19 مارس 2008

كتاب :"القبائل البيظانية في الحوض و الساحل الموريتاني" لمؤلفه ابول مارتي .. تعريب : محمد محمود ودادي

تعدّ منطقة الصحراء الكبرى إحدى أكثر المناطق إيغالاً في التاريخ ، حيث دارت على رحاها أحداث تاريخية جسام .. ممالك تتأسس وتزدهر وتنهار مفسحة المجال أمام غيرها .. ومجال جغرافي وبشري زاخر بالتنوع الإثني والعرقي الذي نسجته علائق الأقوام والشعوب العربية والإفريقية منذ قرون سحيقة، وعلى الأخص منذ بدأ الإسلام يدخل كأحد الروافد التكوينية في الشخصية الحضارية والثقافية والاجتماعية في تلك البقعة من العالم .

 ولعل ذلك من بين أمور أخرى هو ما دغدغ عواطف الكثيرين ليؤرخوا ولو جانبا معينا من تاريخ تلك المنطقة .
 ولم يقتصر الأمر على المشتغلين بالهمّ التاريخي من أبناء المنطقة ، بل تجاوزهم إلى بعض الرحالة الأوروبيين والمستكشفين المغامرين الذين طغا فيهم الحس المعرفي على الهاجس الاستعماري ، أو ربما وظفوا الأول لتسهيل نيل الهدف الثاني بطريقة علمية ومعرفية أو هكذا تبدو على الأقل. ومن بين أولئك الأوروبيين الذين اشتغلوا بالتوثيق التاريخي لجانب من تاريخ عرب الصحراء الكبرى البحاثة ( البعض يعتبره جاسوس!) الفرنسي الشهير " بول مارتي"الذي تجول في ربوع شتي أثناء الحملة الاستعمارية الفرنسية للمنطقة ، وكتابه الموسوم بـــ: " القبائل البيضانية في الحوض و الساحل الموريتاني .." يمكن أن يدرج ضمن ذلك السياق العام المشار إليه آنفا.
 والكتاب المذكور نشرته جمعية الدعوة الإسلامية العالمية في طرابلس الغرب بالجماهيرية الليبية ضمن جهودها المشهودة لنفض الغبار عن جزء غير يسير من تراث المنطقة ، وقام بتعريبه معالي السفير السابق والدكتور المثقف محمد محمود ولد ودادي ، الذي ترجم أيضا للمؤلف بعض كتبه الأخرى مثل :" كنته الشرقيون " و " البرابيش" ، وهما جزء من سلسلة ضخمة تضم أحد عشر كتابا وثلاثين دراسة أعدّها الكاتب الفرنسي عن الإسلام وشعوبه في المنطقة التي تضم الآن أجزاءً كبيرةً من دول مالي والسنغال وموريتانيا ، وما يعنينا من تلك الكتب هو مرجعه هذا عن القبائل البيضانية التي استغرق " مارتي " في دراستها ثماني سنوات ما بين 1912 و 1920والبيضان تنطق محليا في موريتانيا بالظاء : بيظان، هو المعني الذي ارتآه المعرب كمقابل للمفهوم الفرنسي Maure ، وقد عرض " مارتي " تاريخ هذه القبائل التي بلغت بحسبه حوالي اثنتا عشر قبيلة رئيسية ) أولاد داود ، تجكانت ، أولاد بحمد ، مشظوف و لحمنات ، كنته الحوض ، الكلاكمه والطالب مختار وإجمان ، الاقلال ، أولاد مبارك ، تنواجيو ، أولاد الناصر ، لادم ( مع قبائل صغيرة أخرى مثل الشرفاء ) أهل الشريف حماه الله ( ، وأولاد بله ، والسماليل ، ومسومه ، .. الخ.
 وقد عمد المؤلف إلى النظر إلى تصنيف تلك القبائل أثناء التعريف بها إلى قسمين هما : قبائل ذات شوكة أو محاربة تعرف محليا بــ: اعْربْ مثل أولاد امبارك ومشطوف .. الخ ، وقبائل مشتغلة بما يسميه الجابري بــ " الثقافة العالمة" مثل كنته و الاقلال و تجكانت .. الخ. كما استعرض المؤلف المجال الجغرافي الذي شملته دراسته عن تلك القبائل وهو منطقة الحوض والساحل ، حيث يضع لها تحديداً بالرقعة الفسيحة الممتدة طولا على مسافة 500 كم ، وبين 100 إلى 200 كم عرضا ، والمحصورة مابين أنهار النيجر والسنغال جنوبا والصحراء الكبرى شمالا ص 7 .
 ولو ترجمنا ذلك إلى الجغرافيا السياسية الحالية لقلنا إنه يشمل الأجزاء الجنوبية والشرقية من موريتانيا الحالية ) ولايات الحوضين الشرقي والغربي( ، كما يشمل أجزاء من جمهورية مالي المجاورة )خصوصا مناطق ولايات خاي وتمبوكتو ( وتلك المناطق هي التي تنتشر فيها القبائل الإفريقية مثل السوننكي والفلان والبمبارا وكذلك قبائل الطوارق المعروفة .
 ويذكر أن الفترة التي تجول فيها صاحبنا " مارتي" في أرجاء منطقتي ما يسميه الحوض والساحل كان الفرنسيون لا يزالون يعانون من أوار المقاومة من بعض تلك القبائل المتواجدة في تلك الربوع والرافضة لوجود الغازي الجديد ، وذلك بالرغم من استتباب الوضع للفرنسيين في مناطق أخرى بسرعة كبيرة!
 وقد أشار المؤلف إلى تلك المقاومة في أكثر من موضع من كتابه مثل صفحات 15 ، 245 ، مع تقليله من شأن بعض قادة المقاومة التاريخيين مثل الشيخ عابدين الكنتي والشيخ ماء العينين ص15) ). 
 وتجدر الإشارة إلى تفشي الصراعات القبلية في تلك المنطقة ، وهو ما خلق أجواء مشحونة مكنت الفرنسيين من الدخول على الخط واستغلال تلك الظروف أحسن استغلال وتقديم أنفسهم في صورة من يسعى إلى فرض الأمن والنظام المفقودين ! في منطقة تعاقبت عليها قرون من السيبة والفوضى والبلبلة منذ أفول نجم الدولة المرابطية في حوالي القرن الحادي عشر الميلادي تقريبا ، وذلك دون إغفال محاولات النظام التي قيم بها من طرف ما يعرف بــ: " الإمارات الحسانية" التي ملأت فضاء المنطقة ، ومن تلك الإمارات : إمارة أولاد امبارك التي بسطت نفوذها حتى 1850 ص ( 254). . وإمارة مشظوف التي سيطرت بعد ذلك في سنة 1880 ص 91 . ويشير " مارتي" إلى أن من أهم مصادره حول تاريخ القبائل البيضانية هو الروايات الشفوية والوثائق المكتوبة )الحوليات ، شجرات الأنساب ..) وكتب الرحالة العرب كابن بطوطة وابن خلدون والسعدي .. كل ذلك وفّر للباحث الفرنسي زاداً معرفيا ثريا عززه بمشاهداته وجولاته المباشرة في تلك المنطقة لسبر أغوارها واستكناه مجاهيلها أشخاصا وشخوصا وشخصيات .. وذلك ما تجلى في ثنايا الكتاب بأسلوب رشيق ورزين في الكثير من الأحايين ، وقلّما يتمكن البحاثة الأوروبيون من التوفيق في ذلك بحسب بعض الدراسات النقدية التي فحصت كتاباتهم وعايشتها عن قرب.
 إن الدراسة التي قام بها الكتاب للقبائل البيضانية تعطي للقارئ انطباعا إيجابيا منذ العنوان ، وتأخذ بتلابيبه خلال ثلاثة عشر فصلا ليعايش أبرز القبائل ، وأنسابها ، وأصلها ، وفروعها،وأماكن سكناها .. ولاشك أن ذلك النوع من الدراسات الوثائقية محبب لكونه يقوم بدور المجهر الذي يصور محتويات الشريحة مهما كانت ضئيلة وصغيرة جدا. ويبدو أن الهدف " الاستكشافي" الاستعماري من الدراسة قد تم بلوغه كما أشار المؤلف في الخاتمة ص310 .
 إلا أن الهدف " العلمي" الصرف اعترف المؤلف نفسه بأنه لم يصل إليه وهو ما دفعه إلى المطالبة بمعالجات اكثر شمولية ووضوحا للكثير من الموضوعات التي عرضت لماماً داخل ثنايا الكتاب. ولقد أورد " مارتى" أن فرض الضرائب على القبائل تم على يد العقيد "أرشينار " في 20 يناير 1891 ص 310 .
 وهي ضرائب تفرض على المواشي باعتبارها وسيلة الدخل والعيش الأساسية لقبائل الصحراء الكبرى ، إضافة إلى ضريبة الرأس . وإذا كانت الضرائب في المالية العامة هي إحدى وسائل التمويل الرئيسية للدولة المعاصرة وواجبة السداد كتعبير عن المواطنة في مقابل توفير حقوق المواطنة كاملة ، فإن الضرائب التي فرضها الفرنسيون على القبائل البيضانية لم تكن إلا وسيلة لاستنزاف ثرواتهم وتمكينا للاستعمار وبدون أي مقابل ، ولعل ذلك ما أثار حفيظة القبائل ونظروا إليها نظر شك وريبة ، بل وتمردوا عليها في كثير من الأحايين ص 39 وغيرها. وتنبغي الإشارة إلى الجدل " التاريخي" الذي ثار حول مشروعية تسمية " موريتانيا" ، فمن قائل إنه اسم يوناني قديم كان يطلق على شبه المنطقة الشمالية لإفريقيا ، فأحياه الفرنسيون تذكيرا بأمجاد تلك الأحقاب الغابرة، ومن قائل إنه ربما يكون نسبة إلى وادى " المور " في اليمن وهو الذي جاء منه السكان فنسبوا إلى حيث موطنهم الأصلي . ومهما يكن من أمر ذلك الجدل " الساخن" فإن الاسم التاريخي القريب الذي عرف به الموريتانيون ، وبالذات لدى إخوانهم في المشرق العربي هو الشناقطة ، وبالتالي عرفت بلادهم بأنها بلاد شنقيط . إلا أن الفرنسي " مارتي" لم يورط نفسه في تأصيل تلك المسميات أو المساهمة في الحوار والجدل بشأنها ، واقتصر فقط على تتبع أثر القبائل البيضانية في منطقتي الحوض والساحل مع معرفته وإشارته إلى امتداداتهم في موريتانيا ، بل و اشار إلى بعض كتبه الدالة على ذلك مثل كتابه حول مجتمع تكانت البيضاني ص 244 .
 ومع المحاسن الكبرى التي انطوى عليها مؤلف " مارتي" التوثيقي ، فإن الكتاب لم يخلُ من ثغرات عديدة ومتشعبة نورد طرفاً منها على سبيل الإيضاح وليس الحصر: 
1- إسهابه الذي كاد يصل مرحلة الإطناب عند الحديث عن بعض القبائل )مشظوف مثلا( ، وإيجازه الذي قارب من الوصول إلى الإخلال عند الحديث عن القبائل الزاوية الصغيرة كما أسماها. .
2- إهماله البتة ذكر وجود بعض القبائل الأخرى او امتداداتها )مثل قبيلة العلويين( في منطقة الحوض والساحل ، وهو ما يخالف الحقيقة التاريخية المؤكدة على أن ذلك المجال الجغرافي كان يمتد دون عوائق الحل والترحال لمن يشاء. 
3- النظر إلى الحوض والساحل على أنهما ليسا من موريتانيا ، وهو واقع خلقته الإدارة الفرنسية ولم يستطع تكذيب حقائق التاريخ والجغرافيا المتأصلة وذلك حين عاد الحوض إلى وضعه الطبيعي كجزء لا يتجزأ من الدولة الموريتانية ، وذلك في سنة 1945 كما أكّد ذلك المعرب في تقديمه. ومع تلك الملاحظات وغيرها ، فإن كتاب " بول مارتي" هو بحق مؤلف قيم ويستحق أكثر من قراءة واحدة ، ويكفيه سبقاً أنه أراد أن يسجل الكثير من يوميات الحياة الاجتماعية لمجتمعات الحل والترحال التي لا تفتا تضرب أكباد الجياد والإبل بحثاً عن الكلأ والمراعي لمواشيها في المفازات الفسيحة والمجابات الكبرى.

0 التعليقات:

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya