزيادة نصيبها من تلك الأموال. ولهذا تحرص جميع الدول ، حتى منها تلك الدول المتقدمة ، علي تحسين بيئات الاستثمار فيها لحيازة أكبر نصيب ممكن من السيولة و الأنشطة التي تتيحها مثل تلك الفرص الاستثمارية . استظهرتُ ذلك وأنا أتابع الجدل الغريب العجيب حول " فرصة " استثمار لشركة كندية لإنشاء مصفاة للنفط في المنكب البرزخي بطاقة إنتاجية تلامس الثلاثمائة ألف برميل لليوم ، مع ملحقات إنتاج في مجال المياه والكهرباء مطابقة للمقاييس العالمية الحديثة في هذا المجال .. فأحسست بالمرارة الكبيرة وخيبة الأمل في هؤلاء الذين بدأوا يثيرون الشبهات الجدية حول " نواياهم الحقيقية " تجاه مصالح فئات عريضة وغالبة من شعبهم وساكنتهم التي تقاسي الأمّرين شظفا و فقرا و جهلا ومرضا !!

الملاحظة الأولى:

لمصلحة من يتحرك هؤلاء الذين " افتعلوا " قضية بدون سبب حقيقي للتشويش والإثارة حول الطريقة التي منحت بها الرخصة الفنية التي منحت لشركة " وينفيلد رسورسز " الكندية المتخصصة في مجال إنشاء مصافي النفط .. هل يبغون فعلا المصلحة العليا للوطن ، وهذا الاستثمار يأخذ بالأهمية الاستراتيجية الجغرافية لموريتانيا في غرب وشمال إفريقيا ، وسيجعل منها مركز استقطاب تنموي مهم، إذا أخذنا في الاعتبار أن تكرير النفط ومشتقاته سيعزز موقع الاقتصاد الموريتاني في تبادلاته مع شبه المنطقة الإفريقية في جنوب الصحراء .

الملاحظة الثانية:

هل هؤلاء الذين يثيرون هذه الزوبعة العابرة مدفوعون " عن بعد " من رجال أعمال أو " مجموعات ضغط اقتصادية " أو يرتبطون بمصالح مادية رخيصة مع " بورجوازية كومبرادورية" دأبت طوال العقود " الاستثنائية" السابقة أن تكون على صلة بأي استثمار أجنبي مباشر تسهّل له مقابل حصص انتفاع " مقننة " ، وبالتالي فإنها صُدِمتْ بهذا الاستثمار الذي تصل قيمته الإجمالية إلى أكثر مما وصلت إليه حكومتنا مع " شركاء التنمية"( ممولي نادي باريس ) الذين هللوا كثيرا للنجاح الاقتصادي والثقة والجدارة الباهرة التي جعلت الشركاء يثقون في الأداء الاقتصادي للحكومة الموريتانية ويمنحونها 2.41 مليار دولار لتمويل مخطط التحول التنموي في أفق 2008-2010 ، بينما هذا الاستثمار من شركة " وينفيلد " سيضخ، ربما، أزيد من هذا المبلغ مرتين أو أكثر، مما يؤشر إلى مستوى من الجدية والرغبة الكبيرة في الدخول في السوق الموريتاني و الأسواق المجاورة ؟!

الملاحظة الثالثة:

هل ذنب هؤلاء المستثمرين الكنديين أنهم " صدّقوا " أن موريتانيا دخلت مرحلة، فعلا، جديدة من الديمقراطية و الحكم الرشيد و الشفافية، وأنها أعلنت على صفحات كبريات الصحف الأمريكية والعالمية أنها ترحب بالاستثمارات الأجنبية وتقدم لها كل التسهيلات الممكنة و تهيئ لها كل الحوافز الاستثمارية اللازمة في هذا المجال، مما جعلهم يحترمون السياق الفني للترخيص للاستثمارات ويقدمون 35 مليون أوقية كضمان مالي إلى الخزانة العامة وينتظرون فترة ثلاثة أشهر، وهذا هو ما ينص عليه القانون في هذا المجال، ويحصلون على الموافقات من إدارة التشريع والترخيص من الجهات المعنية في وزارة الطاقة و المياه، وقدّموا تصورا جاهزا، بعد دراسة متأنية، عن خريطة العمل الاستثماري لبناء المصفاة و ملحقاتها و إنشاء المركز التكويني المتخصص الذي ستفتتحه الشركة وفقا للمقاييس العالمية في هذا المجال ، و التي على أساسها ستبعث 100 إطار و كادر فني موريتاني للتكوين في الخارج في مجال النفط ، ومساهمة في التشغيل العمومي وحل جزء من مشكلة البطالة المستعصية للشباب و الخريجين، إذ ستشغل الشركة حوالي 3500 مواطن موريتاني .. الخ

الملاحظة الرابعة:

لمصلحة من يتم " تصعيد " الموقف وربطه بالجماهيرية الليبية ، وكأن التعاون الاقتصادي مع الجماهيرية جريمة لا تغتفر، وهي التي قدمت ولا تزال تقدم مشروعات عملاقة للتنمية في موريتانيا، وليست بحاجة إلى الدخول تحت " غطاء آخر" ..! هذه النغمة المعادية للجماهيرية كنا نتصور أنها قُبِرتْ مع النظام المباد الذي كانت ليبيا بالنسبة له " مشجبا " يعلق عليه كل إحباطاته وفشله المريع في جميع المجالات .. ولكن يبدو أن هناك من لا يزال يعيش بعقلية الماضي التعيس .. كما أن العلاقات الموريتانية الليبية في هذه الفترة في أحسن أحوالها، وقد تأسست اللجنة العليا للتعاون المشترك بعيد زيارة الرئيس الموريتاني المنتخب سيدي ولدد الشيخ عبد الله إلى طرابلس في 17 نوفمبر 2007 ، و شركة الاستثمارات الافريقية الليبية ( الآيفكو) قد حصلت على ترخيص للعمل الاستثماري في قلب انوكشوط ، ومن المنتظر أن يبدأ العمل في " مجمع الفاتح الاستثماري – فرع موريتانيا " قريبا وقد وافقت الحكومة الموريتانية على التنازل المؤقت لهذه الشركة عن قطعة أرضية في قلب العاصمة .. إذا لماذا يتم الزج بالجماهيرية الليبية في موضوع " استثمار شركة كندية " ؟؟ثم إنه إذا كانت الشركة المذكورة لديها بعض الأعمال لصالح صيانة " مصفاة الزاوية " في ليبيا، وهذا ما يثير حفيظة البعض، فإن شركة " توتال " الفرنسية لها أيضا أشغال بالمليارات في السوق الليبي، وكذلك " تام أويل " و " آجيب "، و " بريتش بتروليوم "، و " هاليبرتون " ... والقائمة طويلة جدا !! وإذا كنا سنرفض أن تعمل لدينا شركة لديها أعمال استثمارية في الجماهيرية فهذا يعني أننا ببساطة لا نريد من الاستثمارات الأجنبية أن تعمل في موريتانيا !!

الملاحظة الخامسة:

أن " شركة وينفيلد رسورسز " جاءت في وقت مناسب جدا وهو عقب مقتل الفرنسيين في " ألاك " ، و الهجوم على حامية الجيش الموريتاني في " الغلاوية " في أقصى الشمال الموريتاني، و" الهجوم على السفارة الصهيوينة " في قلب انواكشوط .. إنها جاءت في وقت تبدو فيه صورة موريتانيا مهشّمة أمنيا و اقتصاديا، وكان من اللائق والأجدر أخلاقيا واقتصاديا أن تفتح الأبواب المغلقة، إن كانت موجودة ، أمام هؤلاء ويتم تكريمهم والاحتفاء بهم ، وهم الذين قدّموا خدمة بلا حساب لمصلحة موريتانيا، من أجل أن يقنعوا نظراءهم الآخرين بالقدوم إلى موريتانيا باعتبارها بيئة آمنة للاستثمارات الأجنبية، وأن تلك الأحداث الدامية ليست إلا خدوشا عابرة لا يجب أن تؤثر على المناخ العام للاستثمار في موريتانيا ..إلا إذا كان هؤلاء المعترضين على الاستثمار لديهم حسابات يتقاطعون فيها مع صانعي ذلك الإنفلات الأمني الرهيب و الكفيل بإرهاب أي مستثمر أجنبي يريد الدخول إلى هذه البلاد السائبة أمنيا، وهو ما لا يمكن قبوله إذ أن " رأس المال جبان " لا يمكن أن يتفيأ إلا الظلال الآمنة ؟؟؟

الملاحظة السادسة:

حتى إذا قبلنا جدلا أن هناك " خطأ " إداريا ما ، وهو ما لا دليل عليه، في بعض جوانب الترخيص لهذا الاستثمار المهم، فإن معالجته كان يجب، ويمكن، أن تتم بعيدا عن فضاء التلفزيون و البنط العريض للصحف السيارة، إلا إذا كان العمل على خلق ارتباك وشوشرة مقصودة ولحسابات خاصة جدا هو الهدف من ذلك، إذ أن الموازنة بين عوائد هذا الاستثمار للشعب الموريتاني وللاقتصاد الموريتاني و لصورة موريتانيا وعلاقاتها ودورها الاقليمي، كل ذلك كان كفيلا بأن يستحي هؤلاء من لعب دور " الإثارة " الذي يجعلهم في صف أعداء المصلحة العامة و الساهرين عليها، إلى صف أولئك الذين لاينظرون أبعد من " أرنبات " أنوفهم ومساحات " جيوبهم"، وهو ما لا يمكن قبوله إذا ما تعلق الأمر بمصلحة شعب يريد من يسهم في مداواة أوجاعه لا من يصب الملح على الجرح ليزيده إيلاما و مرضا !!؟

الملاحظة السابعة:

تتعين الإشارة إلى التوصية الواردة في ختام الملتقي الأخير المنظم حول تقييم عوائق الاستثمار و اعتماد تقرير سياسة الاستثمار في موريتانيا الذي انعقد مؤخرا منذ أيام قليلة في انواكشوط في 21 فبراير 2008، وتقول تلك التوصية : " إقامة شباك موحد للاستثمار يجمع مختلف الإدارات المعنية بالاستثمار تحت سقف واحد "، و من المفترض أن يتم تمرير القانون الجديد المشجع للاستثمار إلى البرلمان بغرفتيه من أجل إسباغه الشرعية اللازمة .. وأمام النقاش الذي شهده الملتقي المذكور، فلا بد للمرء أن يتساءل عن سر علاقة هذا الطموح المشروع بالواقع المعيش إزاء ما يحدث حيال " قضية وينفيلد رسورسز" الكندية ؟؟

وفي الختام .. فليس هناك مناص من التكرار، الذي يحتوي الاعتبار، و الوقوف والاستفسار عن هوية من قام بتسريب هذا الأمر و النفخ فيه باستماتة لافتة إلى هذا الحد ؟؟ وماهي مصلحته في ذلك ؟؟ وهل هناك جهات يخدمها ذلك ؟؟ وهل يعتبر أن ما قام به يقدم خدمة عظيمة للاستثمار الأجنبي المباشر من شأنها جلب المستثمرين زرافات ووحدانا إلى وطننا المكلوم ، أم أنه كان يسعى إلى تنفيرهم وإبعادهم وتشويه صورة موريتانيا لديهم ؟؟إن حرمان موريتانيا، وهي التي تحتاج لمعجزة تخلصها من إسار هذا الوضع الكارثي اقتصاديا و اجتماعيا، من نعيم الاستثمارات الدولية سيساهم في تأجيل الإقلاع بها بالتنمية المستدامة والمندمجة، أو على الأقل الحصول على نصيب من الإنجاز في مشروع أهداف الألفية للتنمية، وقد بدأت دول عديدة في إفريقيا المحيطة بنا تحقق بعض ذلك مع اختلاف في مستويات الأداء من حالة إلي أخرى ..و لا بد من التذكير أن استمرار هذا الجدل العقيم و " الإثارة " غير المجدية قد يعمل على إرسال إشارات واضحة في سلبيتها للمستثمرين الدوليين تجعلهم لا يحرصون على أن يكونوا موريتانيين أكثر من الموريتانيين أنفسهم .. ويا ليت قومي يعلمون !

منشور في موقع الأخبار انفو www.alakhbar.info

عن العرب و العولمة و الآفرو آسيوية

تشهد أكاديمية الدراسات العليا - في طرابلس ليبيا - من حين لآخر عدة نشاطات علمية وثقافية وفكرية مميزة يحضرها متخصصون وتتابعها وجوه ثقافية وفكرية وسياسية متنوعة في مقدمتها بحاث وأساتذة جامعات و صحفيين و سفراء. وكانت أحد العناوين البارزة لتلك النشاطات من قبيل " العولمة" و " العرب" و " الأفرو آسيوية".

دولة العولمة

وفي سياق الحديث عن موضوع الساعة ألقي الباحث الفرنسي "جان فرانسوابايار" مدير المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا محاضرة قيمة أشار في مستهلها إلى أن مناقشة ماهية العولمة تتنزل في عمق التساؤلات الملحة للوضع الدولي الراهن، ومن خلاله تبدو العولمة على أنها جملة التحولات التكنولوجية والمالية والسياسية والثقافية التي طرأت على الدولة الوطنية وجعلتها على مرمي حجر من فقدان سلطانها التقليدي بفعل طغيان السوق وشركاته المتعملقة! وإذا كان ذلك التوصيف العام ينسحب بصورة إجمالية، إلا أنه قد يكون مجانبا للصواب في بعض المجتمعات التقليدية مثل مجتمعات إفريقيا جنوب الصحراء حيث لازال بقاء الدولة يعني فيها الشيء الكثير على الرغم من وقوعها جديا تحت ضغوط عدم الاستقرار الاجتماعي و الاقتصادي (الحروب المجاعات ) وهو أمر يحيل إلى التساؤل عن جدوى الحديث عن المجتمع المدنى. أما في الدول المتقدمة فإن " دولة العولمة" بحسب " جان فر انسوا" تشكو من تزايد نفوذ عتاة الليبراليين أمثال " بيل قيتس" و " سو روس" وغيرهم من الذين إن أرادوا تهديد الدولة لفعلوا كما أثبتت ذلك أزمة بلدان شرق آسيا في 1997 ، كما أن أولئك "البارونات" الكبار تطاولوا على الدولة بعد أن خوصصت لهم صلاحيات الجمارك والدفاع الوطني وبعض مهمات الشرطة التقليدية. وهو واقع جعل البعض يشير إلى أن هؤلاء الرأسماليين الكبار هم القادة الفعليين للعالم الذي نعيشه اليوم ولكنهم " حكام في الظل" تكفي ضغطة من أحدهم على زر صغير لتعاني دولة ما من الإفلاس المالي وبأسرع من لمح البصر ، وهذا طبعا بخلاف ما تدعو إليه اتفاقية منظمة التجارة الحرة التي تروج لدعاوى الاعتماد المتبادل وتوزيع المنافع الاقتصادية والسياسية بين بني البشر في الشمال والجنوب.لكن ما تنص عليه الاتفاقيات شيء وما يجري على أرض الواقع من حقائق شيء آخر مختلف تماما.

عرب وعولمة

وهو زوج مفاهيمي استهوى مفكرا عربيا هذه المرة هو المحامي الشهير "إبراهيم الغويل" رئيس الفريق القضائي في قضية لوكيربي المعروفة ليقدم في نفس المكان وأمام نفس الجمهور محاضرته عن " العرب والعولمة و الأفر وآسيوية" .وفي تقديمه تساءل المحاضر عن : من هم العرب؟ وأجاب إنهم قوم لا ينتسب إليهم بالعرقية والسلالية، بل إن معنى " العربي" هو معني لساني وثقافي وفكري وحضاري ، وبناء عليه تكون القومية العربية قومية منفتحة ومرنة ، والعرب يرون في أنفسهم أنهم القوم ذوو القدرة على الإبانة والإفصاح والبلاغة ، ويترتب على ذلك أن من لا يتصف بذلك يكون " عجميا". لهذا ليس غريبا أن يري العلامة ابن خلدون العالم في عصره عبارة عن " عرب وعجم وبربر "!! والأخيرون هم " عرب" ينطقون العربية بلكنة ورطانة وغموض! كما أن العرب حسب المحاضر هم حملة رسالة الدين الإسلامي الذي قدم جُماعَ الحلول للبشرية من أمراضها ،ولهذا كان القرآن " مصدقا " و " مهيمنا" و " كاملا خاتما". ويناقش المحاضر أن الأفول الحضاري العربي الإسلامي بدأ منذ انقطاع الوحي السماوي حيث استحالت السلطة " الشورَوية" إلى " مُلك عضوض" ، وانتقل المال من كونه "مال الله " إلى أن تركز " دولةً بين الأغنياء والمترفين" ، كما انتقلت الأخوة الإسلامية إلى " شعوبية" عجلت بانهيار الحضارة ورؤاها التاريخية الرافضة للتعصب والمركزية خلافا للرؤية الغربية للتاريخ التي تختصر تاريخ البشرية في تاريخها وحدها مدعية أن خلافه هو سفسطة وظلام " قرسطوي"! إن الرؤية الغربية لا تجعل أمام الآخرين من خيار إلا " الإيمان والتسليم". ولتفنيد محاججة الداعين إلى التماهي مع خطابات العولمة " الغربية" استعرض إبراهيم الغويل أمام الجمهور في سابقة نادرة في مثل هذه المحاضرات حوالي 20 مرجعا " جديدا" باللغة الإنجليزية وصادرة في أغلبها عن دور نشر أمريكية ، ومن بينها كتب: " توماس فريدمان" مرورا بــ:" شومسكي" و " سو روس" و " ستوقلس" .. وانتهاءً بـ:" طارق علي" و " فوكوياما" و " روبرت ويليام"..

عن فكرة الأفرو آسيوية

وهي فكرة خلقها العرب تاريخيا بالإسلام وجغرافيا بتموقعهم في تقاطع القارات الرئيسة في الكون آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا، وتعززت في العصر الحديث في أوج حركة التحرر الوطني متجسدة في مؤتمر باندونج 1955 الذي صاغه الأفارقة والآسيويين بمحورية العرب من خلال دور الزعيم البارز جمال عبد الناصر. وقد سعى الغرب دائما إلى ضرب فكرة الأفرو آسيوية من خلال ترويج " الصراع بين الحضارات" لبتر العلائق التاريخية بين الإسلام والكونفوشيوسية والبوذية والأرثوذكسية ، ويدل ذلك على عبثه بصناعة مناطق التفجير الدائم في فلسطين وكشمير والشيشان .. الخ .

وقد رأى "الغويل" أنه إذا كان كتاب " رأس المال" لــ كارل ماركس من أهم مؤلفات النصف الثاني من القرن التاسع عشر فإن كتاب الفيلسوف الجزائري " مالك بن نبي" عن " الأفرو آسيوية" الصادر باللغة الفرنسية هو من أجود وأهم مؤلفات النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أنه ظُلمَ حين تم حجره ومنعه من التداول والتوزيع لإجهاض فكرة الأفرو آسيوية مثلما تم التآمر – كما قال- على " بن بيلا" بانقلاب 1965 لمنع انعقاد قمة الأفرو آسيوية ،وهي التي بدأ الأفارقة والآسيويون ينشغلون للمشاركة فيها بدليل حضور الزعيم الصيني " ماوتسي تونغ" إلى القاهرة في طريقه إلى قمة الجزائر التي لم تنعقد حتى اليوم!

وفي ظل عالم التكنولوجيات( الحرب – الإعلام – الاتصالات – الإنتاج ) فإن سبيل الإنقاذ هو إحياء ثقافة الأفرو آسيوية لأنها هي التي بإمكانها الإجابة علي الخيار" الصعب" : حرب أم سلام وبعبارة أخرى : فناء أم بقاء؟ ولاشك أنها ستجيب بالانحياز إلى خيار السلام خيار البقاء كيف لا؟ وهي تجذر تاريخيا قمة التعايش بين الإسلام والكونفوشيوسية والبوذية ، أي بين العرب وغيرهم من قوميات العالم الإسلامي ، وبصورة موسعة بين كل أمم الأرض مهما اختلفت عقائدهم أو أفكارهم في زوايا المعمورة المختلفة.

وعلى الرغم من انتقاد البعض للمحاضرة لكونها محاضرة عامة وفي ذلك إحدى نقاط ضعفها، حيث لم يتم التقيد بتقسيمات المنهج العلمي المتبعة بالخصوص، فإن السؤال الرئيس ظل عالقا في الأذهان وهو :" هل لا يزال هناك أملُُ في مثل هذه الأفكار التي تبدو في مثل الحالة الراهنة " مفارقة" للجوقة الموسيقية المعيشة التي تأتي من وحي الزعامة الأمريكية للعالم؟

وكيف السبيل العملي إليها في ظل دول آسيوية راغبة إلى الشراكة مع اقتصادات العظماء ،واتحاد إفريقي يحمل أوزار و مشاكل القرن الماضي وتداعياتها الجيو استراتيجية .. وعرب تتقاذفهم التكتلات دون أن يكون لهم حضور فاعل ومؤثر؟

ويرى " الغويل" أن الإجابة يملكها الشباب وهم أغلى من في الحاضر وعدة المستقبل وعتاده ، إلا أنه نسي أنهم محصورين في "حدية " تصعب منها المناورة من عدة زوايا تعكسها عربية وغربية ، الأخيرة التي يعكس جزء من بعضها " جان فرانسوا بايار" تصرخ من أن " الدولة الوطنية : ضحية العولمة" !! و الأولى التي يعكس حالة منها أيضا " إبراهيم الغويل" وهي المراهنة على جدوى مثل أفكار " العرب و الأفرو آسيوية" كخيار استراتيجي في مواجهة خبطات العولمة التي ترمي في كل الاتجاهات؟

فأي الفريقين أهدى سبيلا!

* منشور في موقع وكالة الـأخبار www.alakhbar.info

4 أبريل 2008

على خطي ركاب الحج الشنقيطية

منذ الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا في القرن الهجري الأول على يد الفاتح الإسلامي الأشهر عقبة بن نافع الفهري ، مؤسس حاضرة القيروان التونسية ، بدأت الحواضر الإسلامية الناشئة من يومها في نواحي الدولة الإسلامية ترتبط بشكل وثيق بالمشرق الإسلامي ، وتحديدا بناحية الحجاز ، حيث المواقع المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة اللتين تهفو إليهما قلوب المؤمنين حيثما كانوا أملا في أداء الشعيرة التعبدية الخامسة في الإسلام " الحج".
ولم تكن " حاضرة شنقيط " موطن المخطوطات الإسلامية والعربية ،وإحدى أعرق المدن العربية الإسلامية ، وواحدة من عواصم الأطراف الجنوبية للصحراء الكبرى الإفريقية ، لم تكن بمعزل عن ذلك الترابط والارتباط بالديار الإسلامية المقدسة في الحجاز.
وقد دفعت شنقيط وساكنتها ضريبة ذلك التعلق الإيماني بالديار المقدسة ،لأن الحرص على إدامة أواصر ذلك التواصل كان يكلف عناء وضنكا لم يجد الشناقطة غضاضة في تحملهما صبرا و قبولا وحبورا لما فيه من أجر وثواب دنيا وأخرى .
وحيث إن الإنسان الشنقيطي ينشأ في بيئة صحراوية جافة وعسيرة العيش ، فإنه لا يكاد يبلغ الحلم حتى يجد نفسه، ملما بعدة متون " منتقاة " من عيون التراث العربي الإسلامي ،وهو المخزون الذي تفخر باحتضانه ورعايته عبر العصور المحاظر الشنقيطية .
وإذ ذاك لا يبقي لهذا الإنسان الشنقيطي إلا أن يتوج عطاء شبابه برحلة العمر أداءً لمناسك الحج قربى إلى رب العالمين سبحانه ، واستزادة من معين العلم ، الذي هو فريضة واجبة الأداء من المهد إلى اللحد .
غير أن ركاب الحج الشنقيطية كانت تنتظم وفقا لاتجاهات وخطوط سير مختلفة ومتباعدة نسبيا ، من أهمها :
· طريق ينطلق من مدينة شنقيط في عمق الشمال الموريتاني ، في اتجاه المغرب الأقصى ) فاس ( والجزائر ) توات ، تلمسان ...( و تونس) القيروان ..( وليبيا ) طرابلس ، برقه ..( ومصر) القاهرة ، البحر الأحمر ..( وصولا إلى الحجاز . ويتميز هذا الاتجاه بكونه خفيف العناء على الحاج الشنقيطي ، إذ من الواضح انه يعبر به الحواضر العربية الإسلامية التي لا يجد هذا الحاج كبير صعوبة في التكيف والتواصل معها تذليلا لوعثاء السفر وطوله ..
· طريق يسلكه الشناقطة ويولون وجوههم من بدايته شطر الحواضر الإسلامية الإفريقية المجاورة ،من مالي " باماكو ، سيكاسو .." ، وبعد ذلك يتوغلون في المجاهل الإفريقية وصولا إلى الكونغو " برازفيل " ، ورجوعا إلى النيجر " نيامي ، أغادز ، طاوا.." ، ونيجيريا" كانو .." وقد يتفرع الطريق شمالا جزئيا إلى تشاد " فورلمي ، آبشه .." ، وانتهاء من كل المحاور إلى السودان الشرقي " دارفور ، الخرطوم ، كردفان ، بحر الغزال..كسلا.." ، إما إلى ميناء البحر الأحمر ، أو دخولا إلى مصر لقاصدي الأزهر الشريف ، ثم التكملة من هناك إلى الحجاز ..وهكذا !
غير أن ما يميز هذا الاتجاه هو طوله الزمني النسبي ووعورته وتعاظم المخاطر التي تكتنفه ، والتي طالما وضعت حدا بين الكثيرين من الحجيج الشنقيطي وبين حلمهم في زيارة الأماكن المقدسة ، حيث يعانون وهم سائرون إليها من عدم القدرة على التعاطي مع أقاليم مناخية مختلفة ومتباينة جذريا مع المناخ الصحراوي الذي صدر عنه الشناقطة وترعرعوا فيه ..!!
وكثيرا ما كانت الركاب الشنقيطية مكونة من أناس مختلفين من حيث العمر والقبيلة والجهة ..الخ ، كما تحوي أجيالا من الشباب والشيوخ والنساء ، وقد تستغرق رحلة الحج ، التي لا تثنيها عوادى الزمن ، شهورا بل سنة على الأقل غالبا بالنظر إلى كونه حج " السير على الأقدام "!
إلا أن ما وثقه التاريخ عن يوميات الشناقطة أن هذه الرحلات " الحجية" كثيرا ما أدت بالشناقطة الى الثواء في أماكن معينة على طريق الحج . مع ما يفترضه ذلك من مواجهة ما تتطلبه عملية ابتداء الحياة هناك من " غرباء الحج" ، الشيء الذي أدى مع الزمن إلى اندماج اجتماعي في تلك المجتمعات والشعوب ، وذلك ما أوجد بعض الجذور و " البذور" الشنقيطية في مواقع معينة ومتباعدة في إفريقيا جنوب الصحراء وفي شرق القارة وشمالها وفي الحجاز و بلاد الشام والعراق وتركيا .
وربما هذا ما يفسر " ادعاء" كثير من الأقوام والشعوب والقبائل الإفريقية أنها تحتفظ بـ"آثار الشناقطة"! ، وأحفاد ذلك الرعيل الأول من الحجيج الشنقيطي ، الذي وضع لبنة عادة الهجرة المقدسة من شنقيط إلى الحجاز مرورا بالغابات والأحراش والأدغال الإفريقية ..!
بل وأكثر من ذلك فإن هذا هو السبب في كون الكثير من مواطني تلك الدول ، المشار إليها في جغرافية الطريق إلى الحج ،يتباهون بأصولهم التاريخية الشنقيطية، سواء كان ذلك صريحا كما هو الحال في مالي والنيجر والسودان وليبيا ، أم كان ذلك ضمنيا كما هو في دول أخرى حتى من خارج إفريقيا كالأردن وتركيا مثلا لا حصرا ..
وفي نفس السياق ، حكي لي أبتي العلامة الفقيه الراحل إدوم ولد نافع ، قدس الله سره ، قصته مع ركاب الحج الشنقيطية ، حيث إنه لما أكمل " إجازات" دراساته التقليدية المحظرية ، كما هو دأب شباب الحوض في تلك الربوع في خمسينيات القرن العشرين ، اعتزم نية الهجرة للحج ، وصحب لذلك "رفقة" تنوي الشيء ذاته ، وحين توغلوا في العمق الإفريقي ، تفرقت بهم بنيات الطريق أثناء الرحلة المقدسة ، ومرض بعض الحجاج بسبب عض الناموس والباعوض المنتشر في البيئة الإفريقية ، ومات البعض الآخر الذي لم يقوى على المقاومة ، وخارت عزائم البعض فتريث في الطريق وكون أسرا جديدة وبدأ حياة أخرى في هذه المحطة أو تلك ، وكان العدد البسيط على أصابع اليد هو من تمكن من الرسو على شاطئ الأمان " الوصول إلى السودان" ، الذي كان يعني بمقياس تلك الأيام إنجاز تسعين في المائة من المهمة ونيل الأرب في بلوغ الحجاز!
ولأن مثل هذه الرحلات متخمة بالمواقف العصيبة واللحظات المليئة بالعثرات الكؤود التي تجعل المرء يوقن – في لحظة يأس- أن ملامسة الثريا أقرب إليه من بلوغ الحجاز ، فقد عمد الكثير من العلماء والصلحاء الشناقطة إلى " توثيقها" حالما تسنح الفرصة لذلك ، وذلك من أجل أن ينقل للأهل والأجيال الطالعة تجربته في الحج ومعاناته في سبيله ، من أجل أخذ العبرة والدروس .
ومن أولئك الذين " دونوا" رحلاتهم الحجية العلامة محمد يحي الولاتي في رحلته الحجازية ، وكذا العلامة ولد اطوير الجنة ، وغيرهم كثير ، وهي مؤلفات نفيسة تصنف بجدارة ضمن أدب الرحلات والأسفار !!
إن الجيل الموريتاني الحالي ، وهو يشمر السواعد لبناء موريتانيا "الجديدة " ، لا يجب عليه أن ينسى أو يتناسي جهود أسلافه ، الذين كانوا يصدرون من مجال جغرافي صحراوي لا دولة فيه ذات منعة يقدمون أنفسهم من خلالها ، بل إنهم قدموا أنفسهم بسمتهم وعلمهم وأخلاقهم - فحسب- لعالمهم الذي عايشوه في تلك الأزمان الغابرة ، ويبدو أنهم كانوا مقنعين إلى حد كبير ، بدليل " الإرث المعنوي" الذي خلفوه ذكرا ومآثرا لا تزال محسوسة على خطي آثارهم حتى اليوم .
إن ذلك يمكن التأسيس عليه في بناء مقاربات حول دور الشناقطة الحاليين في محيطهم وعالمهم ، يمكن أن يركنوا إلى ما خلفه آباؤهم للاستفادة منه في التطوير ولعب دور يتماشي مع معطيات الراهن المعيش ، وبدون ذلك فلا قيمة للانتساب إلى كل ذلك التاريخ ، بل إنه قد يكون لعنة تلاحقنا على نحو لا نقبله أو نرضاه .
أخيرا وليس بآخر ، فإن ركاب الحج الشنقيطية ، كغيرها من ركاب الحج الإسلامية الأخرى ، لعبت دورا تاريخيا في توطيد ركائز اللحمة بين المسلمين ، وعملت على نسج وشائج القربي الاجتماعية التي كانت تكبر مع الزمن حتى أدت إلى هذا التقدير الكبير الذي يلقاه أحفاد الشناقطة أينما حلوا ،وفاءً لذكري شمائل أجدادهم الذين مروا من هناك في تلك الأيام الخوالي ...

ملفات الزمن الهارب (2) : في عاصمة الفاطميين (1)

شاءت الأقدار أن أسافر إلى القاهرة ، وذلك لحضور معرض القاهرة الدولي للكتاب مرتين الأولى في دورة 2005 ، و الثانية في دورة 2006 ، وكانت فرصة ثمينة لي وأنا القادم من منطقة المغرب العربي ( موريتانيا ) ، كأني أسير على خطى بناة هذه المدينة العريقة ، وهم الفاطميون الذين نقلوا عاصمة ملكهم من " المهدية" في شمال تونس ، وبعد أن استتب لهم الأمر في مصر ، في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ، الذي وضع حجر الأساس للقاهرة ، وأسميت من ذلك اليوم "قاهرة المعز لدين الله" .. ولا يمكن لزائر القاهرة الحديثة إلا أن يستذكر هؤلاء الفاطميين وجهودهم التاريخية في نشر الإسلام والثقافة العربية و الإسلامية ، وهم الذين لا تزال آثارهم باقية حتى يومنا هذا تدل علي بصماتهم التي حفظها الزمن بالرغم من عادياته ، بداية من "الأزهر الشريف" ، ومناطق " الحسين " ، و " السيدة زينب" ،،، الخ وغير ذلك من المواقع الإسلامية التي أصبحت جزء مميزا ومغريا من معالم القاهرة الإسلامية ، يفد إليه آلاف الزوار والسياح من مختلف أصقاع الدنيا كل عام ...
وصلت إلى مطار النزهة بمدينة الإسكندرية الساحلية المتوسطية في رابعة نهار أحد الأيام المشمسة في فصل الشتاء ، ولفت انتباهي سرعة تخليص إجراءات الدخول من ضباط المطار ، و ربما فاجأني صغر مطار النزهة الذي لم أتصور حجمه بهذا المستوي غير المتناسب مع عدد سكان المدينة وحجم السياحة السنوية إليها ، إذ يصل عدد سكانها تقريبا إلى أزيد من ستة ملايين من البشر ( وهذا يفوق عدد سكان موريتانيا مرتين!!) ، غير أن حجم الضغط عليه فيما يبدو ليس كبيرا مثل ميناء القاهرة الجوي أو المطارات السياحية الداخلية الأخرى ، كمطار الأقصر مثلا .. أسرعت في الخروج من محيط المطار إلى الشوارع الأمامية ،حيث أقلتني سيارة أجرة في اتجاه محطة " سيدي جابر للمترو" في وسط المدينة ، وحين استفسرت عن أقرب موعد للقطارات المتجهة إلى قاهرة المعز ، أجابني الموظف المختص أن هناك موعد بعد نصف ساعة للقطار " الاسباني" كما يسميه المصريون ، فحجزت فيه تذكرة درجة أولي بحوالي 40 جنيها مصريا ( ما يقابل 8 دولارات تقريبا) ، وعلمت أن هذا القطار " الأسباني" ، و نظيره " الفرنسي" ، هما أفضل القطارات المتجهة إلى القاهرة من حيث ضبط المواعيد في الانطلاق والوصول .. بعد حوالي ساعة من المسير ، مررنا على عدة قرى ونجوع ومدن مصرية ، من أبرزها " طنطا" مدينة الولي الصالح " السيد البدوي" المشهور ... وكانت طريق القطار تسير بين الحدائق والحقول الزراعية ، التي لفت انتباهي ، أحيانا ، أن التقنيات الزراعية المستخدمة فيها لا تزال تقليدية جدا ،حيث الجرار والفأس العادية والنساء اللواتي يشاركن في طقوس الفلاحة ، والأطفال الصغار وهم يداعبون أشجار الحقول هنا وهناك ، وهي تقنيات بدائية لم أكن أتصور أن مصر في الألفية الجديدة لا تزال تستخدمها ، تماما كما هو الحال في المزارع الموسمية في دواخل موريتانيا..
انتهت الرحلة بوصولنا إلى محطة " رمسيس" الكبرى في قلب القاهرة ، وبالرغم من أن النهار لا يزال في رابعته إلا أنني حرصت على العثور على أقرب فندق شعبي لأرمي فيه حقائبي ، كسبا للوقت حتى لا يضيع علي ذلك اليوم دون أن أزور معرض القاهرة الدولي للكتاب في أرض المعارض الكبرى في مدينة نصر ، و قد دلني أحد المصريين وأنا أتجاوز تقاطعات الطرق المحاذية لمحطة" رمسيس" ، إلى فندق " فونتانا" ، وهو صغير بالمعايير " المصرية" طبعا وضخم بالمعايير الموريتانية!! ، ويقع الفندق على الاتجاه الثاني المقابل للمحطة ، ويطل عليها في نفس الوقت . فدلفت إلي جناح الاستقبال فيه ، و طلبت حجرة لمدة يوم واحد أو يومين حتى أرتب لمقامي في القاهرة بشكل جيد ، ، ومن حديثي عرف أنني قادم جديد ( ولكل قادم دهشة؟!) ، فأخبرني أنه يجب علي أن أدفع مائتي دولار أمريكي على الأقل كعربون تحت الحساب ما دمت " غير مصري "! وأن هذه هي تعليمات الوزارة ( وزارة السياحة)؟!!
فلم أناقشه ..بالرغم من استغرابي من هذه الطريقة في التعامل مع القادمين الأشقاء ( أو هكذا المفترض بالنسبة لي على الأقل) وفي دولة تشجع السياحة إليها وترغب في استقطاب المزيد والمزيد من الزائرين سنويا .. وقد علمت بعد ذلك أن هذا مجرد اجتهاد من الموظف وأن لا علاقة للوزارة بهذا الأمر ولا أصدرت هذه التعليمات !!
كانت لدي رغبة كبيرة أن أنتهي من هذه الإجراءات بالسرعة القصوى ، طلبت منه أن يدلني على محور الاتجاه إلى معرض القاهرة الدولي ، وحين وقفت على الطريق منتظرا حافلات النقل العام ، هالني المنظر الذي كنا نشاهده يتكرر في الأفلام المصرية ، وهو التزاحم الشديد بين البشر شيبا وشبابا ..رجالا ونساء .. في هذه الحافلات العامة ، بطريقة غريبة و " مريبة"! ، تشبه تماما الحافلات الناقلة في انواكشوط ، التي يتكدس فيها وفوقها الناس كالحيوانات ، غير آبهين بالتناسب العددي بين عدد الكراسي وعدد الركاب ، فالكل يركب على الكل ، ببهلوانية غريبة ومقززة !!.
عدلت في النهاية - وأمام هذا المنظر الذي جعلني أشك في النهاية هل أنا في موريتانيا أم في أرض الكنانة - عن فكرة الحافلات العمومية ، واختصرت الموقف بإيقاف أول سيارة أجرة تصادفني ، قال صاحبها : " على فين يا بيه ؟؟ " ، رددت عليه : على معرض الكتاب الدولي ، وبعد طقوس الشكوي التي بدء بها الرحلة في سيارته من ضيق ذات اليد و سوء الأحوال المادية مقارنة مع أيام زمان !!.. ومع أنه لم يحدد عن أي أيام زمان يتحدث ..إلا أن ذلك كان مقدمة لازمة ، فيما يبدو ، ليحدد تسعيرة لهذا المشوار وصلت إلي حوالي ثلاثين جنيها !! .. وبعد شد و جذب وشكوي وتبرم وتأسف ، استقر رأيه عند عشرة جنيهات مع لازمة تؤكد " عشان أنت ضيف عندنا في مصر.. معليشي يا بيه ..!!"

علمت أن المعرض يعقد منذ عام 1969 ، وأن المعرض الحالي مقام على مساحه 180000 متر مربع يحتوي على يضم "15" جناح عرض يشمل عددا" هائلا" من دور النشر يتعدى "516" ناشرا منهم"58" ناشرا " عربيا" و"25" ناشرا أجنبيا .... و"432" ناشرا" مصريا" كل ذلك ضمن"سرايات البيع" التى تعتبر السوق الفعلى للمعرض حتى يتمكن زوار المعرض من الاطلاع على احدث اصدارات دور النشر وشراء احتياجاتهم من الكتب من عيون المعرفة الإنسانية ...
تزامنت الدورة الثامنة والثلاثين للمعرض في سنة 2005 مع دورة كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم التي بدأت يوم الجمعة الماضي في القاهرة وهو ما شكل تبرما وضيقا كبيرين لدى الناشرين في المعرض خوفا من تراجع منحنياتهم التسويقية عن ذي قبل ، لأن متابعة وحضور الكأس الإفريقية قد تجذب الكثيرين إلى المدرجات وليس إلى " السرايات" .
كما علمت من المطويات التي وزعت علي الزائرين تزامن المعرض في سنة 2005 مع عدد من المناسبات التاريخية والثقافية والسياسية في تاريخ مصر والعالم العربي، مثل مرور 700 عام على رحلة الرحالة المغربي الشهير أحمد بن بطوطة إلى دول المشرق التي أوصلته حتى بلاد الهند، و300 سنة على ترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية التي سبقت الطبعة الإنجليزية بخمسين عاما، ومرور 250 عامًا على مولد المؤرخ المصري"عبد الرحمن الجبرتي"الذي أرخ في كتابه الأشهر "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" لفترة حكم المماليك والحملة الفرنسية على مصر عام 1798 وبداية حكم محمد علي مصر عام 1805، ومرور 200 سنة على تولي محمد علي باشا الحكم في مصر باعتباره مؤسس الدولة المصرية الحديثة

يا داخل مصر هناك ألف من مثلك


بالرغم من أن الهدف من زيارة المعرض هو الحصول على بعض العناوين الدقيقة عن مواضيع حديثة و محددة تحتاجها أطروحتي للدكتوراه في العلوم الاقتصادية ، غير أنني وجدتني منساقا تلقائيا إلى الأنشطة الفكرية والثقافية المقامة على هامش المعرض ، وحيث إن هناك إعلانات تطلب الحضور والمشاركة والاستماع لكتاب ومفكرين مصريين كبار وإجراء حوارات مفتوحة معهم، من بينهم الكاتب الصحفي كامل زهيري الحاصل علي جائزة مبارك للعلوم الاجتماعية، والفنان محمد حامد عويس الحاصل علي جائزة مبارك للفنون، والناقد د. عبدالمنعم تليمة الحاصل علي جائزة الدولة التقديرية في الأدب، والروائي خيري شلبي الفائز بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، والموسيقار عمار الشريعي الحاصل علي جائزة التفوق في الفنون، والروائي إبراهيم أصلان الحاصل علي جائزة كفافيس والروائي محمد المخزنجي الفائز بجائزة مؤسسة ساويرس للإبداع القصصي وغيرهم.. فإنني كنت في كل فرصة أعود فيها إلي مثل هذه الصالونات التي تعج بألوان الفكر السياسي والثقافي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار .
واستمتعت أحيانا بأجواء المناقشات والأفكار الثرية المطروحة في موائد مستديرة موسعة توزعت على محورين رئيسيين الأول : « التنوع الثقافي في ظل العولمة» وذلك بمناسبة إصدار وثيقة اليونسكو لدعم التنوع الثقافي، و الثاني " ثورة المعلومات وأثرها في ثقافة الشباب".. بالإضافة إلى استضافة شخصيتين عالميتين تشاركان كضيفي شرف في أنشطة المعرض الفكرية والثقافية ، وهما الكاتب الفرنسي "روبير سوليه" صاحب الكتاب الشهير "مصر ولعا فرنسياً" و"نادين غورديمير" الكاتبة الإفريقية الحاصلة على جائزة نوبل في الآدب..

تذكرت إثر ذلك النكتة ، أو بالأحرى الأسطورة الشعبية ، التي تتردد عندنا في موريتانيا ، أنه " يا داخل مصر هناك ألف من مثلك"!! بمعني أنك إذا كنت من أهل العلم الشرعي والدين الإسلامي الحنيف فلن تعدم الأزهر الشريف وعلماءه و المزارات الدينية ونساكها ، وإن كنت من أهل الفكر والثقافة فهناك في مصر فطاحلة وجهابذة لا يشق لهم غبار في هذا المجال ، وإن كنت من أهل اللف والدوران والإجرام والاحتيال والنصب فهنا في مصر أهل " الفهلوة " و" البلطجة " و" الأونطة " ، و " ناس تخاف وما تختيش ! " ، وإن كنت من أهل المجون واللهو والغرام والطرب الأصيل وغير الأصيل فإن في شارع الهرم و " مداخله" ما يروق لذوقك وينقلك إلى العالم الذي تحلم به ، عالم يجعلك تعرف حق المعرفة شعار " روتانا سينما" : مش حتقدر تغمض عينيك !!
إن الحرية الفكرية والثقافية التي يلاحظها متابعو تلك النشاطات لا يمكن أن تحجب حقيقة مصادرة ، كما أفادني بعض الناشرين ، بعض المؤلفات الأدبية والفلسفية، حيث تمت مصادرة حوالي 20 مؤلفاً وهي "11دقيقة " للبرازيلي "باولو كوبلو" و" الوعول" و" الومض" و"حكاية النورس المهاجر " للسوري حيدر حيدر و" ليلة الغلطة"و"الحب والحب الآخر " و" أعناب مركب العذاب" للمغربي طاهر بن جلون ، وأجزاء من رواية "مدن الملح" و" حين تركنا الجسر" و"بادية الظلمات" و" أرض السواد"للروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف ، و" أحلام النساء" للمغربية فاطمة المرنيس ، و " كبرياء الطريق في مأزق" للسعودي عبد الله القصيمي ، و"الحياة الجديدة" لأورهان بافوق ،و مريم الحكايا" للروائية اللبنانية علوية صبح ، و"مسك الغزال" للروائية اللبنانية حنان الشيخ و"خفة الكائن التي لا تحتمل" للروائي التشيكي ميلان كونديرا ، ورواية"حكاية مجنون" للروائي المصري المقيم في ألمانيا يحيى إبراهيم ، وكذلك ديوان "11 كوكبا" للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وديوان "أول حب - أول جسد" للشاعر السوري علي أحمد سعيد المعروف بأدونيس.
وربما يعكس ذلك مضمون المثل السابق للداخل إلى مصر في تناقضات أحوالها ..سبحان الله!


مشاركة بدون ترتيب مسبق في مظاهرات لحركة كفاية

فوجئت في يوم الجمعة 4/2/ 2005 وأنا بصدد الدخول إلى المعرض ، اصطفاف عشرات العربات المصفحة وتعزيز لقوات أمن حاشدة بلغت ، فيما كتبت الصحف في حينها ، حوالي 50 ألف جندي على شكل حواجز أمنية، لتطويق مظاهرتان اندلعتا بأرض المعرض، نظمت أولاهما "الحملة الشعبية من أجل التغيير" .أما المظاهرة الأخرى فقد نظمها حزب العمل (المجمَّد)، وتقدمها مجدي أحمد حسين، أمين عام الحزب، ونددت بدعوة مبارك رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لزيارة القاهرة. .وانتشر جنود الأمن المركزي لحصار المشاركين في المظاهرتين الذين وجدنا أنفسنا في خضمهما ، وكأننا من منظميهم أو المشرفين عليهما ، وذلك بالرغم من اختراق قوات الأمن المدنية للمظاهرتين ومنعها بلباقة أحيانا وبتهديد وإبراز بطاقات الأمن أحيانا ، وهو ما خلق ربكة غير متوقعة ساهمت في استحالة الحركة بين أجنحة المعرض المختلفة ، ما دفع الكثير من رواده إلى مغادرته. وعلقت الصحف المصرية بسخرية لاذعة أن المعرض استحال إلي "معرض للأمن المركزي" !! ..
وعدت أدراجي إلى حي المهندسين - شارع السودان ، حيث أقيم بعد أن تركت الفندق بعد ثلاثة أيام من الإقامة فيه ، من أجل الاستعداد للذهاب للصلاة في الجامع الأزهر الشريف ، الذي يسوره المشهد نفسه ، كما تركته في أرض معرض القاهرة للكتاب ، ويبدو أن نشطاء حركة كفاية جاءوا إلى المسجد يرتبون لمظاهرة بعد انقضاء الصلاة ترفع شعارات تتنوع بتنوع الهموم المحلية والقومية ، من " لا للتوريث" ..لا " للتمديد" ..إلى .. المقاومة في فلسطين السليبة والعراق المحتل الجريح !!
حين اقتربت من مدخل الجامع الأزهر اعترضني أحد رجال الأمن ، وحين عرف أنني لست مصريا ، رحب قائلا " الأولاد بيعملوا مظاهرة .. وأنت مالك؟" .. الأفضل أن تصلي في جامع سيدنا الحسين المجاور للأزهر الشريف ... فوافقت على الفور .. إن الصلاة في ذلك الجامع من جوامع " آل البيت" تحتاج إلى تنظيم معين ،بحيث يجب أن تدفع رسوما معينة لبواب الجامع مقابل رقم معين يحفظ لك فيه كتبك وأشياءك إلى ما بعد الصلاة .. وراعني حضور عدد من السياح الأجانب الغربيين لتصوير المسجد و رصد الحركة الدائبة وبيع المقتنيات الشعبية والعطور الزكية التقليدية .. وتذكرت من خطبة إمام جامع سيدنا الحسين أحوال الفاطميين الذين أدخلوا تقليد الدعاء لآل البيت كرد على الدعوة لبني أمية التي ألزموا بها الأئمة بعد سيطرتهم على الخلافة الاسلامية .

يتواصل
.

ملفات الزمن الهارب (1) : موريتانيا ..دولة ؟؟ أم ليست دولة !!

ملفات الزمن الهارب : موريتانيا دولة ... ليست دولة !!
لقد تواردت ذكريات مريرة   إلى الذاكرة ، وأنا ألقي نظرة الهبوط على ليل انواكشوط قليل الأنوار في إحدى ليالي شعر أغسطس من سنة 2004 ، حيث حطت بنا طائرة الخطوط  الجوية  مبشرة بالوصول إلى بلاد المنكب البرزخي ، وفي مطار انواكشوط الدولي كان العبث والفوضوية هما عنوان القاعة الوحيدة الضيقة لاستقبال القادمين ، وكم حزّ في نفسي أن ضيوفا " أوروبيين" صحبوني في نفس الرحلة بدأت علامات الدهشة تعلو وجوههم ، وبدأوا يكتشفون بسرعة حقيقة الوضع المثير للشفقة أكثر من الفضول بعدما تزاحم عليهم – ببداوة لا غبار عليها- حمالو الحقائب بصورة مقززة ، وهم يستنجدون – بعطف- لعلهم يحصلون على مقابل مادي من تلك " الخدمات الحقائبية". بدأت استرجع شيئا فشيئا الصورة التي تركت فيها موريتانيا منذ أزيد من نصف عقد من الزمان للدراسة في الخارج.
وكم هالني حجم المفاجأة حين اصطدمت بحقيقة الواقع الكئيب الذي يلف صورة البلد منذ سفري حتى أوبتي ، باستثناء " تعبيد" بعض الطرق الفرعية هنا وهناك ، مع تنامي للضواحي الخلفية والمجتمع الآخر للعاصمة في الكبات والكزرات ( مدن الصفيح) التي تجمّل ( أو تشوه) نواكشوط ، تلك الهضاب الرملية على شاطئ الأطلسي التي كانت قاعدة عسكرية فرنسية منذ نصف قرن تقريبا ، وتحولت في لحظة " حلم" إلى مشروع عاصمة مركزية في مجتمع تباعد عهده بالسلطة المركزية الجامعة منذ رباط عبد الله بن ياسين وصحبه.كان من مشروعات إعادة اكتشافي لنواكشوط بعد طول فراق أن أزور جامعة انواكشوط ( تلك الجامعة اليتيمة التي لم تكمل النصاب الأكاديمي بافتقارها حتى اليوم إلى كليات الطب والهندسة والزراعة ) كنت أقصد من زيارتي أن أتحسس لعل العريضة المطالبية ( من 33 مطلبا) التي دفعنا من أعمارنا التعليمية سنة بيضاء في سبيل تحقيقها سنة 1996-1997 ، وابتلي زملاؤنا " نشطاء الإضراب Les grevistes بالتوقيف والاعتقال التعسفي والإقامات الجبرية داخل وطنهم ، وكتب على " أهل الإضراب" ، كما كانوا يسمون حينها ، أن ينجحوا في الدور الثاني دورة اكتوبر 1997 لأول مرة – للكثيرين منهم ، ومنهم كاتب السطور- في حيواتهم الدراسية.
توقعت ، وأنا استحضر كل ذلك ، أن تكون تلك الرسائل الصادرة من " الرأي العام الطلابي" ، كما كنا نوقع بيانات الإضراب يومها ، قد لاقت صدًى لها واستجيب للعريضة الطلابية لتتحسن الحالة العلمية والأكاديمية لأول جامعة موريتانية نظامية يتيمة  في العصر الحديث .. ولكن هيهات!!
حيث لا تزال الفصول الجامعية نفسها وكراسيها الشاحبة المهترئة والمناهج الدراسية التي " قزمت" تحت طائلة مواكبة سوق العمل ، وأكثر من ذلك لا تزال العقلية السائدة نفسها غير المؤمنة بسنة التطور هي التي تملك أمر الجامعة الفتية منذ أزيد من عقدين من الزمن بعدما أصبت بإحباط من زيارتي في يومي الأول للجامعة عدلت عن فكرة البقاء الطويل في العاصمة ، استغلالا للعطلة الصيفية ، فعزمت على الرحيل إلى النجع وبادية الحوض الشرقي ذات المناخ الخريفي الذي قد يعوضني لهب العاصمة ومناخها الصعب في تلك الفترة ، التي لا يملك فيها أهل المدينة إلا أن يهربوا ليلا إلى الحواضر القريبة ، أو بوادي انواكشوط كما تسمى ، تعويضا عن البادية الحقيقية في أعماق موريتانيا.

عن الرحلة المالية !
كانت انواكشوط في تلك الأيام من أغسطس 2004 تلتهب تحت وقع " حرب المناشير" بين القبائل والجهات على خلفية تداعيات هاجس الانقلابات الحقيقية أو المتوهمة ، بعد فشل المحاولة الانقلابية الجريئة لفرسان التغيير في 8 و 9 يونيو 2003 ، وما تلاها من تفاعلات بعد ذلك حيث أعلن عن التنظيم العسكري للفرسان في الخارج و أعلن نيته الإطاحة بنظام ولد الطايع بالقوة المسلحة ، و قد تصادف أن التقيت في مقهى انترنت في تفرغ زينه ، بعد طول فراق امتد سنين ، بزميل قديم هو الكاتب والشاعر الموريتاني أحمد ولد أبو المعالي – المقيم بالإمارات العربية في ذلك الوقت - حيث بادرني بعد السؤال و الاطمئنان بالسؤال عن أماكن توزيع تلك المناشير ، لرغبته الكبيرة بالحصول عليها لأنه بصدد إعداد مقالة تحليلية عن الموضوع ، فأشرت عليه أن يسير إلى ساحة البنك الموريتاني للتجارة الدولية بصحبة 100 أوقية ليحصل على نسخة من المناشير أو المناشير المضادة!!
عقدت العزم أن أخرج هذا الجو المشحون سياسيا ومناخيا إلى حيث الأهل والأحبة على بعد أزيد من ألف كيلومتر على الحدود الموريتانية المالية المشتركة ، وسابقنا بسيارتنا رباعية الدفع الزمن حتى لا يفلت منا الخريف وأجواؤه الخضراء ونسائمه العليلة ، بالرغم من " حمى الخريف" كما كانت تسمى تاريخيا ، أو " حمى الناموس : الملاريا " كما أصبحت تعرف حديثا!
ولابد من الإشارة إلى أنه قبل الأوبة إلى أرض الوطن كنا نتابع النشرات الإخبارية للتلفزيون الموريتاني ( الذي يجاملنا إخوتنا العرب ويسمونه الفضائية الموريتانية من باب التأدب ، ربما !) الذي كان يشنّف مسامعنا – ونحن في الغربة- عن الانجازات الحضارية ، التي يخيل للمرء وهو يتابعها أن بلادنا ولله الحمد انضمت للعالم المتقدم .
كانت تعليقات وكالة الأنباء الموريتانية ومعدّي تحاليل النشرات الإخبارية التلفزيونية ، ذات البناء اللفظي المنمق ، تتراءى في ذاكرتي وتتزاحم طرادا وأنا في المقصورة الأمامية من السيارة " تويوتا – جي اكس" ، حيث يلح سائقها" اعل .." الذي أبدى اهتماما زائدا براحتنا حين علم بصداقتي للكاتب الصحفي المتألق محمد فال ولد سيدي ميله ، وأفقدُ التركيز بين الفينة والأخرى جرّاء قفزات السيارة من تأثيرالحفر العميقة و الرمال الزاحفة على جانبي طريق الأمل!
وبعد سفر ليل طويل ومعاناة متتالية من وعثاء الطريق والبوابات الوهمية التي كانت تعرقل سيرنا في كل مرة بحثا عن " فرسان التغيير"! وصلنا إلى مدينة كيفة في هزيع الليل الأخير ، كان ذلك إيذانا باكتمال الجزء المصان من الطريق ..حيث بدأت سيارتنا تخرج من حفرة لتقع في أخرى أكثر عمقا واتساعا واستمر الحال إلى أن وصلنا إلى قرية أم العظام 30 كلم شرق اعوينات ازبل ، لتنتهي صلتنا بالطريق المعبد ، وندخل إلى التاريخ والطريق الترابية العادية ، التي كانت كذلك منذ قرون من الزمن ... وبالرغم من ذلك ، فإنها كانت أرحم بكثير من حفر طريق الأمل ، نظرا للوحة الخريفية التي جعلت الأرض تكتسي كسوتها السنوية التي تأتيها رحمة من السماء ، بعد أن عجز أهل الأرض عن فعل ذلك بالسحب الاصطناعية كما هو حال جيرتنا الجنوبية والشمالية .
وصلنا في صبيحة يوم الأربعاء في حدود الساعة 12 إلى مدينة " جكنى" ، وحين بدأت معالم المدينة في الأفق تبدت دورها العتيقة مذكرة بأزمنة القرون الوسطى ، رقعة شطرنج متلاصقة وصغيرة ، هكذا بدت مدينة الطفولة ، وعهدي بها تقادم منذ ثماني سنين تقريبا .. وأول المعالم التي ظهرت عند ضواحيها هو مبني مفوضية الأمن الغذائي ( العنقر : تسمية محلية مأخوذة من الفرنسية!!) ، وما لفت انتباهي أنه أزيح خارج المدينة ، حيث كنا صغارا ننعته بالبعد عن قلب المدينة ، غير أن أخي الجالس يميني أكّد لي أنه لم يتزحزح قيد أنملة ، وأنه هو نفسه الذي تقادم به العهد!
ودخلت بنا السيارة منزل الأسرة ( أسرة العلامة الفقيه المقدّم و المصلح و المفتي الراحل إدوم ولد نافع  رحمه الله ، حيث توفي سنة بعد ذلك في هر رمضان المبارك سنة 2005 م ) جنوب المدرسة رقم واحد سابقا ( حاليا مبنى ثانوية المقاطعة ) .. واستمتعنا بأيام جميلة مع الأهل والأحبة ، وكانت المدينة تعيش حركة بشرية غير عادية ، نظرا للقاء التجاري الأسبوعي المنتظم "يوم السوق " أو يوم الأربعاء ، حيث تمتلئ المدينة وأسواقها بالتجار القادمين من المقاطعات المجاورة ومن مدن تقع على الطرف المالي من الحدود المشتركة ، غير أنني لاحظت أن مكان السوق الذي كانت تسوره من ناحية الجنوب ترعة ماء ضخمة من عادتها أن تتصيد سنويا احد " الجكناويين" غرقا في مياهها ، تكاد تختفي بعد زحف الدكاكين التجارية عليها ، بعد أن ولىّ الزمن الذي كانت تغرق فيه السوق أياما من المياه والوحل ، وهو ما كان يشكل خسارة كبرى للتجار والمتعاملين في كل خريف .
وبعد أيام شاءت الظروف أن ازور - رفقة الوالد العلامة رحمه الله تعالى -  دولة مالي المجاورة ، وهي دولة الأخوال ، ولنا معها روابط تاريخية و اجتماعية و إنسسانية عميقة ، وعلائق دينية لم تزدها الأيام الا قوة ومتانة  لله الحمد، وكان ذلك بالنسبة لي فرصة نادرة أجدد فيها إحداثيات الجغرافيا التي خيمت عليها عنكبوت زمن العولمة منذ زيارتي الأخيرة إليها في منتصف التسعينيات  (  عيد الفطر السعيد لسنة 1996)، ولم أنتبه للمنطقة الحدودية ، التي لا توجد عليها معالم توبوغرافية بارزة على الأرض ،  إلا حين غدونا في عمق الأراضي المالية ، وهذا خلافا طبعا للحدود  البينية لآخرين ، و تزينها البوابات والمتاريس ورجال الأمن الأشداء على الإخوة الرحماء على غيرهم !!!

... إن غياب معالم أو رموز للحدود الدولية من أي نوع على حدود موريتانيا ومالي ذكّرتني بما قاله أمامي مؤسس الدولة الموريتانية الحديثة الأستاذ المرحوم المختار ولد داداه حين التقيته قبل رحيله بسنوات في طرابلس ( على هامش تأسيس الاتحاد الافريقي على أنقاض منظمة الوحدة الافريقية في 9/9/2009 )، وبعد حوار ودّي شيق و مؤثر،  سألني عن أحوال الناس هناك في الحوض ، بعد أن تعرّف عليّ اجتماعيا ،  كما تساءل عن أخبار الحيوان والماشية وانتجاعها عبر الحدود  كل ما ادلهمت خطوب الصيف سنويا في تلك المنطقة الحدودية ، فقلت له إن الأحوال بخير إجمالا، فعقّب علي قائلا ومذكرا بما قاله له الرئيس المالي الأسبق موديبو كيتا أنه لا وجود للحدود ، بالمعني السياسي للكلمة ، وأن الحاصل هو أن الفرنسيين عبثوا بأراضي آخرين لا يرون فيها أكثر من مصدر للمواد الأولية والنفوذ ، ولا يهمهم لا حقائق التاريخ ولا معطيات الجغرافيا و الاجتماع .. غير أن ذلك لم يحل دون وجود مشكلات حدودية بين الجارين الشقيقين منذ استقلالهما عن المستعمر الفرنسي كما أخبرنا الرئيس المؤسس في ذلك الوقت.
واصلنا الطريق إلى مدينة " انيورو" Nioro du sahel أو( نور الساحل ) وهي من  مقاطعات ولاية خاي المالية  في ذلك الوقت ( الولاية الأولى إداريا في جمهورية مالي) ، وهي موطن تاريخي تأسس منذ ثلاثة قرون على أدنى تقدير ، وكان سكانها ينحدرون  من العرب والقبائل الزنجية الإفريقية الأخرى ، وكان تجار الماشية العرب يسمونها بـ :" قبْ " ، وحين يختلفون حول تسعير مواشيهم في البيع يرددون أن :" قَبْ الْ قِدَّامْ " ( وحديثا : انيور القدام ، أي أن مدينة قب التي هي أمامنا  ستكون هي معيار معرفة التسعير الحقيقي !! ) 
و في ذلك دلالة بارزة على الأهمية التجارية للمدينة عبر القرون.
 وزادت الرمزية التاريخية للمدينة بعد ظهور نجم الشريف التيشيتي أحمده حماه الله بن محمدو بن سيدنا عمر شيخ وخليفة الطريقة التيجانية الحموية في بداية القرن العشرين ، وانكباب الناس عليه أفواجا للسلام والزيارة والبيعة ، فلقب الناس المدينة بالنور فحرفها الأفارقة والفرنسيون " انيورو" .. والله أعلم !
التقيت في هذه الرحلة المالية الكثير من الشباب الموريتانيين في عمر الزهور عاقدين العزم على التوبة من الثواء في أرض الوطن نأيا عن أذى شظف العيش وقساوته ، وهو مشهد يتكرر كل يوم ، وحين استحالت القصة إلى ظاهرة من وجهة نظري ، تعمدت أن استفسر عن الأمر ، فكانت نسبة 90% من الإجابات هي أن الظروف أقوى من الإنسان ، ويتساءلون في حسرة .. ما فائدة التعليم والدراسة الطويلة مادام المستقبل غامضا ، ولا توجد ضمانات في الأفق ، وظروف الأسر والعوائل تقلصت إلى درجة مهينة على القدرة على الإنفاق على الحياة لانعدام ظروف الكرامة الإنسانية في حدودها الدنيا .. فلهذا – من وجهة نظرهم – لا بد أن نكون منصفين مع ذواتنا ونبحث عن طريق الخلاص لأنفسنا وعوائلنا..
ولكن السؤال هو : أين انتم ذاهبون ؟ والجواب الجماعي : لا ندرى.... إلى حيث توصلنا الطريق ...!
هل تقصدون مالي فقط ؟؟ الجواب : نحن ذاهبون إلى مالي وساحل العاج أو بوركينا فاصو أو التوغو أو انغولا ..لايهم ،بالرغم من علمنا المسبق بمشكلات تلك الدول من حروب وقلاقل اجتماعية ومناخات استوائية قد تضرنا ونحن الصادرون من مناح صحراوي جاف و قاحل! .
ذكرتني حالة هؤلاء الفتية ، والشيء بالشيء يذكر ، بحال " أهل قندهار" ، إنها دار ضيافة توجد قرب مباني بعض الشركات الأجنبية العاملة في مجال البترول في منطقة جنزور في العاصمة الليبية طرابلس ، وقد أسسها مجموعة من الشباب من طالبي الشغل لدي الشركات النفطية ، ويرتاد " قندهار" عشرات الموريتانيين شيبا وشبابا من مختلف الجهات و المجموعات والقبائل الذين رمت بهم صروف الدهر إلى الانتشارفي الأرض بحثا عن رزق الله ، ألم يقل الشاعر العربي :
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ***** وفيها لمن خاف القلا متحول
وقد تأسست قندهار في خضم الإعداد الأمريكي للحرب على طالبان والقاعدة بعيد احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث سقطت مدينة " قندهار" الأفغانية كآخر القلاع الحصينة لدولة إمارة أفغانستان الإسلامية ، فجعل منها هؤلاء رمزا للصمود قبل إسدال الستار على حكم طالبان والقاعدة ، فكأن هؤلاء الموريتانيين يشيرون إلى صمودهم ، كصمود الأفغان ، حتى نيل هدفهم وهو الحصول على العمل في تلك الشركات وتوديع حياة الشظف وألم الغربة عن الأهل والأحبة ، أو الهجرة إلى قندهار أخرى ، في حرص على استمرارية المعركة من أجل لقمة العيش بعدما عزّ نيل ذلك في الديار وبين الأهل والأحبة .
ولم أكد أتعرف على مجموعة من الشباب " مشاريع هجرة " حتى يختفون في نضالهم في أتون معركتهم المقدسة ، لأجد نفسي أمام آخرين لهم نفس الغاية والهدف والوسيلة .. فعرفت أن وطنا طاردا لفلذات أكباده وراء حدوده يعاني ما يعاني من أزمات مستحكمة لابد لها من حل وإن طال انتظاره ..!
كتب المقال سنة 2004 م ..
يتواصل

عن التصوف " المجاهد" في غرب افريقيا .. الحموية نموذجا

حول ماهية التصوف 
يمكن النظر إلى التصوف الإسلامي – دون تأصيلات فكرية و تاريخية شتى- إنه مشرب ذوقي حده أبو القاسم الجنيد بقوله :"أن يميتك الحق عنك ويحييك به" .. وبصورة أكثر جلاء ووضوحا . نرى العلامة المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون يشير في مقدمته إلى أن علم التصوف هو حادث في الملة رغم أن " طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة ، وأصلها العكوف على العبادة ، والانقطاع إلى الله تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها .."[1] 
 ويضيف قائلا :"لما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني الهجري ، وجنح الناس إلى الدنيا ، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة .. ويحتاج المريد إلى محاسبة النفس في أعماله كلها وينظر في حقائقها ..الخ" 
[2] وهذا يدل على أن التصوف الإسلامي في جوهره الحقيقي هو إخلاص التعبد لله عز وجل ، وعدم الانجراف إلى تغليب الجوانب المادية للحياة الإنسانية على الجوانب الروحية التي لا غني عنها للإنسان السوي [3].

مرثية لبطل إفريقي ... إسمه : المختار ولد داداه*



رحل عن عالمنا منذ الأمس أبو الدولة الموريتانية بعد أن حوّل ميراثا من الفوضي والسيبة إلى كيان مستقل يسمي:" الجمهورية الإسلامية الموريتانية"..أعلنها يوم 28/ نوفمبر/ 1960 تحت فناء خيمةٍ على ضفاف المحيط الأطلسي .. وخاض من أجل تثبيت ذلك الإعلان معاركا تلو المعارك ، وكذلك لترسيخ دعائم هذا الكيان الوليد الذي كانت تنهشه الأطماع والرمال والضياع من كل حدب وصوب .. وسافر إلى الأمم المتحدة ليسجل شهادة ميلاد ذلك الوليد رغم شح الموارد وفقر الإمكانيات لديه.. واستطاع بصبر وحكمة وأناةٍ أن يتجاوز بالوليد مشكلات مراحل الطفولة السياسية الأولي بشجاعة شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء .. وانثني إلى الداخل ليلملم شمل شعبه وقد تنائي به النأيُ والسنون داخل متاهات الجوار .. وهو ما حوّل بسرعة النجوع المرتحلة إلى قري ومدن ثابتة مكينةٍ رمزًا للعزة والصلابة .. وانتصرت معاركه الداخلية رغم ما حاصرها من نكبات و انكسارات وظروف غير مؤاتية البتة.. ولكونه ذا بصيرة استراتيجية فذة ، فإنه تطلع إلي إدراك الدور المميز الذي تفرضه أطروحات التاريخ وإحداثيات الجغرافيا ، فربط موريتانيا بعمقها الإفريقي وبحقيقتها العربية والإسلامية .. ليس ذلك فقط بل إنه برع في القيام بأدوارٍ سياسية كبيرة سجلها في منعطفات تاريخية حاسمة ، وهو ما عجزت عنه دول عديدة رغم ما تملكه من أسباب الإمكانيات المادية والمعنوية.
فعلى سبيل التذكير فقط ، فقد أنجز – صحبة جيل العمالقة : جمال عبد الناصر ، وباتريس لوممبا ، وكوامي نكروما ، وجوليوس نيريري ، وشيخو توري.. الخ- دعائم التضامن والتعاون الإفريقي- الإفريقي ، والإفريقي - العربي .. الأول كان من ثمرته تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية لتتصدّي لمهمات تصفية بقايا الاستعمار التقليدي والعنصرية من معاقلها في القارة السمراء.. والثاني كان من أسباب المساهمة في خلق الدعم الإفريقي الظهير للقضايا العربية ، وفي الركيزة منها القضية الفلسطينية ، وكان من حصاد ذلك محاصرة الصهيونية عالميا ، وتحصين القارة السمراء من مكائدهم ودسائسهم وخبثهم ........... وحين حدث العدوان الصهيو أمريكي على مصر القاعدة والدور في 5 حزيران 1967 قطعت موريتانيا علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة التي هي رأس الحربة الحقيقي في الصراع بين العرب والصهاينة.... الخ
وذلك مجرد غيض من فيض الأمثلة العديدة على الأدوار الطليعية البارزة التي لعبتها موريتانيا في عهد الرئيس المختار ولد داداه .. إفريقيا وعربيا وعالميا.. وهو ما منحها عظيم الصدى وخلّف لها كبير الأثر والذكر في أنحاء مختلفة من العالم توقيرًا واحترامًا واعتزازًا، الشيء الذي ربط موريتانيا بالرئيس المختار ولد داداه حتى يومنا هذا ربطًا قلما توفّر بين الدول وحكامها ، إلا ما كان منهم في وزن الأشخاص التاريخيين العظام ، ومن بين هؤلاء بحق كان الأستاذ المختار ولد داداه..
ولأنه بالفعل أحد من يصنفون ضمن حكماء القارة السمراء فلهذا كان من شهود ميلاد الاتحاد الإفريقي في مدينة سرت الليبية 9/9/99 مثلما كان من شهود أغلب الأحداث التاريخية الفاصلة في حياة القارة الإفريقية خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم.... وحين شرفنا باللقاء والحوار شبابًا وطلابًا موريتانيين على هامش القمة الاستثنائية كان يتذكّر بافتخارٍ رفقاء دربه النضالي ، وينتشي فرحًا أنه ينتمي إلي جيل ذلك الرعيل الإفريقي الذي خلّف بصماته الذهبية على حاضر إفريقيا ومستقبلها..
... وبعدُ ، فإن الكلمات تجد نفسها أخرسَ عن تأبين الأستاذ الراحل.. وربما كان الصمت أكثر بلاغة ً وبياناً من كل قواميس الدنيا ومعاجمها.. فلا نملك إلا الإقرار بالعجز والتقصير عن أن نوفيه حقه ومستحقه كأبٍ وأستاذٍ ومناضلٍ... ظل ثابتًا كشجرة السنديان على مواقفه غير حائدٍ عنها قيد أنملةٍ رغم الأعاصير التي تعصف بالكون في كل لحظة!.
ومع أن الخطْبَ جللٌ على الصعيد الإنساني الضيق لأسرته الموريتانية ، فإن الخطب أكثر جللاً على صعيد أسرته الإفريقية الكبيرة حين ثكلت في أحد عظمائها البررة الذي قضوا ، وهم على الإيمان الذي لا يتزعزع بوحدتها وتقدمها وازدهارها رغم اليأس المطبق بها ليلاً ونهاراً..

ولئن رحلت عن عالمنا جسداً يا أستاذ..فإنك ستبقي حيا بين ظهرانينا .. قيما شاهدةً .. ومبادئ رائدةً .. ومثلا خالدةً .. لن نحيد عنها حتى نلقي إحدى الحسنين : النصر أو الشهادة..
وسبحان من له البقاء والدوام .. جلّ شأنه .. وإنا لله وإنا إليه راجعون


* مرثية للكاتب في وفاة الرئيس الموريتاني الأسبق و أبو الأمة الاستاذ / المختار ولد داداه ...وقد انتقل إلى جوار ربه في مساء الثلاثاء 15 اكتوبر 2003 في مستشفي فال دي غراس - في باريس - فرنسا .. نسأل الله العلي القدير أن يلحقه بالصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقا .. وأن يلهمنا جميعا الصبر و السلوان..

خي بابا شياخ و آثاره الأدبية



" خي بابا شياخ و آثاره الأدبية " تأليف الدكتور محمد سعيد القشاط - طرابلس - 2007 .


عرض أحمد ولد نافع


يقدم هذا الكتاب ، كما يظهر من عنوانه ، نبذة مختصرة عن موضوعه عن " خيّ بابا شياخ وآثاره الأدبية " ، في نوع نادر من الوفاء بين الأدباء والكتاب ، حيث يحاول هذا الكتاب الصغير نسبيا حوالي 150 صفحة تقريبا والصادر في نهاية 2007 في طرابلس - الجماهيرية ، أن يقدم مجموعة من البحوث والأعمال التي كتبها " خي بابا شياخ" بخط يده ، وتوجد نسخ أصلية أو مصورة منها لدى صديقه سعادة السفير الليبي الحالي في السعودية ، الدكتور محمد سعيد القشاط ، الذي أراد لها أن تخرج من عتمات النسيان إلى أنوار القراءة لكي تتاح للباحثين والمهتمين دراسة و بحثا وتنقيبا .


ولم يشأ القشاط أن يدفع بالبحوث التي كتبها " خي بابا شياخ" مباشرة إلى المطبعة ، بل إنه قام بعمل تقديمين لها ، الأول منه ، والثاني من السفير السابق و المثقف الموريتاني المشهور محمد محمود ولد ودادي ، وهو أيضا صديق سابق لـ" خي بابا شياخ" ومديره حين كان الأخير مقدما لبرامج في الإذاعة الموريتانية التي كان الأول يديرها في بداية تأسيسها في ستينيات القرن الماضي ॥ويبدو أن علاقات " خي" و " القشاط " ترجع إلى سنة 1972 في زيارة الأخير لموريتانيا ، وامتدت ستة سنوات حتى وفاة الأول في ابريل سنة 1978 في مستشفي ابن سينا في الرباط ॥ غير أنها تعززت أثناء مقام " خيّ " في طرابلس في بداية السبعينيات كصحفي و كاتب في الصحف والمجلات الليبية ، و سافرا معا في رحلات الى دول مختلفة في غرب افريقيا ॥ و هو ما أتاح للقشاط أن يعرف عن قرب مرافقه ويدرك أنه " موسوعة ثقافية متحركة" ( ص 9)।أما علاقات " ولد ودادي " بــ " بابا شياخ" فهي أطول نسبيا حيث امتدت حتى فترة قليلة من رحيل الأخير ॥( ص 42) ، وقد حاول " ولد ودادي" أن يصف الأجواء السياسية التي ظهر فيها " خي بابا شياخ" في موريتانيا ، قادما من " أزواد" من خلال الحوض الشرقي الموريتاني ، وبداياته الأولى في مجتمع انواكشوط ، العاصمة السياسية الوليدة في كل شيء ، وبالتالي دخول الصوت الجهوري الجديد أسماع " ساكني انواكشوط" عبر الإذاعة الناشئة وقتئذ وتأففهم منه من البداية لحداثته بالعمل المهني الإعلامي وكسره للرتابة اللغوية التي تعود عليها هؤلاء من محاضرهم التقليدية ، حيث الصرامة في احترام قواعد اللغة العربية وعدم استساغة إظهار همزة الوصل في غير محلها ، أو رفع منصوب ، أو نصب مرفوع ، أو رفع مجرور... إلى غير ذلك من الأخطاء القواعدية التي تعتبر في عرف الموريتانيين من الموبقات ! ( ص 27)।غير أن " بابا شياخ" لم يستسلم فيما يبدو ، بل انتقل نقلة نوعية حين استعان بمدرسي النحو واللغة و العروض ، الشيء الذي جعله يحظى بتقدير واحترام مستمعيه الذين بدأوا يفطنون لتوقد ذكائه ونباهته وبديهيته اللامعة ، وسخريته اللاذعة ، وقدرته الأسطورية على التقليد للزعماء والشخصيات ॥بشكل ملفت يدعو للإعجاب( ص 31) !!إن اهتمام " خي بابا شياخ" بالأدب والثقافة والموسيقي ليس وليدا من فراغ ، بل إنه سليل أسرتين فنيتين لهما قدم تاريخي راسخ في ذلك هما : أهل ايده ، و أهل اسويد بوه ॥ وهما اسرتان عرفتا في حاضرة تنبكتو وهي وسط مؤات للتداول المعرفي والثقافي منذ قرون سحيقة ..( ص 37)..ولم يجد الشاب اليافع " بابا شياخ " في نهاية الخمسينيات ، وبعد رحلة قادته إلى الكثير من الدول الإفريقية القابعة تحت الاستعمارين الفرنسي والانجليزي ، غضاضة من السفر إلى موريتانيا ، حيث الأهل والأحبة ، إذ أن الشعوب العربية والطارقية في أزواد تشكل مع أترابها في موريتانيا و الساقية الحمراء ذرية بعضها من بعض ، و هو ما أشار إليه الرئيس الموريتاني الاسبق ، المختار ولد داداه ، حتى قبل استقلال موريتانيا وتحديدا في سنة 1957 ، بقوله :" إنهما جناحا موريتانيا التي لايمكن أن تحلق بدونهما.." ( ص 40)।و بعد ذلك تأتي الكتابات التي كتبها " خي بابا شياخ" ، وهي سبعة كتابات أو مقالات : " أزواد" ( ص ص 43-68) ، و " الشيخ سيديا الكبير و آل داداه "( ص ص 69 -82) ، و " الأحزاب السياسية في افريقيا الغربية " ( ص ص 83-112) ، و " الأحزاب في مالي " ( ص ص 113-124) ، و " الأحزاب السياسية في تشاد 1947-1960" ( ص ص 125-132) ، و " في التعاون النقدي بين فرنسا ومستعمراتها الافريقية سابقا " ( ص ص 133-140) ، و " أحمد بابا مسكة " ( ص ص 141 – 151) ।وقد استعرض " بابا شياخ " الحياة الثقافية والاجتماعية لساكنة أزواد ، وتكونها من العرب والطوارق ، العرب ويتألفون من البرابيش ( أولاد سليمان ، أولاد عمران ، أولاد يعيش ، أولاد ادريس ، أولاد بوهندة ، أولاد غنام ، أولاد بوخصيب ، أولاد غيلان ، القوانين ، السكاكنه ، ياداس ، رقان ، النواجي ، أهل أروان ) ، وكنته ويتزعمهم الشيخ سيدي المختار الكنتي الولي الصالح الذي ظل قادرا على حل الخلافات التي تستعر دائما ، كعادة سكان البادية والصحراء ، بين القبائل العربية والطارقية ( ص 49) ، وذلك ما أعطى لقبيلة كنته مكانة اجتماعية ودينية في تلك الربوع من الصحراء الكبرى ।أما الطوارق ( إمقشرن) وهم سكان أزواد الأصليين ، كما ذكر المؤرخون كالقلقشندي في " صبح الأعشي" ، وغيره ، ويتمتعون بأنفة كبيرة و إحساس بالتفوق يجعلهم يرفضون المصاهرة من العرب !( ص 51) .. بالرغم من أن بعض القبائل العربية اندمج مع اتحادية الطوارق القبلية مثل " أهل السوق" ، وهم من برقة الليبية ، وقد حرصوا على التخاطب فيما بينهم بالفصحي ، ومع غيرهم باللهجة الطارقية ، وذلك ما لاحظه المؤلف بنفسه ( ص 52).


وأسهب المؤلف في شرح ملابسات الخلافات والصدامات الناشبة بين الطوارق في شما ل مالي والدولة المالية والمعاناة التي تعرضوا لها طيلة سنوات بداية حكم " موديبو كيتا" ، ثم " موسى تراوري" بعد ذلك !


وأشار المؤلف في سياق بحثه عن " الشيخ سيديا الكبير" إلى أن ابنه الشيخ سيد الصغير ( المعروف بـ : بابا) كان عونا للفرنسيين في إحكام سيطرتهم على اترارزة ، وهو ما سهّل احتلال باقي المناطق في أنحاء موريتانيا ، وقد أشار الى ما كتبه بابا ولد الشيخ سيديا بنفسه في مجلة العالم الاسلامي التي كان يحررها المستشرق لويس ماسينيون ، حيث يمدح فرنسا ويرجو من الله لها البقاء ، وقد كافأت السلطات الفرنسية للشيخ بابا بتسهيلات وامتيازات كبيرة أقلها إعفاؤه من الضرائب الباهظة و السماح له ، ولمن يريد بالسفر الى حيث يشاء ، ووظفت المتفرنسين من أهله ، وعدم قبول أي أحد إلا بتزكيته ، واعطائه أموال ضخمة سنويا ( ص 72) وقد قدم الشيخ للفرنسيين إثنين من اتباعه هما المختار و شيخنا أبناء داداه للخدمة كجنود في الجيش الاستعماري الفرنسي ، وقد شارك الأخير في الحملة التي قتل فيها الأمير العربي المجاهد بكار ولد اسويد احمد وهو في السابعة والتسعين من عمره في وقعة بوقادوم عند " راس الفيل" في منطقة العصابة في وسط موريتانيا يوم 2/4/1902 ( ص 73) .. أما الأول ، فقد أبلغ عن المجاهدين الذين قادهم الشريف سيدي ولد مولاي الزين لقتل الحاكم الفرنسي " كزافي كبولاني" في معسكره ليلا في 12/5/1905 في مدينة تجكجة الموريتانية ..( ص 74) كما تعرض لظروف و ملابسات نشأة الاحزاب السياسية الافريقية في نهايات أيام الاستعمار ، وربطها بظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية ، ومنها الحزب الدمقراطي الافريقي الكبير ، الذي أسسه الطبيب العاجي " هوفوتبوني" في باماكو ( مالي ) في سنة 1946 ، بمعية الامين غي وسنغور ( السنغال) ، و فيلي دابو سيسقو ( مالي ) ، يسي جالو ( غينيا) ، تشيكايا وجبريل دار بوسيه( افريقيا الاستوائية) وكان هدف الحزب الرئيسي هو تحرير افريقيا من نير الاستعمار ( ص 91) .


ومع أن أحمد شيخو توري ( الرئيس الغيني الاسبق) كان ماركسي الهوي إلا أنه ناصر القضايا العربية ( قضية فلسطين) ، وقطع العلاقات مع اسرائيل فورا بالرغم من أنها كانت بصدد تمويل وإنشاء مشروع كبير في غينيا ، فطـُـلِبَ من الاسرائيليين المغادرة النهائية و حمل معداتهم معهم !( ص 104) .


وناقش " خي بابا" تاريخ نشأة الأحزاب الرئيسية في مالي ( حزب الاتحاد السوداني) ويقوده ممادو كوناتي وموديبو كيتا ، و حزب الاتحاد التقدمي السوداني ويقوده فيلي دابو سيسقو .. وقد أطاح الجيش المالي بالرئيس موديبو كيتا في سنة 1968 بقيادة الضابط موسى تراوري ..كما تعرض لظروف نشأة الأحزاب في تشاد ، وأول حزب هو حزب التقدم التشادي الذي أيدته القبائل الوثنية الجنوبية التي ينتمي اليها " فرانسوا تومبولباي" أول رئيس وزراء لتشاد ، وتزعمه في البداية جبريل ليزيت الذي انتخب عمدة لمدينة " فور لامي" ( انجامينا)( ص 128).


كما ناقش " بابا شيخ" أوضاع التعاون النقدي بين فرنسا ومستعمراتها " ، رابطا إياه بتنامي الوعي لدى الأفارقة أن المصرف المركزي للاتحاد النقدي لدول غرب افريقيا لا يزال مقره خارج القارة في باريس ، وأنه بذلك محدود التأثير على ايقاع التنمية في هذه الدول لخضوعه لاشراف وتسيير الفرنسيين المباشر، وهذا ما دفعهم الى رفض استمراره ..وبعد أن اعتبر التعامل النقدي بين فرنسا و مستعمراتها بحاجة إلى " النقد" ، خلُص على نحو غريب إلى أن العودة إلى نظام المقايضة واعتماد " الودَع " أجدي للأفارقة مع الاكتفاء الذاتي والسيادة ، وذلك بدلا من الفرنك الفرنسي الذي يقود بالضرورة إلى التبعية ويعزز الحاجة الدائمة إلى الأجنبي ( ص 139).


كما خصّ " بابا شياخ " ، الصحفي والسياسي الموريتاني البارز أحمد بابا ولد أحمد مسكه ( الذي يعمل حاليا مستشارا رئيسيا للرئيس الموريتاني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله) ، بدراسةٍ تتبع فيها بزوغه المبكر كمؤسس لحزب النهضة الموريتاني ، قبل استقلال موريتاينا وبمعية السياسي المشهور " بوياقي ولد عابدين" الذي ظل منفيا لمناكفته الاستعمار الفرنسي عشرين سنة في أزواد بشمال مالي ، ثم مدير عام للإذاعة والصحافة في الدولة الموريتانية الوليدة ، ومساهما كبيرا في اندماج حزبه وباقي الأحزاب الموريتانية في " حزب الشعب الموريتاني " الذي ترأسه الرئيس الأسبق المختار ولد داداه حتى الانقلاب عليه في 10 يوليو 1978 ، ثم تدرّج أحمد بابا ولد أحمد مسكة سريعا في المجد الوظيفي ، حيث عيّن سفيرا لموريتانيا في ساحل العاج و الأمم المتحدة ، وبعد ذلك دخل السجن السياسي مع وزراء آخرين عقب أحداث 1966 ، وأطلق سراحه بعد ذلك فعمل في معهد افريقيا السوداء في دكار ، واستاذا جامعيا في فرنسا ، وكاتبا صحفيا في مجلة جون آفريك الأسبوعية الباريسية ، ومؤسسا لمجلة إفريقيا آسيا ..( ص 149) .وحين أراد " بابا شياخ " أن يقيم هذه المسيرة المتقلبة للأستاذ / أحمد بابا ولد أحمد مسكة قال إن من الطبائع الغريبة لبني آدم أنهم يغفرون للكافر كفره و يقبلون للزنديق توبته ، لكنهم لا يقبلون للسياسي عثرته !! ( ص 150) .


ومن خلال السياحة مع هذه المعالجات يتضح أن صاحبها " خي بابا شياخ" امتلك ثراء معرفيا كبيرا ومتنوعا ، وربما ساعده على ذلك دراساته الدؤوبة وإطلاعه الكبير على أمهات المصادر والمراجع ، وما سهل له المهمة هو إتقانه إلى جانب لغته الأم العربية اللغات اللاتينية ( الفرنسية والانجليزية) ( ص 34) .غير أن هذا الكمّ الهائل من المعلومات ، يبدو مشتتا ، وبعيدا عن المنهجية البحثية العلمية ، وقد يرجع ذلك إلى عدم دخول " بابا شياخ " للتعليم النظامي المدرسي ، واتضح ذلك في غيابه تأصيل المعلومات التي يبدو أنه اطلع عليها بطريقة أو بأخرى من مظانها المختلفة ، ومثال ذلك وصفه للتنظيمات السياسية للزنوج الموريتانيين بـ" التنظيمات السياسية اليهودية الاتجاه الماركسية .."( ص 81).


ومثال آخر ، هو إفادته وبدون توثيق يبرئ ذمته العلمية أن المختار ولد داداه ، وهو عم الرئيس الموريتاني الأسبق الذي سميّ عليه فيما يبدو ، عمل في الجيش الفرنسي باقتراح من الشيخ بابا ولد الشيخ سيديا الكبير ، وهذه المعلومة لم يشر إليها الرئيس الموريتاني المعني في مذكراته التي تعرض فيها قبل وفاته لبدايات التواصل مع الفرنسيين ( في مدرسة أبناء الأعيان ، والنظرة الاجتماعية للنصاري .. والخ) ، ومعلومة من هذا النوع جديرة بالاهتمام لو كانت دقيقة !كما يمكن أن يؤخذ عليه التساهل في إطلاق الأحكام كوصفه لـ " أهل آدرار بأنهم أشد حماسا للانضمام للمغرب .."! ( ص 78) ، وهو ما لايمكن قبوله ببساطة على هذا النحو دون تأسيس علمي ومنهجي مقبول ومنضبط .


وبالرغم من قِدَم كتابة المساهمات التي احتوي عليها الكتاب بقلم " خي بابا شياخ " حيث ترجع فيما يبدو إلى السبعينيات من القرن الفارط ، فإن موضوعاته التاريخية والثقافية والسياسية تجعله مرجعا مهما، ولا شك أن الأحداث التي اعتملت بعد ذلك وحتى الآن في تلك الدول ، أو في منطقة الصحراء الكبرى عموما ، تبيّن ذلك .. ما يشي بأن كاتبها كان يمتلك رؤية جيو استراتيجية لافتة ، كان سيحرم منها الجيل الحالي الذي قد يجهل " خي بابا شياخ" لولا أن بعض من لقيهم وصحبهم هذا الأخير أرادوا تسديد دين الوفاء الإنساني رغما عن عصر الرقمية و " التسليعية " الذي طغى على إنسان هذا الزمن .


أثر التغيرات العالمية و الإقليمية في مستقبل مشروع التكامل الاقتصادي المغاربي



عرض / أحمد ولد نافع


"أثر التغيرات العالمية والإقليمية في مستقبل مشروع التكامل الاقتصادي المغاربي" مؤلف ضمن "سلسلة تهتم بنشر المعرفة"،يصدرها المركز العالمي لدراسات و ابحاث الكتاب الأخضر ، وترتيبه فيها التاسع لأهمية القضية التي يعرضها.
يسعى الكتاب -المقسم إلى تمهيد وأربعة فصول وخاتمة- إلى دراسة أثر التغيرات العالمية والإقليمية في مستقبل فكرة التكامل الاقتصادي المغاربي انطلاقا من حقيقة عدم قدرة الدول المغاربية الخمس على مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية المستديمة.

-الكتاب: أثر التغيرات العالمية والإقليمية في مستقبل مشروع التكامل الاقتصادي المغاربي


-المؤلف: محمد الأمين ولد أحمد جدو ولد عمي-


الناشر: المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس، ليبيا-


الصفحات: 248-الطبعة: الأولى/ ديسمبر 2007



بداية يشير الباحث الذي يعمل أستاذا للعلوم الاقتصادية إلى الحقائق الجغرافية والاقتصادية التي توجد فيها الاقتصادات المغاربية من حيث تنوعها وصادراتها، النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي في الجزائر وليبيا ومناجم الفوسفات والسياحة والأسماك في المغرب، والسياحة والمصنوعات والزراعة في تونس والحديد والأسماك والثروة الحيوانية في موريتانيا, إلى غيرها من موارد مهمة تتكامل بما يتيح مواجهة مختلف المشاكل الاقتصادية.


التكتلات والتكامل


التكامل سمة مميزة للعصر الحالي، وليس غريبا التأسيس له على مستوى الفكر الاقتصادي بمختلف مدارسه الليبرالية والماركسية ولدى اقتصاديي العالم الثالث، حيث بزغت دعوات إلى تحقيق اعتماد متبادل يتدرج من البسيط إلى اندماج كامل ينعكس في توحيد السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية .


وبذلك فالسياق المغاربي لا يمكن أن يعيش خارج لغة العصر والمرحلة، خاصة أنه يتوفر على مقومات التكامل الإقليمي تاريخيا وثقافيا بين شعوب ومجتمعات كانت موحدة حتى ظهور الاستعمار المسؤول عن تفتيت الوحدة وغرز حدود وهمية لأزيد من قرن ونصف، ولهذا ليس مستغربا تنسيق قادة المغرب العربي بعد الحرب العالمية الثانية وقبل استقلال بلدانهم في القاهرة منذ 1948، لإطلاق شرارة الحرية من المستعمر. المنطقة المغاربية ليست فقط موحدة دينيا بالإسلام السني، بل مذهبيا بالمذهب المالكي.
تتوافر مقومات التكامل في المنطقة، حسب المؤلف، فالتفاوت في الكثافة السكانية: ليبيا بخمسة ملايين نسمة وموريتانيا بثلاثة ملايين (البلدان الأقل كثافة)، تونس (10 ملايين)، الجزائر (30 مليونا) ، المغرب (30 مليونا) هو عامل تحفيز لا كبح على أي مستوى.


وتتوافر الموارد الطبيعية ذات العلاقة بالتضاريس الجغرافية الخاصة للمنطقة، فهناك المياه النهرية (الشلف في الجزائر ومجردة في تونس والسنغال في موريتانيا), مع تمايز بين حجم ومستوى التساقطات, وتفاوت في نصيب مساهمة الزراعة بمفهومها الموسع في الناتج المحلي الإجمالي للدول, وبالتالي هناك المواشي (الأبقار والجمال والماعز والخيول॥) في أغلب الدول المغاربية التي تنتج كلها الحبوب والأعلاف والتمور ومختلف صنوف الفاكهة والخضروات.

وهناك موارد معدنية كالنفط والغاز ومشتقاتهما والفحم والحديد والرصاص, وهذه ثروة معدنية متنوعة كفيلة بخلق أساس وقاعدة صناعة مغاربية تكون قاطرة تنمية وتكامل.

ولهذا لا بد من توظيف آليات وفرص التكامل الاقتصادي على المستويات الزراعية والصناعية والتجارية، فالأولى قد تعزز فرص الأمن الغذائي المغاربي في عصر الغذاء فيه من أفتك الأسلحة وأخطرها, والتكامل الصناعي الذي يجعل الرهان على السوق الداخلي لأي بلد رهانا محكوما عليه بالفشل, وهو ما أكدته تجارب تونس والمغرب، بل يجب الانفتاح على الفضاء المغاربي الذي يوسع السوق اقتصاديا ويعظم المنافع المتولدة جرّاء التوسع الصناعي بفعل وفورات الحجم الكبير.

وفي المجال التجاري ما زالت التعاملات البينية في أدنى درجاتها، نظرا لتركز صادرات كل دولة على حدة في منتج أو اثنين، بينما تشتمل الواردات على جميع الأصناف الاستهلاكية والوسيطة والرأسمالية، كما أن التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية المغاربية يتوجه إلى السوق الأوروبية المشتركة أكثر من توجهه إلى البلدان المغاربية أو العربية أو العالم ثالثية.
معوقات التكامل


يرى الكاتب أن المعوقات تتشابك على نحو يمكن أن يتأجل معه بزوغ فجر التكامل، فهناك تحديات اقتصادية على مستوى فكر وبرامج التنمية في البلدان منذ استقلالها وميلاد الاتحاد المغاربي نفسه في 1989 بمراكش.

فقد كانت القناعة بإمكانية الخروج من نفق التخلف الاقتصادي والاجتماعي على نحو قطري متجذرة في كل دولة على حدة، وهو ما ثبت خطؤه بعد تجارب الخطط التنموية في العقود التالية للاستقلال, ولهذا تزامنت نشأة الاتحاد مع "معضلة التنمية" بكل أبعادها وتجلياتها، فالنمو الديوغرافي والبطالة والمديونية كلها مشاكل عويصة حملتها الدول المغاربية معها وهي تنشئ الاتحاد، ولهذا فالتكامل واجه من بواكيره الحدود المغلقة وحواجز الجمارك العتيدة وغياب البنية التحتية البينية لتسهيل تحرك السلع والأشخاص.

هناك معوقات السياسة وفي مقدمتها استشراء القطرية وتكريس التجزئة بحجة الحفاظ على الكيان والسيادة لجميع الدول المغاربية، وقضية الصحراء الغربية, النزاع الذي تحطمت على صخرته مشاريع التكامل، والحصار على ليبيا والعجز المغاربي عن فكه أو حلحلته ولو رمزيا كما فعلت دول أفريقية منذ 1997. كل ذلك أسهم في تأجيل مشروعات التكامل وتنفيذها، وهو ما انعكس على الأوضاع الاجتماعية وأسهم في جمود التكامل وتكلّسه عند اتفاقيات وقرارات شكلية لم تجد أرحم من أدراج طوتها بالنسيان المطبق قبل أن يجف حبرها.


تغيرات عالمية وإقليمية


يوضح الكاتب أن الدعوة إلى شرق أوسطية بشرت بوضع إقليمي تذوب فيه الدول العربية بما فيها المغاربية، في حالة ضبابية تعود فيها القوة الاقتصادية والسياسية لدول غير عربية كإسرائيل وتركيا وإيران، على نحو يكون فيه الوضع الاقتصادي العربي عامة مجرد سوق هامشي لتصريف سلع وخدمات الكبار سياسيا واقتصاديا دون فوائد تحسّن أوضاع الشعوب العربية.

من تلك التغيرات أيضا الوضع الاقتصادي الدولي ما بعد القطبية الثنائية، حيث تعاظمت الدعوات إلى التكتل الاقتصادي (السوق الأوروبية، نافتا، الآسيان)، وروج بشكل هائل لدور متعاظم للبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة (أضلاع النظام الاقتصادي العالمي) للإشراف على ذلك عالميا وربط كل المساعدات الاقتصادية بالالتزام الحرفي بتعليمات هذه الجهات وإلزامها بفتح أسواقها مجانا بحجة تسهيل الاندماج الإيجابي في الاقتصاد العالمي.

جعل هذا البعض يرى أن ما يجري حقيقة أسلوب قديم لتعاملات الشمال والجنوب, قائم على مصالح وحسابات ترجح أبدا كفة الدول المتقدمة لا الدول النامية.

كما أن اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية خيبت آمالا وعد بها الأوروبيون في جعل طرفي المتوسط واحة تنمية وازدهار اقتصادي، وعكس ذلك عززت الاتفاقيات النزعة الحمائية الأوروبية في مواجهة السلع المغاربية، وهو ما قلل فرص الطرف المغاربي الذي دخل سوق التفاوض مشتتا دون تنسيق جماعي وحدوي، فبات الطرف الأوروبي يتفاوض مع كل دولة على حدة.

التكامل المغاربي سيظل دون المستوى ما دامت الأطراف المشاركة غير مقتنعة بجدوى تطويره وتنفيذه، والمستغرب حقا أن الدول المتقدمة أسرعت في فهم حجم التطور في الوضع الاقتصادي العالمي في عصر العولمة والفضاءات العملاقة وأصبحت تنشد ملاذا اقتصاديا آمنا يضمن مستقبلا مثمرا، بينما الدول الضعيفة كالدول المغاربية ما تزال تغرد خارج السرب وتندب حظها العاثر وتنتظر معجزة ليس هذا عصرها, مع العلم بأن ظروف اقتصاداتها والمتاح لها من موارد اقتصادية متنوعة قمين -لو أحسن تدبيره- بنقلها من حال إلى حال، بل بجعلها في عمق التحولات الاقتصادية بين الفضاءين الأفريقي والأوروبي ॥ لو أرادت..! فمتى تحين اللحظة।


نقلا عن موقع الجزيرة نت.

1 أبريل 2008

كتاب صحراء الملثمين للدكتور الناني ولد الحسين




عرض و تحليل/د.أحمد ولد نافع


- الكتاب: صحراء الملثمين-


المؤلف: الناني ولد الحسين-


الصفحات: 576-


الناشر: دار المدار الإسلامي، بيروت- الطبعة: الأولى/2007


بصدوره هذه الأيام ودخوله رفوف المكتبات يكون كتاب "صحراء الملثمين في العصر الوسيط" قد أضاف أكثر من مجرد عنوان للعناوين التي تظهر هنا وهناك في شتى حقول المعرفة الإنسانية المختلفة।
ولعل ذلك ما يلاحظه قارئ هذا الكتاب وهو يقرأ التقديم "الشهادة" الذي دبجه أحد المؤرخين المغاربيين الأستاذ الدكتور محمد حجي.


الملثمون يبنون الحضارة

قراءة و عرض في كتاب "ورثة اللوغوس " للدكتور عبد المنعم المحجوب

عرض/أحمد ولد نافع 
يعتبر كتاب "ورثة اللوغوس" للدكتور عبد المنعم المحجوب الصادر في نهاية سنة 2004، أحد أهم المراجع المكتوبة باللغة العربية إثارة وتشويقا، ربما لطبيعة القضايا التي يثيرها معرفيا وفلسفيا، ولنزوعه الإشكالي الذي يحاول تمريره وطرحه أمام المفكرين الإستراتيجيين. ومن عنوانه يبدأ السجال حول ورثة اللوغوس، فما هو اللوغوس على وجه التحديد. من امتلكه من ورثه، أو من سيرثه؟

النفط و مأزق التنمية في موريتانيا

أجمع مبكرا أغلب المهتمين باقتصاد الدولة الموريتانية الحديثة على أن هذا البلد ذا الموقع الإستراتيجي، المتميز برا وبحرا، والذي يحتوي أصنافا من الموارد المعدنية المختلفة، لا يمكن أن يخلو من الذهب الأسود.
إلا أن ذلك الاعتقاد ظل أقرب إلى التخمين منه إلى اليقين حتى نهاية التسعينيات، حيث استحال الشك إلى علم أكيد، وأصبح انضمام موريتانيا إلى نادي المصدرين لهذه السلعة الإستراتيجية أمرا مفروغا منه، بعد ظهور نتائج التنقيب والاستكشاف في الأراضي الموريتانية.
اقتصاد الذهب الأسود

يبدو أن الوصول إلى هذا النفط كان يحتاج إلى استثمارات معتبرة ناهزت مليار دولار، تسعى للربح كلما غامرت بالمزيد من المخاطرة، وهو ما تسنى لائتلاف من الشركات العالمية بزعامة الشركة الأسترالية "وود سايد" Wood side التي ستؤول إليها عائدات 47।5% من أول بئر نفطي أطلق عليه اسم "شنقيط" تيمنا بالرمزية التاريخية التي تمثلها تلك المدينة.
وهذه البئر التي اكتشفت سنة 2001 باحتياطيات تصل إلى مائة وعشرين مليون برميل، من المنتظر أن تكون طاقتها الإنتاجية اليومية في حدود 75 ألف برميل يوميا.
وبالإضافة إلى ذلك الحقل، توجد آبار نفطية وغازية أخرى، منها حقل "تشوف Thiof" الذي تم اكتشافه عام 2003، وهو أكثر أهمية اقتصادية من حقل شنقيط باحتياطيات تصل إلى 350 مليون برميل، وحقل الغاز "بندا Benda"، و"تيفيت Tevet".
تم ذلك بعد أن أصدرت السلطات الموريتانية أزيد من ثلاثين رخصة للبحث عن النفط وغيره من المعادن القاعدية النفيسة في موريتانيا.
وباعتبار حقل شنقيط باكورة الإنتاج النفطي الموريتاني، فإن العائدات المتوقعة منه سيتم توزيعها بحيث تساهم في تغطية نفقات الاستكشاف والتنقيب وتطوير الاستغلال، إضافة إلى توفير جزء من الموارد المالية للاقتصاد الموريتاني لمغالبة تحديات التنمية المستعصية.
ومن المتوقع بحسب الخبراء أن العمر الافتراضي لهذا الحقل سيمتد حتى 2015 على أن تتوزع عائداته بنسبة 47.5% لشركة وود سايد، و16% لـ هاردمان رسورس، و12% لشركة شنقيط، و11% لبريتش غاز، و 8.5% لشركة برميير، و3% لروك أويل.
وفي المحصلة فإن إجمالي الصادرات النفطية الموريتانية سيصل في سنة 2006 حسب وزير النفط الثاني محمد عالي ولد سيد محمد إلى حوالي 18.4 مليون برميل من الخام، يتم تخصيص 60% منها لتغطية تكاليف التنقيب والاستغلال والتطوير، في حين توزع 40% كأرباح منها 35% للدولة الموريتانية و5% بين أعضاء التكتل النفطي المشرف على حقل شنقيط.
ولا شك أن النفط سيعيد تشكيل معالم وسمات الاقتصاد الموريتاني حيث ستتراجع أهمية القطاعات التقليدية، وبالدرجة الأولى، الرعي والفلاحة لصالح قطاع النفط الوليد، وهو ما ستكون له انعكاسات متعددة الجوانب على مستقبل التنمية في موريتانيا ورهاناتها المستقبلية.
ذلك ما تلقيه دروس الدول التي ركبت قطار المنتجين منذ القرن العشرين، إذ تزايد فيها الإنفاق العام والخاص والفائض التجاري (خصوصا في دول العجز المطلق)، وتزايد الاختلال في توزيع الثروة وطأة، حيث استأثرت مجموعات من أشباه الأميين بغنائم النفط (ظاهرة أثرياء النفط)، ليس لمساهمتهم الكبرى في الإنتاج، بل لقدرتهم على اغتنام الفرص النادرة التي يوفرها مناخ اقتصاد النفط، في الوقت الذي تتورط فيه النخبة العالِمةُ في نسقٍ وظيفيٍ لا ينتشلهم من قاع المجتمع الأدنى مهما حصل.

مأزق التنمية

إن مصادر الدخل في موريتانيا، كما هو معلوم لدى المتخصصين، هي عائدات قطاعات الثروة الحيوانية والحديد والصيد البحري والضرائب المباشرة وغير المباشرة

وأكدت التجربة أنه منذ نهاية الستينيات وحتى اليوم، فإن مصادر التمويل الخارجية لا تزال تغطي أزيد من 50% من إيرادات الدولة، وكان آخرها ميزانية العام الجاري 2006 التي غطّى العالم الخارجي منها قرابة 55%.

وهذه دلالة موحية في لغة الاقتصاد الكلي بحجم فجوتي الموارد المحلية والخارجية التي تبدو متفاقمة حتى إشعار آخر.
غير أن انسياب عائدات النفط الموريتاني لاشك أنه سيسهم في رفع مقادير حجم الدخل القومي، وهو ما سيعمل على زيادة نشاط الشركات المستغلة من جهة، وزيادة الدخول الخاضعة للضريبة في الدولة من جهة أخرى، إضافة إلى انعكاس ذلك إجمالا على زيادة الواردات نتيجة لزيادة المشاريع المصاحبة بالضرورة لظهور اقتصاد نفطي هو نتيجة لزيادة الميل للاستيراد الكلي عموما.
كما قد تتعزز زيادة الرسوم المجبية جمركيا مما يزيد من بند عائدات الضرائب الوطنية، بحيث تنجم عن ذلك زيادة المصاريف الحكومية الإنمائية والإدارية في ظل سياسة عامة للتوسع في الإنفاق وتمويل مشروعات التنمية بوتيرة متنامية، خصوصا في مجال القاعدة الهيكلية الاقتصادية والاجتماعية كالطرق والمطارات والمرافق والإسكان.
وبنظرة أولية لتصور مهمات التنمية في موريتانيا في المديين القريب والمتوسط، تكفي نظرة إلى واقع أكبر مدينتين هما نواكشوط التي تحوي ثلث السكان، ونواذيبو التي تضم قرابة مائتي ألف نسمة، وتغيب فيهما المعالم المادية للعمران البشري من تخطيط وصرف صحي مع انتشار "فطري" لأحياء الصفيح العشوائية التي تعيد صورة مدن القرون الوسطي أو ربما ما قبلها.
ناهيك عن وجود الفقر بالجملة في المدن والأرياف (60% من عدد السكان)، والبطالة الشاملة وبطالة الخريجين على قلتهم ( 6000 حامل شهادة تقديرات 2003) الذين تسبب منهج "السوق الطارد" في هجرة عينات نوعية منهم إلى المهجر، وتحديات تأمين العيش الكريم في ظل الغلاء الشامل في الأسعار لسيطرة المنطق الشائه لليبرالية المتوحشة بسبب تغوّل مافيات الرأسماليين والبرجوازية الكومبرادورية ضمن مناخ الدولة، الشيء الذي مكّن 5% من احتكار ثروة بلد بأكمله.
تضاف إلى كل ذلك أمية "أبجدية ومدنية" مستفحلة في أكثر من 70% من السكان في بلد لم يتوفر بعد أربعة عقود من استقلاله السياسي والقانوني على جامعة واحدة متناغمة مع المعايير المتفق عليها عالميا.
وهناك كذلك انتشار مريع لأمراض منقرضة مثل الكوليرا التي اختفت منذ عقود من أنحاء عديدة من العالم، مع قطاع صحّي يحتاج إلى عمل المعجزات من أجل رفع معاناة العذاب اليومي الذي ينصب على رؤوس مواطنيه.

أي حل لمشاكل بنيوية؟

تلك عينة من مآزق التنمية ومشكلاتها، التي يسهم تأخير حلها في تفاقمها وزيادة نفقات حلها مستقبلا، وهي المآزق التي تنخر بنية الاقتصاد الموريتاني في الصميم، مما يوسع دائرة آماله وينقل مشاكله إلى هذا المورد الجديد النفط لكي يكون بمثابة خاتم سليمان لها جميعا.
غير أن إصلاح الاقتصاد يتطلب إصلاح السياسة والاجتماع كما هو معروف، وقد يكون التغيير الذي عرفته موريتانيا منذ 3-8-2005 وما تلاه من وضع اللبنات الأساسية للعدالة والديمقراطية والحكم الرشيد ولجنة وطنية مستقلة للانتخابات وخلق مؤسسة وطنية للنفط لتشرف على كل ما يتعلق بهذه السلعة تنقيبا وإنتاجا وتسويقا، كلها معالم على طريق حل معضلة التنمية المستعصية في موريتانيا.
ويدعم ذلك إنشاء صندوق وطني لعائدات المحروقات صادق عليه مجلس الوزراء، وما يتضمنه من إشراف وتسيير لموارد تقاسم الإنتاج النفطي والإتاوات والضرائب والرسوم التي من المقرر وضعها في حساب الصندوق باسم الدولة الموريتانية.
يضاف إلى ذلك ما تم من المصادقة على الانضمام إلى مبادرة الشفافية الدولية في مجال تسيير عائدات المناجم والنفط، غير أن أربعة عقود من التجربة والخطأ استحالت فيها موارد أخرى، علقت عليها آمال عراض إلى أثر بعد عين، تجعل نجاعة ما يتم القيام به في حاجة إلى وقت ليتم إثباته.
ومن الصعب التأكد من أن مصير النفط لن يكون مثل مصير الحديد الذي تأتي موريتانيا في صدارة منتجيه العشرة الكبار عالميا، ولم يستطع حل مأزق التنمية، بل كانت النتيجة هي تحوّل مناجمه في الشمال إلى قبور ضخمة من الأتربة والغبار، أو مثل مصير السمك الذي لم يكن أحسن حظا.
وبالرغم من أن أصنافا نادرة وفائقة الجودة من الأسماك تتوالد في المياه الأطلسية الموريتانية في بيئة بحرية من التيارات الدافئة والباردة لا نظير لها في العالم، وتصل طاقة الصيد السنوية من هذا المورد إلى ربع مليون طن تقريبا، فإن هذا القطاع تم ارتهانه بثمن بخس للاتحاد الأوروبي وغيره بفتات (750 مليون يورو) ضل طريقه إلى الخزينة الوطنية منذ عقدين من الزمن، إلى جيوب الفساد وديناصوراته التي كانت بالمرصاد لتلك الثروة وغيرها كما تؤكد تقارير الشفافية الدولية المتتالية.
وعندما نتساءل هل سيكون النفط أكثر أمانا من هذه المخاوف والتحديات كلها، لاشك أن الإجابة سيكون جزء منها في بشائر الفساد المبكر، الذي خيم مناخه مؤخرا، بين الحكومة الموريتانية والشركة الأسترالية "وود سايد" في ظل ما بات ينعت محليا بقضية ملحقات الاتفاق التي تروج اتهامات حول تورط أول وزير نفط فيها مقابل عمولات ورشى وخسائر للاقتصاد الموريتاني تقدر بـ 200 مليون دولار.
ويذكر أنه إلى جانب هذه الخسائر المعتبرة سيكون هناك عدم التزام بسيولة كافية لدى المصارف التجارية الموريتانية كما هو شائع في مثل هذه الحالات، وأضرار على البيئة البحرية قد تتسبب في الإجهاز على الثروة السمكية مما أحيا المخاوف من المشكلات التي تواجه "النفط – المنقذ".
وتدعم هذه المخاوف قراءة التجربة في تسيير الموارد الوطنية السابقة التي قيل حينئذ عنها، وفي مراحل مختلفة، إنها ستكون السبيل أمام بناء الدولة الموريتانية وإشباع حاجات المواطنين وتسهيل سبل الحياة والرفاهية أمامهم على غرار الشعوب الأخرى في الدول النامية على أقل تقدير.
وبكلمة واحدة فإن النفط قد يسهم في التخفيف من حدة مشكلات التنمية في موريتانيا، ولكنه لن يكون "نعمة" كما يروج المتفائلون، ولا "نقمة" كما يخشى المتشائمون، بل إنه مورد اقتصادي فحسب.
إذا أحسن استغلاله بعقلانية وترشيد سيغير وجه الحياة إلى الأفضل، أما إذا أسيء استغلاله فقد يكون مصدرا لجلب الشرور كما أثبتت التجربة في كثير من البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء، فأين ستكون التجربة الموريتانية من ذلك؟

نقلا عن موقع الجزيرة نت .

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya