27 مارس 2008

العرب و أوروبا .. حراب أم حوار ؟؟

تأسست العلائق التاريخية بين العرب وأوروبا منذ زمن غابر سحيق لا يعرف له على وجه الدقة مبتدأ محدد وتاريخ دقيق، وقد لا يكون ذلك الأمر ذا فائدة كبرى إلا لدي المشتغلين بالغوص والتحري والتأصيل للمسائل التاريخية، أما غير أولئك- ومن بينهم كاتب هذه الأسطر- فقد يكون أجدى لهم نفعا الاقتصار على التحليل الفكري والحضاري لإحداثيات وقائع بعينها من اجل تكثيف التحليل وحشد التركيز بحيث يمكن الاستفادة منها في الخروج بتصور مفيد يتجاوز "إحداثيات" الماضي، وتفاصيل الحاضر، إلى "آفاق" المستقبل المنظور على الأقل .
وهكذا فإن التأمل في طبيعة العلاقات العربية الأوروبية يعيد – دائما إلى الذاكرة " شيئا" من التاريخ ، و"فصولا" من ذكريات التدافع الحضاري طيلة أربعة عشر قرنا من الزمان، وتحديداً منذ ظهور رسالة الإسلام باعتبارها آخر خطابات السماء إلى بني آدم الذين هبطوا على الأرض.. حيث بدأت علاقات الأوروبيين مع هؤلاء "الأعراب البداة" تشهد مدًّا وجزراً غير مسبوقين، لأن العرب حملوا راية نشر التوجيد إلى الناس كافة، ومن بينهم الأوروبيين.
وللعل ذلك كان من أدعى أسباب "التلاقي" بين العرب وحفدة حضارات روما واسبرطة وبيزنطه الذين لم يرضوا عن طيب خاطر أن ينصتوا إلى نداء يحمله من كانوا في عرفهم القريب لايزيدون عن مجرد " برابرة" على هامش الحضارات اللاتينية العتيدة المتعاقبة، شأنهم شأن غيرهم من الشعوب والأقوام " التوابع"، غير القادرين على الفعل التاريخي في ذلك الوقت ولم يدٌمُ الوقت طويلا حتى جعل الإسلام العرب فاتحين استطاعوا أن يؤسسوا أحجار حضارتهم العيمة في أقل من عشرين عاما، وبدأوا في تدشين مداميك حضارة عربية إسلامية أضافت للإرث الإنساني الشيء الكثير، وبلغت شأوا راقيا وشأنا رفيعا في مدارج الفكر والثقافة والعمران، الذي بهرت أنواره الساطعة أبصار وألباب الأوروبيين الرازحين أنينا وحينا من الدهر تحت وطأة ظلام الهرطقة الفكرية في أجلى مظاهرها وتجلياتها، الشيء الذي جعل الحواضر العلمية والإسلامية في كل مكان قبلة و" مثابة" للأوروبيين، وتحديدا في الأندلس (غرناطة، قرطبة، ..إلخ)، حيث تبارى الأوروبيون في النزول بتلك الجامعات العربية طلبا لرحيق العلم وبذور الثقافة والفكر.
ومن خلال ذلك بدأت تظهر " معالم على الطريق" وبوادر لنثر مفاهيم التمرد والثورة على فلسفة الاقطاع وثقافته المتجذرة منذ قرون. غير أن سلطة لاقطاع "الكنسية" مانعت ذلك بعض الوقت، وتمكنت إلى حين من "تأجيل" نور النهضة في أوروبا خصوا بعد إعلان البابوات" حروبهم "الصليبية" (المقدسة!) لدحر "الكفر" الزاحف من الشرق وشهدت العلاقات العربية الأوروبية يومها قرنا من الحراب والدماء استمرت تنزف مائة عام وفشلت عسكريا في تحقيق النصر المؤزر، ونجحت "استراتيجيا" على مستوى الداخل الأوروبي بأن شكلت منعطفا تاريخيا بدأت به الجرأة في الدعوة إلى الإصلاح الديني، وهو ما تزامن مع ظهور"حركات تنويرية" ارتكزت في جوهرها على الدعوة إلى الثقة في مقدرة العقل الإنساني على إدراك الحقيقة الكامنة في الكون والوجود، وكذا مقدرته على "الإجابة" على تساؤلات " الفيزيقا" (الطبيعة). وقد تزعم ذلك التنوير جماعة من الدارسين المجازين علميا وفكريا من الجامعات العربية الإسلامية، وخصوصا من المدرسة الرشدية (نسبة إلى ابن رشد) في الأندلس، ومن أشهر أولئك الدارسين الاسكتلندي ميخائيل سكوت وغيره.
وقد ترتب على ذلك أن تلمس الأوروبيون حقائق جديدة، وشيئا فشيئا تنسموا نعيم الخروج "الجماعي" من جهنم القرسطوية إلى نور جنة الحداثة، التي سارعت وتسارعت بالثورات العلمية والصناعية، وتأسيس الدولة الوطنية المعاصرة التي دعمها الرأسماليون الناشئون ممثلين في البورجوازية أول الأمر) رغبةً في تعزيز سلطانها، وسعيا لخلق واقع اقتصادي جديد يكونوا هم سادته وأربابه، وظهر ذلك التزاوج النادر في التاريخ بين الدولة والرأسمالية، وهو ما يشار إليه عادة ضمن أدبيات تاريخ الفكر الاقتصادي بمرحلة "المركنتالية التجارية" التي تميزت ببزوغ عوالم جديدة على سطح البسيطة (الأمريكيتين واستراليا وتدفقت المعادن النفيسة – الذهب والفضة- على الأوروبيين، مما دفعهم إلى ابتكار صيغة جديدة هي "الاستعمار" للشعوب الأوطان الأخرى جلبا للمواد الخام(رأس المال المادي)، والبشر (رأس المال البشري). ولهثا في نفس الوقت وراء البحث عن أسواق لتصريف ما تنتجه المصانع وغيرها من الوحدات الإنتاجية التي ظهرت في ذلك الوقت. وهنا دخلت العلاقات العربية الأوروبية نفقا جديدا، بعد أن نال العرب نصيبهم من "كعكة الاستعمار!" مدة تزيد عن قرن من الزمان منذ سنة 1830 ميلادية بعد أن دب الوهن في صلب الامبراطورية الإسلامية التي تضخمت حتى أسوار سور الصين والقوقاز والبلقان وبحور الظلمات في إفريقيا وغيرها، ومن حيث دخل الاستعمار بدأت المقاومة التي دفع فيها العرب الثمن غاليا وتحمّل ذلك الثمن الأوربيون ولايزالون يتحملونه حتى منتصف القرن العشرين لفارط، حيث تم جلاء الجيوش الغازية وقواعدها الرابضة على الأرض العربية، وبدأت فصول أخرى من التدافع الحضاري العربي الأوروبي لم تتسم – في أغلبها- بالفهم الصحيح للتواصل الحضاري، حيث ظل الأوروبيون ينظرون بنفس الرؤية القديمة- الجديدة التي لا ترى في المنطقة العربية أكثر من منطقة امتداد للنفوذ الاستعماري التقليدي دون أدنى اعتبار للندية والمساواة الإنسانية المفترضة نظريا، ولو على الأقل في عرف العلاقات الدولية منذ عصبة الأمم سنة 1919.
ولهذا لم يكن غريبا أن تأبى الدول الأوروبية من خلال سيطرتها على البنك الدولي أن يقبل هذا الأخير بفكرة تمويل السد العالي في مصر الخمسينيات من القرن العشرين أيام الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر، وذلك ببساطة لأن مصر في تلك الحقبة " تحررت" وتسعي لـ" تحرير" غيرها، ولم تعد منطقة نفوذ بالمعني الدارج في الأدبيات الاستعمارية. ثم إنه – وهذا سبب جوهري لابد من منع مصر (أي العرب) من الوصول إلى وضع من شأنه الإخلال بالتفوق الصهيوني العسكري، ويوضح هذا المثال بجلاء طريقة تعاطي التفكير الأوروبي مع العرب الناهضين من استعمارهم، وعند تلك الحالة لم تنسف جسور الحوار العربي لأوروبي، بل ظل الحوار موجودا ولكنه يمارس في أضيق حدوده، وأكثر من ذلك يتم التشويش عليه بالريبة والشك من العرب تارة، وبالضغوط والإملاءات من الأوروبيين تارات أخرى واستمرت تلك الحال حين رفع بعض العرب شعارات "التحرر" لأوطانهم وشعوبهم ومحيطهم الجغرافي و الإنساني (نظرية الدوائر الثلاث : العربية، الإفريقية، الإسلامية وتحولوا إلى مراكز متقدمة لدعم كل المناضلين في سبيل الحرية، وترجموا ذلك في سلوكهم السياسي حين أسسوا أحلافا دولية تبتعد قدر المستطاع عن الانجذاب للشرق الشيعي أو للغرب الرأسمالي في حروبهما الباردة أو الساخنة أحيانا، واستطاعت تلك الأحلاف أن تؤسس لعلاقات من وحي المبدأ القائل: "نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا".. وهنا تصدعت جسور الثقة بصدوع كبيرة بين العرب وأوروبا، وسادت لغة "الحراب" وتراجعت لغة "الحوار".. العرب يوسمون أوروبيا بأنهم "إرهابيون"، والأوروبيون ينعتون عربيا بأنهم "إمبرياليون قدماء جدد" .. العرب يرون القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية ويدعون إلى تحريرها ولو بالسلاح وأن : " ما أخذ بالقوة لايسترد بغيرها" 0 كما قال عبد الناصر غير ما مرة 0.. والأوروبيون ينادون بضرورة السلام ويطالبون العرب بالقناعة و"الواقعية = الوقوعية بقبول وهضم إسرائيل كدولة" طبيعية ضمن قلب الجغرافيا العربية، بعد أن خلقها تاريخيا الوعد الأوروبي الشهير و الظالم ( الوزير البريطاني " بلفور " بعطائه فلسطين التي لايملكها للـصهاينة الذين لايستحقونها ). واستمرت الجفوة متسعة ولو بدرجات متفاوتة تفاوت العرب في اتفاقهم حول ما يرونه "قضايا مشتركة" واستطاع الأوروبيون لأسباب تاريخية عديدة – لا مجال للاسهاب فيها- أن يشرذموا العرب إلي قسم مهادن (حتى لا نقول أكثر من ذلك)، وقسم مناوئ (معارض)، وهذا الأخير هو الذي تحمّل الدور الكبير في رسم لوحة العلاقة مع أوروبا منذ منتصف القرن العشرين، ومثلما نظرت غالبية الدول الأوروبية الغربية تقريبا إلى جمال عبدالناصر بوصفه العقبة الكبرى (أزمة قناة السويس وحربها الثلاثية في سنة 1956) في وجه المصالح التقليدية لأوروبا نظرا لتطلعاته التحررية القومية العربية ونزوعه الاستقلالي المتمرد كما ظهر في تأسيسه مع عمالقة زمنه في باندونغ : جواهر لال نهرو ، وجوزيف بروز تيتو .. وأترابهم ، فإن نفس التقييم – مع تغييرات طفيفة مرتبطة بعوامل أخرى هنا وهناك- انسحب على حالة التعاطي مع الموقف السوري منذ سنة 1970، وكذلك على العراق منذ حرب تحرير الكويت1991، وعلى الجماهيرية منذ اندلاع ثورة الفاتح وتصنيفها على أنها استمرار لفكر الرفض والممانعة.. وتشي تلك النماذج وغيرها بدلالة صارخة على أن فرص الحوار لم تكن إيجابية بصورة كبيرة بين العرب والأوروبيين طيلة خمسة عقود سابقة.
ولم يبدأ في عمر البشرية القرن الحادى والعشرون حتى انتصر الكثير من "إرهابيي" الأمس القريب من أمثال " ياسرعرفات" و " نلسون مانديلا" ...وغيرهم كثير ، وغدوا في ظل عالم ما بعد القطبية الدولية أبطالا يستحقون الاعتزاز و"يتوجون" بجوائز السلام العالمي، وهو ما يعني أن الكثير من "المسلمات" السابقة قد تغير ، لأنه كان مغالطة كبرى ، ليفسح المجال لأخرى جديدة لها أطرها واعتباراتها الخاصة. واستحالت ذكريات الحرب الباردة بين الشرق والغرب إلى أثر بعد عين، وتضاءلت فرص المناورة السياسية الناجحة ولم يعد العالم أكثر من حديقة "تستأسدها" الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي جرحت كبرياء زعيمة العالم "الحر" في الصميم، ولم تعد الدول الأوروبية تتعامل فكريا بعقليتها الاستعمارية الفجة، وبرهان ذلك هو تجريمها لخطاياها التاريخية (النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا وقناعتها بضرورة التكفير عن "آثام" الاستعمار السابقة والاستعاضة عنها بـ طهارة" نهج الاعتماد المتبادل، ومقايضة التقنيات بالمواد الخام، علاوة على إمكانية إلغاء الديون المستحقة في مراحل تاريخية مغايرة، واستبدالها بتقديم المشورة التقنية والفنية اللازمة للتقدم والنمو في ظل هذا الخضم المتلاطم من الأحداث والمتغيرات والتدافعات على المستوى العالمي والإقليمي، وفي ظل الواقع العربي المرير في الشرق الأوسط بمعناه التاريخي(استمرار احتلال العراق منذ 2003، وفلسطين منذ أكثر من خمسين عاما، إضافة إلي تداعيات الإخفاق للكثير من مشاريع الإنماء والبناء الوطني، فليس من خيار متاح ومعقول ممكن أمام عرب الألفية الجديدة إلا السعي الجاد والملموس للاندماج الكلي الشامل فيما بينهم، مع مدّ جسور التفاهم الحقيقي وليس الوهمي مع جيرانهم الأوروبيين الآسيويين، والدخول في التلاحم التاريخي المصيري مع الإفريقيين، وذلك من أجل أن يكونوا في مستوى أعبائهم التاريخية التي فرضت عليهم منذ نصف قرن على الأقل، وفي المحصلة لاستقراء الواقع وتشوف المستقبل لا توجد منزلة بين المنزلتين، لابد من الدخول في الحوار أم حمل الحراب، مع الاستعداد للنتيجة الحتمية لأي منهما.

منشور في مجلة فضاءات للفكر و الثقافة و النقد - العدد 21- السنة 2006

0 التعليقات:

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya