7 ديسمبر 2008

أتصور أن موريتانيا تملك إمكانيات ذاتية لمقاومة الحصار


الدكتور الباحث الاقتصادي أحمدا ولد نافع للبديل:
أتصور أن موريتانيا تملك إمكانيات ذاتية لمواجهة الحصار الاقتصادي
الدكتور أحمدا ولد نافع الباحث و الأكاديمي والكاتب، هو أحد الوجوه الثقافية الشابة الموريتانية، والذي لمع نجمه في الجامعات الليبية، وفي عدة ندوات علمية وثقافية داخل وخارج موريتانيا والحاصل على الدكتوراه في الدراسات الاقتصادية بتقدير ممتاز من أكاديمية الدراسات العليا الليبية و التي كرمته باعتباره الحائز على المرتبة الأولى على دفعته، وعمل مدة خمسة سنوات خلال الفترة 2003-2008 أستاذا في كلية الاقتصاد و التجارة بجامعة المرقب في مدينة الخمس الليبية و جامعة افريقيا الأهلية في مدينة طرابلس . نشِر له العديد من البحوث و الدراسات العلمية في صحف و مجلات علمية محكّمة ، وشارك ممثلا لبلاده في العديد من المؤتمرات في إفريقيا و الوطن العربي.
بتواجده على أرض الوطن بعد عودته هذه الأيام كان لنا في يومية البديل الثالث معه الحوار التالي:
حوار:الحسن ولد الشريقي


البديل الثالث : يتوجس البعض هذه الأيام خيفة من تدويل أزمتنا الراهنة ما مدى تأثير التدويل على الاقتصاد الوطني ؟

أحمد ولد نافع :

في البداية أشكر جريدتكم الملتزمة لإتاحتها هذه السانحة في التفاعل مع متصفحيها وقرائها الأعزّاء، و جوابا على سؤالكم فبلا شك فإن ما يسمى " التدويل للأزمة الموريتانية " يحمل في ثناياه تداعيات متشابكة على الاقتصاد الوطني، الذي يعتمد بشكل كبير على المعونات الخارجية و الهبات و التبرعات، و بالتالي فيجب العمل على الحؤول دون الإضرار بهذا الاقتصاد ، لما في ذلك من تأثير على الوطن و المواطنين ..

البديل الثالث :هل هناك إمكانية لمقاومة مثل هذا الحصار إذا ما أقدمت دول الشراكة في التنمية على تطبيقه؟

أحمد ولد نافع:

عند اللحظة التي يفرض فيها الحصار الاقتصادي على أي بلد من البلدان ستبدأ المقاومة لفكه والالتفاف عليه وتقليل خسائره إلى أضيق حد ممكن ، هذا ما حدث في جميع البلدان التي عانت بشكل أو بآخر من الحصار الاقتصادي الذي بدأ استخدامه كسلاح اقتصادي وسياسي منذ عقود ما بعد استقلال الدول النامية في النصف الثاني من القرن العشرين ..
ولا أتصور أن موريتانيا ستشذ عن القاعدة، و تملك إمكانيات ذاتية لمواجهة الحصار الاقتصادي، من خلال تعبئة مواردها المحلية التي يمكنها أن توفر من خلالها الإمكانيات المالية اللازمة لاستمرار المشاريع الاستثمارية التنموية المختلفة التي كانت ممولة من ما يسمى "شركاء التنمية ! ".

البديل الثالث :البعض يرى في تبريرات رئيس المجلس الأعلى للدولة بقدرة البلد الاقتصادية على النهضة إذا ما تم استغلال الثروات نوعا من التفاؤل وشحذ الهمم لمواجهة الحصار؟ ما مدى صحة مثل هذا الرأي؟

أحمد ولد نافع :

فعلا، هذه حقيقة يدركها الكثيرون في موريتانيا، أنه في حالة ما إذا تم استغلال الثروات المتوافرة بشكل رشيد و عقلاني، فإن عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية لن تتأثر بالحصار أو بغيره، و لاخوف على موريتانيا أبدا ما دامت مواردها المادية و المعنوية معبأة بصورة صحيحة و مناسبة .

البديل الثالث :من المعروف أن الديمقراطية عامل مهم لجلب المستثمر ورديف للتنمية، هل ترى أن الاقتصاد الوطني حقق بعض النتائج الايجابية في ظل النظام السابق ؟

أحمد ولد نافع :

لاشك أن أجواء الأمان و الاستقرار التي توفرها الديمقراطية السليمة هي القادرة على جلب الاستثمارات التي قد تسهم في تحسين الأوضاع التنموية في البلاد ..
وبخصوص الوضع الاقتصادي في النظام السابق، فأعتقد أنه لم يحقق الكثير مما كان يجب عليه إنجازه، وقد يجد العذر في أن الوقت لم يسعفه، وباستثناء تهيئة ظروف الاستثمار الأجنبي و تشجيعه و نجاح المشاورات في جولة الداعمين التنمويين في باريس، فإن الأوضاع الاقتصادية للمواطنين تدهورت بشكل مرعب ، هل ننسى مظاهرات الجياع التي عمت أرجاء الوطن وشهدت عشرات الجرحى و قتيلا واحدا، وكانت مؤشرا على الأداء الاقتصادي للنظام السابق ، كما أن ما عرف بالخطط الإستعجالية لمواجهة الغلاء لم تنفذ بفاعلية و عقلانية و ذهبت تمويلاتها إلى ما ذهبت إليه تمويلات سابقة ، ولم يجني المواطن غير الحسرة و الندم .

البديل الثالث : يرى البعض أن النظام الجديد منذ اعتلائه السلطة بدأ بمحاولة شغل الناس بتخطيط أحياء الانتظار في أنوا كشوط ، كيف تقيمون هذه الخطوة من الناحية الواقعية ؟
أحمد ولد نافع:

خطوة جميلة تأخرت كثيرا منذ عقود ، وهي تحسب للنظام الجديد في أنوا كشوط، حيث من المعيب جدا أن تظل العاصمة مسورة بأحياء لا تصلح حتى للحيوانات ، أكرم الله القراء ، أحرى أن تكون مأوى لأجيال من الموريتانيين وجدوا أنفسهم لاجئين في وطنهم ظلما و عدوانا .
و بالتالي ، فقد أحسن النظام صنعا أن رد الحقوق الضائعة لأصحابها بعد أن حرموا منها زمنا طويلا، كما أنه يساهم في تجميل المنظر الحضاري للعاصمة الموريتانية ، التي لا تزال تشوهها العشوائيات و البناء الفوضوي و الطرقات الضيقة و غير المرصوفة .. و طريق الألف ميل يبدأ بالخطوة الأولى ...

البديل الثالث : ـ ما مدى تأثير الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد الوطني؟

أحمد ولد نافع :

الأزمة المالية العالمية ألقت بكلٌكلها على جميع الاقتصادات الدولية سواء في الدول المتقدمة أو في الدول النامية ومنها موريتانيا .. التي يعتمد اقتصادها على الإعانات المالية في مصادر تمويله بنسبة كبيرة، و ميزانه التجاري (واردات و صادرات) معتمد على الدول التي ضربتها، بدرجات متفاوتة ، الأزمة المالية العالمية .
و هنا نذكر أن الجهات المانحة للمعونة الدولية قد طالبت الدول المتقدمة بزيادة مخصصات سيولتها للدول النامية حتى لا تتضرر برامج و استراتيجيات التنمية .


البديل الثالث :ـ في ظل تزايد الحديث عن زيادة مؤشرات حقول النفط الإنتاجية في الأسابيع الماضية بنسبة 70% هل ترون أن للنفط إذا ما تم استغلاله بشكل أمثل المساهمة في التخفيف من حدة الأزمة المالية التي يمر بها العالم؟

أحمد ولد نافع :

أحيلكم إلى ما سبق لي قوله للجزيرة " نت" في إحدى مقالاتي التحليلية حول النفط و مأزق التنمية في موريتانيا، حيث أكدت أن النفط إذا زادت وتيرته الإنتاجية في موريتانيا فإنه قد يعيد تشكيل الاقتصاد الموريتاني من اقتصاد يتسم بالعجز إلى اقتصاد الوفرة المالية، و بالتالي قد يشل رافعة تستند إليها التنمية في موريتانيا، ولكنه أيضا قد يتحول من نعمة إلى نقمة ، كما حصل في كثير من البلدان ، إذا تم استغلاله بشكل تبديدي و تفاخري .

البديل الثالث :هل بالإمكان التحكم في أسعار المواد الغذائية بصورة دائمة، ودون أن يؤدي ذلك إلي إفلاس الخزينة العامة لا قدر الله؟

أحمد ولد نافع :

نعم يمكن التحكم بأسعار المواد الغذائية بصورة دائمة إذا ما تم تفعيل آليات ووسائل الرقابة المناسبة ، ولا علاقة لذلك بإفلاس الخزينة العامة ، إنه محاولة لتحييد تأثير ارتفاع الأسعار على النسبة العريضة من الشعب الذي يشكو في غالبيته من الإملاق و الفقر البائس ، و تتبع الدول مثل هذه الإجراءات الاجتماعية من أجل تحسين الأوضاع المعيشية للغالبية العظمي التي أفقرتها الليبرالية المتوحشة و سياسات السوق الحر المكارثية ، وهناك دول رأسمالية عديدة تتدخل بهذه الآلية من أجل ضمان آلية حقيقية للسلم الأهلي ، الذي هو مقدمة ضرورية و لازمة للتنمية الحقيقية .

البديل الثالث :كيف تنظرون لمستوى التنمية الاقتصادية في البلد الآن؟

أحمد ولد نافع :

مستوي التنمية لا يزال دون المستوى المطلوب ، ومن المعيب أنه بعد قرابة خمسة عقود من محاولات التنمية لا تزال بلادنا تعاني من الجهل و الفقر و التخلف في بناها الاقتصادية والاجتماعية، وقد خطت دول مختلفة مجاورة خطوات جدية على درب التنمية الحقيقية، و ليست لديها وسائل استثنائية أو أسطورية لإنجاز ما أنجزته ، بينما في موريتانيا توجد موارد و مدخلات عديدة للتنمية ( كالثروة الحيوانية و المناجم المعدنية و الشواطئ السمكية ..الخ)، ودعم مالي دولي ناهز الأربعة مليارات دولار على الأقل خلال العقود السابقة ذهبت كلها أدراج الرياح ولم تستفد منها التنمية الحقيقية شيئا مذكورا ، و لا يزال الطريق شائكا و طويلا أمام الموريتانيين من أجل التنمية التي تزداد أعباء إنجازها ساعة بعد ساعة ..

البديل الثالث :ما هو تصوركم للسيناريوهات المستقبلية للخروج من الأزمة؟

أحمد ولد نافع :

للخروج من الوضع الراهن في موريتانيا ، فلا بد من أن يتنادى كل الموريتانيين إلى التحاور و التشاور حول راهن موريتانيا و مستقبل أيامها ، و لا مشكلة في تباين مداخل الحل بل بالعكس فإن ذلك مصدرا للإثراء و التنويع المفضي إلى خلق حالة من الوعي الوطنى الشامل بحقائق الأمور المختلفة ، هذا هو السيناريو الداخلي للوضع الموريتاني ، و بديله هو السيناريو الخارجي الذي يجب الابتعاد بالوضع الموريتاني عنه، وخصوصا أن تجارب الدول التي جربت التدخل الخارجي لا تسر صديقا أو عدوا، و كان الأحرى بالسياسيين الموريتانيين أن يكونوا علي وعي بذلك وهم يجوبون عواصم العالم لتدويل الأزمة الموريتانية والمطالبة بعقوبات وحصارات لن تضر إلا الشعب الموريتاني وفئاته التي لا حيلة لها.

28 أكتوبر 2008

تحليل النظريات الاقتصادية للدكتور بول كروجمان

بول كروجمان " تحليل النظريات الاقتصادية ". PAUL KRUGMAN “ THE ACCIDENTAL THEORIST” ترجمة : رانيا محمد عبد اللطيف الناشر : الدار الدولية للاستثمارات الثقافية – القاهرة – مصر عدد الصفحات : 270 صفحة . تاريخ الطبعة العربية : نهاية 2007 . 
 عرض  و قراءة – الدكتور أحمد ولد نافع

27 سبتمبر 2008

الثقافة العربية الاسلامية و تأثيرها في السودان الغربي

كتاب الثقافة العربية الاسلامية و تأثيرها في السودان الغربي ..

دراسة في التواصل الحضاري العربي الافريقي

تأليف الدكتور مطير سعد غيث ( بيروت ، دار المدار الإسلامي ، 2005) تقديم / أحمد ولد نافع - باحث وأكاديمي موريتاني. 

يعتبر هذا الكتاب من أحدث المراجع العلمية الرصينة ، التي أهداها إلي مؤلفها ، و تناولت موضوعا متميزا عن " الثقافة العربية الإسلامية وتأثيرها في مجتمع السودان الغربي " .. و قد يعود تميز هذا المرجع و جدارته العلمية و صرامته المنهجية إلى كونه في الأصل كان موضوعا لأطروحة علمية نال بها صاحبها درجة الدكتوراه ، مع مرتبة الشرف ، في التاريخ من قسم التاريخ بمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة .

11 سبتمبر 2008

بعض دلالات التعويض عن الاستعمار الايطالي للجماهيرية

لقد بدأ العهد الاستعماري بالتزامن مع حركة الكشوف الجغرافية الهائلة، في القرن الخامس عشر الإفرنجي وما تلاه، التي وسمت عالم ما بعد تأسيس الدولة الوطنية في أوروبا، وقد حمل شعارا مخادعا ' رسالة الرجل الأبيض في نشر الحضارة '! ولا يخفي ما في ذلك الشعار من افتئات على الحقيقة وتنكّب لها، حيث يتم تصوير ثقافات وأفكار وقيم باقي شعوب الأرض وكأنها 'منتجات بربرية خالصة' بحاجة إلى التمدين والتحضر!

18 أغسطس 2008

الأمة العربية .. إلى أين ( 1 - 2) ؟؟

غمرتني السعادة و أنا أتلقى الدعوة من الأستاذ الدكتور ابراهيم أبو خزام أمين اللجنة الشعبية لجامعة ناصر الأممية الليبية بخصوص المشاركة في المائدة المستديرة للاساتذة العرب في دورتها الثامنة عشرة ( 23 - 28 /7/ 2008 ) و فعاليات المسابقة العلمية للطلاب العرب في داخل الوطن العربي و خارجه ، وهما سنتان حميدتان دأبت الجامعة التي تحمل إسم الزعيم الخالد جمال عبد الناصر على أدائهما سنويا بالتزامن مع الاحتفال بذكرى ثورة يوليو 1952 ..

و قد شكلت الدورات السابقة للمائدة المستديرة فرصة رائعة للنقاش الحر و المسؤول بين المثقفين و المفكرين العرب من أساتذة الجامعات العربية ، و من مختلف المدارس و الأجيال الفكرية و العقائدية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، يلتقون في المائدة حول هموم الأمة و قضاياها الحالية و المستقبلية ، و قد واكبت مواضيع المائدة حالات المد و الجزر التي شهدتها الأمة منذ الاحتلال العراقي للكويت ، و التواجد الأطلسي في الخليج ، و غزو العراق و احتلاله و إسقاط نظامه و إعدام قياداته الوطنية ، و الوضع الفلسطيني ، و الشرق أوسطية ، و العولمة و تداعياتها عربيا ودوليا ..الخ و أمام تنوع الموضوعات و شموليتها الفكرية و الثقافية لم يبقي لدورة هذه السنة إلا السؤال الحضاري : الأمة العربية إلى أين ..؟

تساؤل يختزل سؤالات الهوية و الوجود في عصر التكتلات و الفضاءات العملاقة التي يبدو أنه بدأت ستسم الألفية الحالية بميسمها ، كما أنه يومئ إلى حالة الأمة العربية التي وصلت إليها في هذه المرحلة العصيبة ، وأوطانها عاجزة عن النجاة انفراديا وبدا أن الحل القطري أعجز عن تقديم الحلول للمشاكل المستعصية للإنسان العربي : فقرا و جهلا و بطالة وتبديدا للموارد و الإمكانيات ..!

وقد كانت مائدة هذا العام متألقة بامتياز بالنظر إلى حجم المشاركات ( التي فاقت الستين بحثا و دراسة ) الثرية و المتنوعة تنوع المواضيع الفرعية للمائدة سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا ، كذلك نوعية المستهدفين بالمشاركة من أسماء لامعة عربيا فكريا وثقافيا ممن لا يزالون يرفدون الساحة العربية بأعمالهم الجادة علميا و منهجيا .. و مع أن بعض الأساتذة العرب الكبار قد تغيب عن تقديم عمله مثل الفيلسوف العربي المصري حسن حنفي ، إلا أن غالبية المشاركين حرصت على الحضور و المشاركة بفاعلية في أعمال المائدة المستديرة. ومن موريتانيا فإن الدعوة وجهت إلي عديد الأساتذة و المفكرين الذين حالت ظروف بعضهم دون المشاركة ، وبالرغم من ذلك فإن هناك من شارك بإسم موريتانيا ، ومنهم كاتب السطور الذي شارك ببحث عن التكامل الاقتصادي العربي الافريقي ، و الاستاذ أحمد الوافي رئيس منتدى الفكر و الحوار الذي شارك بورقة بعنوان : الأمة العربية أمة ولدت من رحم الصحراء ، و الإعلامي الموريتاني محمد محمود ولد محمد أحمد رئيس تحرير جريدة الإخبارية المستقلة ..

يتواصل

28 يوليو 2008

تكريم صاحب المدونة لتفوقه في نيل الدكتوراه في الاقتصاد




كرمت أكاديمية الدراسات العليا في حفل بهيج بمقرها في منطقة جنزور " شهداء سيدي عبد الجليل" بالعاصمة طرابلس بالجماهيرية الليبية، الأستاذ والباحث الموريتاني أحمدا ولد نافع (صاحب المدونة)، لنيله درجة التفوق العلمي و اكتساب درجة الإجازة الدقيقة "الدكتوراه " في شعبة الدراسات الاقتصادية، من قسم الدراسات الإقليمية في مدرسة الدراسات الإستراتيجية و الدولية بالأكاديمية ، عن بحثه الموسوم بــ:" تحليل اقتصادي لدوال الاستهلاك في الاقتصادات الافريقية مع التركيز على موريتانيا و جنوب إفريقيا خلال الفترة 1970-2004 " ، حيث تم إهداء درع التفوق و ميدالية ذهبية إلى الباحث ضمن الحفل الذي نظم في طرابلس لهذا الغرض بحضور شخصيات عربية يتقدمها رئيس اتحاد الجامعات العربية الدكتور صالح هاشم الذي سلمه الجائزة .. بالإضافة إلى مدير عام الأكاديمية الأستاذ الدكتور صالح ابراهيم المبروك ، و الدكتوره حنان يوسف أمين المنظمة العربية لحقوق الانسان ، وعدد من الضيوف و الشخصيات العامة ومدراء فروع الأكاديمية في مصراتة و بنغازي .
كما نال زميله الأستاذ محمد الأمين ولد أحمد جدو ولد عمي نفس الجائزة من الأكاديمية عن بحثه :" نشاط الشركات المتعددة الجنسية و التنمية في إفريقيا دراسة على مصر و تونس .." .
يذكر أن هذا التكريم  يأتي ضمن احتفالية كبرى تقيمها الأكاديمية لأول مجموعة من تسعة خريجين استطاعوا إكمال و إنهاء برنامج الدكتوراه ( الإجازة الدقيقة ) في أكاديمية الدراسات العليا الليبية التي احتفلت بتخريج الدفعة الثانية عشرة البالغ عددها سبع مائة وستة عشر طالبا و طالبة تحصلوا على الإجازة العالية الماجستير في شتى التخصصات الإنسانية و التطبيقية .
ومن المعلوم أن أكاديمية الدراسات العليا هي أول مؤسسة جامعية عربية متخصصة في برامج الدراسات العليا فقط  ومؤسسة بقرار من أمانة اللجنة الشعبية العامة للتعليم و البحث العلمي  ( وزارة التعليم ) سنة 1995 م  رقم 996  ، وهي عضو الاتحاد الدولي للجامعات و اتحاد الجامعات العربية ، وتأسست في البداية  كمعهد للعلوم الإدارية و المالية منذ سنة 1987 قبل أن تتحول لاحقا إلى أكاديمية للتعليم العالي .

25 يونيو 2008

في عاصمة الفاطميين - الحلقة الأخيرة

بالرغم من أن الهدف الرئيس من الزيارة إلى أرض الكنانة هو هدف علمي وبحثي بالدرجة الأولى ، إلا أنه ما كان لي أن أفوت هذه الفرصة الكبيرة دون أن أتواصل فكريا و سياسيا مع نماذج هامة من النخب السياسية الوطنية المصرية ، وخصوصا الذين كنت على صلة و معرفة بهم بطريقة أو بأخرى .. فكثيرا ما ألتقي ضمن مناشط علمية وفكرية بعلماء و سياسيين ومثقفين من مختلف الساحات العربية و الإسلامية ، ومن بينها مصر ، ولهذا ربطتني بالكثيرين من المصريين علاقات وثيقة هي بالنسبة لي مصدر اعتزاز و إلهام ..!
في ضيافة عبد الناصر
ومن الشخصيات المصرية الرفيعة التي تعرفت عليها هو الدكتور عادل عبد الناصر حسين ، و هو الأخ الشقيق للزعيم العربي القومي ، بل و الإنساني الكبير ، الراحل جمال عبد الناصر ، وبالتالي كانت الزيارات إلى مصر هي في الواقع زيارة لبلد هذا الزعيم الخالد . وقد استقبلني الدكتور عادل عبد الناصر بحفاوة بالغة وكرم عربي أصيل ، و رافقني إلى قبر الزعيم ومسجده في منشية البكري ، حيث وصلناه في عصر يوم جمعة و قرأنا الفاتحة على روحه ، وهنا تذكرت مطلع القصيدة الشهيرة للعلامة المعروف الشيخ عبد الله ولد الشيخ المحفوظ ولد بيه ، مؤسس و رئيس المركز العالمي للتجديد و الترشيد في لندن والأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز بجدة ، التي يرثي فيها عبد الناصر ، حيث يقول :
هذا جمال صامت في قبره و الصمت أبلغ حين يعيى المنطق
وغير بعيد من ذلك ما رثاه به الأديب و الشاعر الراحل شغالي ولد أحمد محمود الشنقيطي الذي يقول في قصيدة طويلة :
نفخ أصاب الأرض أم زلزال لم لا وقد ذهب الرئيس جمال
ذهب الذي هو قوة وشجاعة وشفاعة وجلالة وجمال
وفي نفس المنوال قال الشاعر العربي السوري الراحل نزار قباني بلغته الشاعرية الأخاذة :
زمانك بستان وعصرك أخضر وذكراك عصفور من القلب ينقر
ملأنا لك الأقداح يا من بحبه سكرنا كما الصوفي بالله يسكر
دخلت على تاريخنا ذات ليلة فرائحة التاريخ مسك وعنبر
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهي و تأمر
ومن الأشياء اللافتة عند الضريح هي سجل الزيارات الذي يوثق فيه الزائرون انطباعاتهم عن حال الأمة بعد زعيمها ، وبتصفح هذا السجل يجد المرء قادة وعسكريين ومفكرين ومثقفين من مشارق الأرض و مغاربها ، وكلهم على قلب رجل واحد أن الأمة ثكلت برحيل هذا القائد الكبير وهو في قمة صموده وجهاده وشعاره "أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها " ، و " ارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستعباد .." !
و أمام هذه اللحظات المؤثرة لا يمكن أن يغيب عن البال حركة الكفاح التحرري العربي التي أرغمت الاستعمار التقليدي على أن " يحمل عصاه على كاهله ويرحل " من الجزائر وباقي مناطق إفريقيا وآسيا و أمريكا اللاتينية ، و تأسيس عدم الانحياز في باندونغ 1955 ، والعدوان الثلاثي على مصر 1965، و سنوات التحدي و الكبرياء للعرب و للشعوب المستضعفة .. سنوات كان فيها العربي يلقي الاحترام و التقدير أينما حل في العالم شرقه أو غربه ، وكان عبد الناصر يتحرك على مساحة الدوائر الثلاث العربية و الإفريقية والإسلامية .. وبغض النظر عن تقييم تاريخه و أدائه في السلطة و الحكم ، الذي كان محكوما بظروفه الذاتية و الموضوعية ، فإن الأعداء شهدوا أن عدوهم عبد الناصر كان عدوا شهما وشريفا ، ولهذا ليس غريبا أن يصرح وزير الدفاع الفرنسي السابق " ميشال جوبير" لو كنت عربيا لكنت ناصريا "!!
ومن نافلة القول إن الزعيم جمال عبد الناصر يلقي في موريتانيا ، كغيرها من الدول العربية والإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية ( الرئيس الفنزويلي هوغوتشافيز قال في لقاء خاص مع قناة الجزيرة إنه : ناصري!) ، يلقي احتراما و تقديرًا متعاظمين وباقيين منذ ظهوره على المسرح السياسي العربي في بداية الخمسينيات ، حيث اعتبرته الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج تجسيدا لطموحاتها في الحرية والعزة و الكرامة ، لأنه كما قال المفكر ساطع الحصري " رجل اتسعت همته لآمال أمته " ، و مع أن الفترة التي ظهر فيها جمال عبد الناصر و إذاعة صوت العرب كانت موريتانيا لا تزال تدار سياسيا و تنظيميا من الإدارة الاستعمارية الفرنسية في " سينلوي " ( : اندرْ ) في شمال السنغال و لم تنل استقلالها بعد ، إلا أن البدو الرحل في كافة أنحاء بلاد شنقيط (أو مستعمرة موريتانيا) ، كانوا متابعين جيدين للتطورات المتسارعة التي يشهدها المشرق العربي منذ ثورة 23 يوليو 1952 ، وكان مجرد إعلان إذاعة صوت العرب بحنجرة الصحفي القدير الشهير" أحمد سعيد " عن قرب إذاعة خطاب للزعيم الكبير كفيل بأن يلغي الحي البدوي مراسم الارتحال إلى مكان أكثر خصوبة ومرعى ، خوفا من عدم إمكانية متابعة ما سيقوله عبد الناصر في خطابه من مواقف سياسية أوفكرية .. ولذلك انتشرت أسماء " جمال " في مواليد الستينيات في موريتانيا ، بل و أكثر من ذلك فإن تاريخ 28 سبتمبر 1970 بات جزءا من التقويم المحلي للموريتانيين ، فأصبح ببساطة " عام وفاة جمال "!! فأصبح يحال إليه و تثبت به عقود الميلاد و تقرب منه الأحداث الأخرى الجليلة أو تبعد .. هذه هي الصورة التي رسمها الموريتانيون لجمال عبد الناصر و عهده في مخيالهم الشعبي ، وذلك قبل أن يعترف بهم العرب في جامعتهم العتيدة في سنة 1973 بعد وفاة عبد الناصر بثلاث سنين ، وقد اعتذر الزعيم عبد الناصر للرئيس المختار ولد داداه ، كما قال لنا ذات مرة على هامش قمة سرت التي انبثق عنها إعلان الاتحاد الإفريقي 9 – 9 – 99 ، و أثبتها في مذكراته ، أنه لم يكن مطلعا على حقيقة الشعب الموريتاني ، وأصالته العربية الإفريقية ، وقد وعد بزيارة انواكشوط ( وهذا سرّ التسمية الاستباقية للشارع الرئيسي في العاصمة انواكشوط على جمال عبد الناصر ، كتعبير عن الترحيب الكبير بالزيارة و الاستعداد لها رسميا و شعبيا ) ، ولكن تداعيات النكسة الأليمة وحرب الاستنزاف و" إزالة آثار العدوان"! ، و أيلول الأسود لم تدع فرصة لعبد الناصر حتى أتاه اليقين قبل زيارة موريتانيا وعمره لم يتجاوز يوم رحيله اثنان و خمسين عاما ..رحمه الله...

الكزرات على الطريقة المصرية
تعرض الأفلام المصرية جوانب مختلفة و متباينة من حياة الشعب المصري ، وذلك في الموضوعات التي تتناولها ، وقد شاهدت في أحد هذه الأعمال المصرية فيلما يحكي عن " المساكن في المقابر" ، وهو ما لم أصدقه للوهلة الأولى ، واعتبرته نوعا من النقد الدرامي القوي لأزمة السكن و غلاء المعيشة في مصر لا أكثر ، غير أنني و بعد زيارتي لمصر وجدت الأمر خاليا تماما من المبالغة و التهويل ، إذ تجولت في " مدينة الأموات و الأحياء" في قلب قاهرة المعز لدين الله ، حيث تفاجأت بدبيب الحياة في المدينة الميتة ، مئات الأسر و العوائل ، إن لم يكن أكثر ، يقيمون سنوات عمرهم في المقابر .. يلاحظ المرء أسرة بكامل أفرادها تقيم في منزل تعلوه عبارة " مدفن فلان الفلاني ".. شيء أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع .. ولكنه الواقع المرير .. وحين تجاذبت أطراف الحديث مع سيدة عجوز عن ظروف الإقامة ، فإنها لم تبدى تذمرا و حنقا ، بل إنها قالت إن هناك من يبيتون ليلهم تحت الكباري و الجسور و في النهار يدورون على وجوههم على غير هدى دون أن يكون لهم بيت يأويهم قرص الشتاء ولفح القيظ .. فتنهدت ، وعلمت أن " الكزرات " أو الأكواخ القصديرية التي تسوّر العاصمتين انواكشوط و انواذيبو ربما تكون أرحم بكثير ، من العيش المذل المهين في هذه المقابر الجماعية ، التي ضاقت بها الحياة و أهلها ، الأخيرون الذين أرادوا أن يشوشوا على سكونها الأبدي بهرجهم و صراعهم الأسطوري من أجل البقاء بعيدا عن عالم الأموات الذي لابد لاحقوه وإن طالت أيامهم عمر نوح عليه السلام ، أو هو نوع من تقريب المسافة بهذا العالم المستقبلي ، أو دورة متقدمين و طلائع للتهيؤ لعالم الأموات ما دام عالم الأحياء يضن عليهم بأن يطعمهم من جوع أو يوفر لهم مسكنا لائقا بالأحياء وليس الأموات ..!

دفاع عن المرحلة الانتقالية
وقد أتاحت لي الزيارة اللقاء بنخب سياسية من الوزن الثقيل ، ومن بينهم رؤساء أحزاب و مرشحين لرئاسة الجمهورية ، أظهروا لي إعجابا رأيته مبالغا فيه بطبيعة الانقلاب العسكري في الثالث من أغسطس 2005 ، واغتنموا فرصة حضوري معهم باعتباري " من أهل مكة .."! من أجل شرح ملابسات و أهداف هذا الانقلاب و دوافعه " الحقيقية " ، ووجدتني منساقا للدفاع عن المرحلة الانتقالية ، مؤكدا على أن ما حدث " علامة فاصلة " في تاريخ موريتانيا ، وربما شبه المنطقة أو العالم الثالث ، حيث من شبه المستحيل عموما أن يحدث انقلاب على الحكم لا يريد منفذوه " الحيلولة " في السلطة ضد من كان فيها ليذوقوا طعمها ويتمتعوا بها ما تيسر لهم ذلك ، إلى أن يضيق آخرون ذرعا وينقلبون على أسلافهم .." كلما دخلت أمة لعنت أختها .." ، وقد كان في وعد المجلس العسكري بأنه لن يترشح أي من أعضائه أو حكومته الانتقالية دليلا على حسن النوايا ، ثم تصحيح الخلل الدستوري الذي كان يمكن من خلاله للرئيس أن يستمر مدى الحياة ، واستبداله بدورتين رئاسيتين فقط على الأكثر ، ..و غير ذلك من البشائر التي كانت كلها تؤكد على أن موريتانيا تنوي أن تقدم تجربة متميزة في مجال الديمقراطية التعددية السلمية .. و أكد أحد المسؤولين المصريين أن التجربة الموريتانية ، إذا نجحت ، قد تلهم الكثيرين للسير عليها من أجل تخليص بلدانهم من أدران الديكتاتورية والتسلطية . في حين ذهب آخر إلى أن الحركة الشعبية المصرية من أجل التغيير ( المعروفة اختصار بـ كفاية ) بدأت تضيف موريتانيا إلى شعاراتها السياسية ، حيث يكتبون ويهتفون :" موريتانيا يا موريتانيا خللي الجيش يخلصنا تانية .."!

موريتانيا : بريطانيا .. أهلا وسهلا!!
يشكو كثير من الموريتانيين حين يشيرون بمرارة إلى التجاهل العربي لهم ، وربما هم مساهمون في ذلك ومقصرون في تقديم أنفسهم بالشكل السليم أو ربما أن العرب لم يهضموا بعد أن الموريتانيين هم ورثة الشناقطة الذين يكنّ لهم العرب و المسلمون كل مودة وإكبار ، ولم أتصور أن ينالني نصيبي من ذلك .. وقد كان !
حدث ذلك حين عزمت على حجز موعد سفري على طريق القاهرة طرابلس ، وحين وصلت مكتب الخطوط الجوية العربية الليبية في ميدان طلعت حرب ، فوجئت بطابور من المسافرين ينوون إنهاء إجراءات حجوزاتهم ، وحين وصول دوري أخذت الموظفة المصرية الخمسينية جواز السفر و قرأته هكذا " أحمد وليد نافع " ، فصححت لها الاسم وهو ما تسبب في إزعاجها فأردفت " حضرتك من فين " ، فأجبت من موريتانيا ، فهزت رأسها بريطانيا أهلا وسهلا .. بس غريبة ! وما شاء الله عليك تتكلم عربي كويس..!!
فقلت لها نحن أهل العربية ..موريتانيا وليس بريطانيا ..دولة عربية ، فلاحظ رئيس الوردية الليبي غضبي من موظفته وقال لها : " هؤلاء يتكلمون العربية أفضل من جميع العرب الآخرين".. فاعتذرت قائلة إنها ، ربما نسيت ، و أنها لم تسمع أو تقرأ شيئا عن موريتانيا ..!
غير أن ذلك ليس قاعدة ، فقد التقيت ومعي الدكتور إسماعيل رئيس اتحاد الطلاب الموريتانيين بالقاهرة ، وكنا نسير في شارع طيبة بالمهندسين ، حيث التقينا صدفة بالفنان المصري طلعت زكريا ، فنبهني له ولم انتبه بداية ، مع أنني لا أجهل أدواره الكوميدية في أفلام عديدة منها : " حاحا و تفاحة " و آخرها " طباخ الرئيس" ، فقلت له لنسلم عليه ، فأظهر لنا بشاشة وترحيبا ، وحين سؤالنا إياه عن " هل تعرف موريتانيا " ، قال بالتأكيد ، وبأسلوب الدارجية المصرية المازحة " و ده كلام برضو .."

مصر هبة النيل
هكذا رأي الأقدمون أن النيل قد وهب مصر الحياة بجريانه الدائم فيها من جنوبها إلى شمالها ، و الذي بدونه ستكون الحياة صعبة إن لم تكن مستحيلة ، ويحرص القاهريون و زوار مصر على رحلات ليلية في " مراكب النيل " ، حيث تكفي جولة أو جولتين في هذه المراكب البحرية الصغيرة ، ليأخذ الإنسان فكرة عن ليل هذه المدينة العريقة التي لا تنام ..
وبمجرد أن تعطي التعريفة المطلوبة لا بد أن تنتظر حتى يكتمل العدد الإجمالي للحمولة ، أو إذا كنت من الموسرين ، فعليك أن تدفع مصروف الحمولة ، وذلك من أجل أن يتمكن المركب من الإبحار بك في جولة في نهر النيل تتنسم فيها عبقه وتدرك أهميته للمصريين قديما وحاضرا ومستقبلا .. وقد تستمع داخل هذه المراكب بنماذج من الأغاني التقليدية لأم كلثوم أو عبد الحليم ،أو محمد عبد الوهاب ، وقد يجبرك المشرف على المركب بأن تستمع لأغاني متواضعة ذوقا وحسا فنيا من عينة " ليك الواوا ..!"
وما عليك إلا الصبر حتى يئوب المركب الصغير إلى مرساه بعد هذه الرحلة السياحية الصغيرة التي تطل فيها على جهات وجوانب من مدينة القاهرة على جنبات النيل الخالد .
وفي ختام الزيارة ، لا يمكن أن أنسى مستوى الأريحية التي يلاحظها زائر مصر من الشعب المصري بعامة ، وهو الذي يتميز بالبساطة و التواضع الكبير و تقدير الضيف و الغريب ، أما النخب المصرية في مراكز الأبحاث و الجامعات فإنهم متجاوبون إلى أبعد الحدود ، وهنا أسجل التسهيلات التي لقيتها من مكتبات جامعة القاهرة كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ، ومكتبة الدراسات العليا بجامعة عين شمس ، ومكتبة الدراسات العليا بكلية التجارة جامعة الإسكندرية ، ومكتبة الإسكندرية الكبرى ، ومكتبة معهد التخطيط القومي ، ومكتبة الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي و التشريع و الإحصاء ومقرها قرب الشهر العقاري ونقابة المحامين و جمعية الشبان المسلمين .. كل هذه الجهات ضربت مثلا في التعامل الإنساني مع ضيوف القاهرة ، وبذلك لم يخب الظن في مصر أبدا .. التي قدرها أن تظل في قلب هذه الأمة قاعدة وقائدة ورائدة ..كان هذا في التاريخ الفرعوني و الإسلامي و الحديث ، وهذا حكم التاريخ والجغرافيا .. فلا مستقبل لمصر دون أمتها ، شاء من شاء و رفض من رفض..أتمنى أن أزور أرض الكنانة في ظروف أفضل لست فيها مقيدا بالبحث العلمي و سرايا معرض القاهرة الدولي للكتاب حتى أعيد اكتشافها دائما و أبدا ..فتحية لمصر و أهلها الذين هم أهلنا و إخوتنا ..ولنا فيها نسبا وصهرا كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .

نقلا عن موقع صحراء ميديا :

http://www.saharamedia.net/new/index.php?option=com_content&task=view&id=1275&Itemid=36

24 أبريل 2008

ملفات الزمن الهارب (3) : عند ملتقي النيلين في الخرطوم!

لا يمكنني وصف الحبور الذي انتابني وأنا أتلقى دعوة المشاركة في ورشة قضايا التعليم فوق الجامعي في الوطن العربي التي نظمتها وأشرفت عليها جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا .. حيث إن تلك الدعوة ستتيح لي فرصة زيارة السودان الحبيب الذي أكن له منذ صغري تقديرا خاصا ، وذلك بعد أن علمت من والدي العلامة الفقيه الراحل إدوم ولد نافع ، قدس الله سره ، أن هذا البلد كان قنطرة الحجيج الشنقيطي الميمم للأراضي المقدسة في الحجاز.. فمن تجربة الوالد في خمسينيات القرن الفارط ، الذي أكمل دراساته التعليمية المحظرية بعد حفظ القرآن الكريم ومتون الفقه المالكي السائدة في البلاد الشنقيطية .
فإن حُلم الشباب العربي المسلم هي الاستزادة من العلوم وتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج .. وقد كان التفكير في هذا الأمر في مجتمع البادية في أرض الحوض الشرقي ضربا من التحدي الذي لا يوفق الكثيرون في ردّه والخطر الذي يهلك دونه الآلاف ، نظرًا لوعورة الطرق التي تتشعب لتشمل أقطارًا افريقية ( مالي – بوركينا فاصو – النيجر – تشاد – السودان – مصر) ، و تنطوي على الملمّات التي جعلت بعض الفقهاء يفتون بحرمة الحج في مثل تلك الظروف الصعبة العسيرة ..!
وحين عزم الوالد في يفاعته وفتوته – وفي سرية تامة عن الأهل والأحبة الذين يرون في الأمر إلقاءً بالنفس إلى التهلكة - الالتحاق بركبٍ من الحج شمل قافلة من أشتات القبائل رجالا ونساء .. أكمل القليلون منهم رحلة التحدي المقدسة ووصلوا إلى السودان بعد أشهر قاربت السنة من السفر على الأقدام .. ولأنه لم يكن يتوفر على أوراق ثبوتية مدنية ، على غرار الجميع في ذلك الوقت ، – كان هذا قبل ميلاد الدولة الموريتانية في سنة 1960- فإن السلطات الانجليزية منعته من مواصلة الرحلة ، مما اضطره ، بمشورة من مجرّبين ، إلى أداء خدمة وطنية في الجيش السوداني مدتها ستة أشهر ، تكللت ببطاقة تعريف وطنية سودانية مكنته من تحقيق حلم العمر في الوصول إلى الديار المقدسة وأداء فريضة الحج والنهل من العلوم العربية والإسلامية المنتشرة في مكة والمدينة في ذلك الوقت .. تلك هي القربي " الاجتماعية " التي جعلت السودان يحتل مساحة كبيرة من التقدير في قلبي ، وعزمت على زيارته وفاءً للدين الذي يدين به الموريتانيون ( والشناقطة عموما ) للشعب السوداني الذي وفّر لهم وِفَادةَ الضيافة التي يستحقونها كفقهاء وعلماء وحجيج إلى بيت الله ، مما شكّل بذرة من التواصل الاجتماعي السوداني الشنقيطي الذي كان من نتيجته وجود مجموعات قبلية مختلفة في السودان الحالي تعود في جذورها الاجتماعية إلى ذلك الرعيل الأول من الحجيج الشنقيطي الذي استطاب العيش في كسلا وواد مدني وكردفان ودارفور و الجزيرة والأبيض وأم درمان والخرطوم ، وقدّم علمه وشيد المحاظر في تلك الربوع العامرة ( أو الخلاوي ، كما تسمي في السودان وتشاد حاليا) لتدريس القرآن الكريم والعلوم العربية و الفقهية الإسلامية ..نزلت في مطار الخرطوم في ليلة رأس السنة الميلادية 2005 وفي ذاكرتي كل تلك الصور التاريخية المشرقة ، وحين قدمت جواز سفري لموظف المطار لختم علامة الدخول ، فوجئت به يقول لي :" وين الفيزا يا زول .. أنت موريتاني .."!! والزول تعني : الرجل بالدارجة السودانية المحلية .
لم أكن أعلم أن العلاقات الدبلوماسية الموريتانية السودانية مقطوعة منذ منتصف التسعينيات ، وأنه من اللازم على مواطني كلتا الدولتين الحصول على تأشيرة دخول مسبقة ، فأوضحت له إنني في زيارة عمل للسودان بدعوة من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في الخرطوم .. وأن أحد مسئولي الجامعة سيكون في انتظاري في الصالة ريثما أنهي إجراءات الدخول . . فاعتذر بضرورة إخبار مسؤول وردية المطار الذي قابلني بحرارة مؤكدا أن :" الزول ده لازم يرجع على الطيارة .. لأنو من غير فيزا .."!!
وبعد القيام باتصالات بمسئولي الجامعة الذين تأخروا لزحمة العاصمة الخرطوم بتخليد احتفالات رأس السنة الإفرنجية وكل الطرق المؤدية للمطار القابع في وسط العاصمة أصبحت معطلة أو شبه مقفلة بالكامل ..اعتذروا عن الخطأ غير المقصود بالطبع .. وقاموا بعمل المشاورات اللازمة مع وزير التعليم ووزير الداخلية ..!! . وفي ذلك الأثناء غادرتْ الطائرة التي جئت على متنها .. وكان لزاما عليّ قضاء ليلة ليلاء على مقاعد انتظار مطار الخرطوم الدولي ..
وفي الصباح الباكر تم تجاوز المشكلة ، وصحبني مضيفي البروفسور" عبد العزيز" مع تقديم الاعتذار اللازم عن هذا الخلل الذي كان بالإمكان تفاديه بمجرد الانتباه إلى موضوع الروابط الدبلوماسية " المعطّلة" بين الخرطوم و انواكشوط .. وكانت الورشة فرصة لتبادل الرأي والأفكار حول مشكلات وقضايا التعليم فوق الجامعي في البلاد العربية ، حيث حضره مفكرون وأساتذة من عدة جامعات سودانية وعربية قدموا زبدة أفكارهم وعصارة مقترحاتهم في سبيل تجاوز التحديات التي يواجهها التعليم العالي في الجامعات العربية ، وعلى هامش الزيارة وبعد انتهاء الورشة ، فإن مقامي في فندق الميريديان في وسط الخرطوم أتاح لي فرصة التجوال الحر مع شارع الإمام المهدي وزيارة كلية الطب – جامعة الخرطوم التي فوجئت بحجم الإعلانات والبيانات والملصقات التأبينية لمنفذ عملية معسكر الغزلان للقوات الأمريكية في الموصل والمنفذة يوم 25 دجمبر 2004 ، حيث استطاع أحد الجهاديين أن يتنكر في لباس عسكري عراقي وتجاوز كل النقاط الأمنية ودخل مع الضباط والجنود الأمريكيين في مطعم يرتادونه للغداء وفجّر نفسه موقعا عشرات القتلى والجرحى بينهم ، وهي عملية مشهورة تابعها الملايين على وسائل الإعلام المرئية ، لم أكن أعلم قبل زيارتي لكلية الطب أن منفذها هو أحمد الغامدي ، أحد الطلبة السعوديين الذي كان يدرس في السنة الثانية في الطب البشري .. واختفي عن كليته وانقطعت أخباره عن زملاءه حتى علموا أنه نفّذ العملية المذكورة .. وهذا هو سر الاحتفاء الكبير به في كليته ومن صحبه الطلبة الذين يرونه بطلا شهيدا قدّم نفسه في سبيل الأمة العربية وضد قوات الاحتلال !
كما أنني عزمت على زيارة ملتقي النيلين الأبيض والأزرق في العاصمة الخرطوم ، حيث إنه من أهم المناظر الآسرة التي لا تفارق الذاكرة ، و عند ذلك الملتقي يتشكل نهر النيل الخالد الذي " وهب مصر" بحسب الأقدمين.. ويعتبر السودان إحدي الدول الواعدة من الناحية السياحية نظرا لانتشار وتعدد المواقع الأثرية، والمناظر الطبيعية الخلابة ، والمحميات البرية ، والحياة البحرية، والبرية خارج المحميات. وتغلب الطبيعة الصحراوية على الجزء الشمالي والشرقي من البلاد، في حين تغطي الغابات والمساحات الخضراء معظم أجزاء الجنوب الذي يحوي أيضا جزءا من النفط والثروات الطبيعية الأخرى.و قد أخبرني البروفسور " الخوجلي" ، أبلغت لاحقا عن إحالته على التقاعد ، الذي زارني في إقامتي وصحبني في سيارته وقمنا بجولة صباحية في يوم الجمعة في ولاية الخرطوم ( أو العاصمة المثلثة حيث تتكون من الخرطوم ، والخرطوم بحري ، وأم درمان) ، أحسن وفادتي في داره في أم درمان وأخبرني أن السودان محاط بتسع دول هي مصر وليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى والكونغو وأوغندا وكينيا وإثيوبيا واريتريا.وتبلغ مساحته مليون ميل مربع 2505810 كيلومترات مربعة، أي أكثر من مساحات بريطانيا وفرنسا واسبانيا وايطاليا وألمانيا وجمهورية أيرلندا وهولندا وسويسرا والبرتغال وبلجيكا والنمسا مجتمعة، بحيث يبلغ مجموع مساحة كل هذه البلدان المذكورة 2504777 كيلومترا مربعا.وعبرنا شارع الشنقيطي الشهير في أم درمان ، وكانت فرصة أحكي له فيها عن الشناقطة الذين كان السودان بالنسبة لهم بشارة الخير في بلوغ الحج ، إذ أن من يصل إليه تكون الطريق أمامه سالكة بعد ذلك لإكمال المهمة المقدسة ، فأخبرني عن دور الشناقطة في السودان وبقاياهم وقبائلهم وتواجدهم ، ومنهم محمد صالح الشنقيطي ، أول رئيس للبرلمان السوداني ، و هو الذي كرمته مدينة أم درمان بتسمية شارعها الرئيسي عليه ، وكذا جامعة الخرطوم في إطلاق إسمه على مكتبتها المركزية ، وهو الذي ساهم مع عدد من الساسة والزعماء في قرار مؤتمر جوبا الشهير ، الذي حدد مصير السودان وكان هذا في عام 1947ف.ومررنا من أمام قبر الإمام المهدي الشهير، الذي يقع مقابل بيت الخليفة المبني من الطوب الجميل عام 1887، وتحول اليوم إلى متحف يتم فيه عرض الصور والأدوات والأسلحة التي استعملت أيام ثورة الإمام المهدي وخليفته عبد الله التعايشي ، ضد الاحتلال البريطاني.
وكانت فرصة تناقشنا فيها عن اقتران اسم السودان خلال العقود الأخيرة بالحروب الأهلية، والأزمات الغذائية، والفقر، بالرغم من أن هذا البلد غني بثرواته البشرية والطبيعية ، والتي قد تعززها أكثر فرص إطلالة السلام، وتدفق النفط... الذي بدأ يضخ في الخزينة السودانية ، وبدأت ثماره واضحة لزائر الخرطوم حيث التغييرات التي بدأت تطرأ على الكباري وتحسينات الطرق المعبدة وتوسيعها ..وبيّنت للبروفسور الكريم أنني لاحظت من خلال التعدد القبلي والتنوع العرقي وجود تشابه كبير بين موريتانيا والسودان ، حيث تنتشر في كليهما القبائل العربية والزنجية .. ويبقي الفارق الوحيد في وجود نسبة مسيحيين 5% ووثنيين 25% ، ومسلمين 70% في السودان ، بينما موريتانيا لم يسجل التاريخ أن عرفت ، منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمان تقريبا ، غير الإسلام السني الأشعري المالكي .!كما تنتشر في الخرطوم تجمعات من المواطنين الذين يسيرون في الشوارع جماعات جماعات ، ولا يترددون حين حلول الأذان في الصلاة حيثما كانوا متجمعين ، وهي ظاهرة تذكرني بمثيلها في العاصمة انواكشوط أيضا وخصوصا قرب الوزارات والمصالح الحكومية ..

وحين عبرنا فوق الجسر المقام على نهر النيل أخبرني البروفسور أن هذا النهر يقطع أكبر مسافاته في الأراضي السودانية أكثر من أي أراض أخرى يمر بها في رحلة الحياة من أوغندا حتى البحر الأبيض المتوسط .وليل الخرطوم من أجمل الليالي التي تبقي في الذاكرة بهدوءه الذي يلبسه ، منذ مغيب الشمس مباشرة ، وخصوصا في مناطق وسط العاصمة ، بعد هوجة النهار وفوضويته بالحركة الدائبة ، غير أن سكون ذلك الليل لا يعكره على زائر العاصمة إلا كثرة الإجراءات الأمنية ( كان هذا قبل توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام مع الحركة الشعبية) ، حيث توجد سيارات الأمن والشرطة عند أغلب التقاطعات المروربة بشكل كبير وملفت لا يجعل بدًّا من الاستفسار عن سبب ذلك ، فيكون الرد الجاهز : أن هذا شيء روتيني وعادي لدي ساكنة العاصمة وأن الأمن خير من انعدامه والبلد لا تحتمل أكثر ..!!
وقد أوقفت سيارة التاكسى التي تحملي في اتجاه مطعم يبدو أنه من أرقى وأنظف مطاعم الخرطوم ويسمى " أمواج" إحدى دوريات الشرطة ، فسألوه في أي اتجاه يسير ، رد عليهم أنه يحمل ضيفا عربيا موريتانيا يزور السودان هذه الأيام ، وأنه سائر إلى مطعم أمواج ، فأخلوا سبيله بعد الترحيب بنا بالقول : " أنت في بلدك السودان.


وتزامنت زيارتي للسودان بإعلان الخرطوم عاصمة للثقافة العربية في سنة 2005 ، وهو حدث فكري وثقافي اهتم به السودانيون شعبا ونخبة عالمة اهتماما بالغا ، بعد الحفل الخطابي الذي أعلن فيه الرئيس الفريق عمر حسن البشير انطلاقة السنة الثقافية العربية في قاعة الصداقة المعروفة في الخرطوم ، بحضور كوكبة من المثقفين العرب من مختلف الأقطار العربية يتقدمهم الدكتور المنجي ابوسنينة المدير العام للمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم ( الآلسكو) ومقرها تونس .
وفي نفس الأسبوع افتتح معرض الكتاب السوداني المصري في نادي الضباط ، حيث زرته لأتقفي آخر الاصدارات السودانية والمصرية ، وكانت المرة الأولى التي أشاهد فيها كتاب الحركة الإسلامية في السودان من تأليف الأخ الصديق والكاتب الكبير محمد بن المختار الشنقيطي ، كما رأيت في أحد الأجنحة كتاب الحقيقة والتاريخ عند ميشيل فوكو للدكتور " الفيلسوف" عبد الله السيد ولد اباه ، وسعدت بأن الكتاب الموريتانيين ، على تواضع حجم منشوراتهم ، يجدون في النهاية الباب إلى المعارض العلمية ، ويسهمون بالتالي في استكمال أدوار الآباء الشناقطة الذين مروا من السودان ذات يوم علماء وفقهاء ودعاة .
ومن أهم المعالم الجمالية للعاصمة الخرطوم مجمع برج الفاتح الاستثماري الذي تقوم بتنفيذه الشركة الليبية للإستثمارات الخارجية كرمز مهم للتعاون الثنائي بين الأشقاء الليبيين والسودانيين .وقد شاهدت جزءا من أعمال التنفيذ لهذا المشروع الاستثماري الكبير الذي يدشّن ، كما أفادني أحد المهندسين السودانيين العاملين فيه ، على مساحة إجمالية قدرها خمسة وأربعين ألف وثلاثمائة وستين مترا مربعا تبلغ المساحة المسقوفة منها ستين ألف متر مربع .
ويضم هذا المشروع الاستثماري الكبير فندقا من فئة خمس نجوم يتكون من تسعة عشر طابقا وثلاثة مراكز خدمية منها مركز تجاري يحتوي على مكاتب فخمة وقاعات عرض وأسواق ومركز لقاعات المؤتمرات ومركز رياضي متكامل بالإضافة إلى سلسلة من المطاعم والمقاهي وموقف سيارات متعدد الطوابق وحدائق وقد صممت واجهة مجمع الفاتح على هيئة سفينة شراعية زجاجية من أجل أن تعكس طبيعة المنطقة النيلية التي يقع فيها المجمع على النيلالأزرق في منطقة الخرطوم. كما أن الإضاءة الليلية للواجهة روعي فيها أن تكون رؤيته البصرية متاحة من جميع المناطق مثل أم درمان والخرطوم بحري...


و من الأحياء الشعبية التي زرتها وذكرتني بموريتانيا منطقة "منطقة اجريف " التي ترقد في أحضان النيل الأزرق وتحدها من الغرب أرقى أحياء الخرطوم ، حيث شبهتها بمقاطعة توجنين في انواكشوط ، نظرا لزحمتها الشديدة وانتشار الأزقة الضيقة الترابية التي تسبب إزعاجا حقيقيا للعربات الهندية ، المستعملة على نطاق كبير في النقل في الخرطوم ، التي كنا نشاهدها في الأفلام الهندية بعجلاتها الثلاثية ومقصورتها التي لا تسع أكثر من ثلاثة أو أربعة أشخاص..
ولا يخطئ المرء الفرق بين الحياة في منطقة اجريف و بين الأحياء الجديدة كمنطقة الخرطوم (2)... التي تأتي على مقربة من دوار الكوكاكولا وتحديدا بشارع دانفوديو حيث الحدائق الخضراء التي تحيط بالفيلات القريبة وعلى بعد دقائق معدودة من الهيئات و الوزارات الحكومية و المستشفيات و المدارس و الجامعات ، وتشتهر بمجمع سكني سياحي يسمي"جوهرة الحجاز" ويبدو أنه عمل استثماري خليجي سعودي ولا يمكن لزائر الخرطوم إلا أن يمر من أمام مبني وزارة الحج و " مركز عفراء سنتر التجاري " ، وهو نشاط استثمار تركي يحوز على تصنيف أكثر المواقع زيارة من السودانيين وضيوفهم في العاصمة الخرطوم ..وفي آخر أيامي في العاصمة السودانية الخرطوم أخذت الوقت الكافي لأتجول في مطار الخرطوم الدولي ، الذي يشبه مطار انواكشوط ، من حيث كونه يقع في وسط العاصمة ويحتاج للتوسعة والتطوير..
وقد تأخرت طائرتنا نظرا لبرمجة زيارة من عشائر وأعيان قبائل دارفور من المقرر أن يستقلوا معنا نفس الطائرة المغادرة إلى طرابلس بالجماهيرية الليبية استجابة لدعوة من الأخ القائد معمر القذافي في إطار جهود التقريب بين الأشقاء والمصالحة لمشكلة درافور" المستعصي"! ، ولم أكن أدرى أن القدر يخبئ لي فرصة رؤية "الشيخ موسى هلال" ، أحد القادة المفترضين بحسب وسائل الإعلام الأمريكية لمليشيا الجنجويد . حيث أشار إلي أحد الجالسين في قاعة انتظار مطار الخرطوم هل تعرف الشخص القادم ، فأجبته لا ! فقال لي هذا : موسى هلال ..ألم تسمع عنه؟؟وجدته رجلا أربعينيا يتشابه في سماته وقسماته وطوله وبشرته النحاسية مع صديقي العزيز ( مع الاعتذار الأخوي) الأستاذ المختار ولد حنده بشكل كبير . سبحان الله ، ، ويخلق من الشبه أربعين!
وبحسب وسائل الإعلام الأمريكية فإن الشيخ موسى هلال يأتي على لائحة تضم خمسة مسؤولين سودانيين كبار متهمين في قضايا الإبادة الجماعية للأهالي في دارفور ومطلوبين للمحكمة الدولية في لاهاي...كنت أتمنى أن تتاح الفرصة لي للاقتراب منه والسلام عليه ، لكن وجوده في الدرجة الأولي (Business class) والإجراءات المشددة في عزله عن الناس العاديين أمثالي ضيعت علي فرصة التحاور معه ومناقشته وقراءة أفكاره .. ربما تأتي فرصة أخرى .. والله أعلم!
ولا يمكن أن أقفل هذا الملف السوداني دون أن أشير لماما إلى المرأة السودانية التي كنت أخالها بحكم القرب الجغرافي أقرب للسلوك المشرقي للمرأة العربية ، ولكنني وجدتها تشبه وضع شقيقتها الموريتانية البدوية التي تعشق الحرية وتأبي الارتهان للروتين و القولبة ، فالمرأة السودانية أقرب إلى سلوك المرأة الموريتانية ، حيث لفتت انتباهي ظاهرة حضورها للحفلات و السمر الليلي ، و لها أن تحجز بارتياح كامل طاولات بإسمها ، فهذه طاولة الآنسة زبيدة ، وهذه طاولة خاصة بالآنسة خديجة .. الخ ، وهو ما لاحظته في صالة أفراح فندق الميريديان الخرطوم ، حيث السهرات التي تنعشها فرق طرب إثيوبية ( أو حبشية كما يفضل السودانيون) ليالي الأحد و الخميس ، علاوة على الحضور اللافت للمرأة السودانية في عالم التجارة و الأعمال المختلفة ، وهو ما أبان عن قوة شخصيتها وثقتها الكبيرة بنفسها ..!


كما تصادفت أيامي في الخرطوم مع إخوة عرب يمثلون جامعات عربية مختلفة تقيم اتفاقيات تعاون وشراكة مع الجامعات السودانية التي تربو على الثلاثين مؤسسة جامعية في أنحاء السودان ، ليس هذا فقط ، بل قابلت عدة طلبة عرب من دول شقيقة كالإمارات والأردن يتابعون دراساتهم في مراحل الماجستير و الدكتوراه في الجامعات السودانية ، وهو شيء جميل ويعني أن هذا البلد العربي الإفريقي راكم حصادا معرفيا مهما يمكن المراهنة عليه في عمليات صنع رأس المال العربي في الألفية الجديدة .
وأخيرا ... تركت السودان وفي قلبي لها معزة كبرى وتقدير لا يوصف ، أتمنى أن أزوره مرة ومرة ومرة أخرى وأتجول فيه دون تعجل من الشرق والجنوب والوسط والشمال حتى يتسنى لي أن أراه بصفة شمولية أوضح وأقرب إلى الحقيقة.. خصوصا أنني أحسست بتوحد كياني ولا غربتي البتة عن الأشقاء السودانيين ...


17 أبريل 2008

إلى أين تتجه موريتانيا....؟!!

في المستهل أعبر عن شكري لوكالة انواكشوط للأنباء (ANI ) على هذه المبادرة التي فتحتها للنخب السياسية الموريتانية من مختلف الجهات الفكرية الوطنية للتحاور حول السؤال الشائك أين تتجه سفينة موريتانيا في هذه اللحظة التاريخية الحرجة ؟..
أولا : وقبل كل شيء ما هي الظروف التي ألحت في طرح هذا السؤال و الوقوف عنده ، إنها ببساطة كبيرة وبدون مقدمات ، هي أوضاع معيشية عسيرة تتوالي ليلا و نهارا على الموريتانيين وتنغص عليهم حياتهم و تكاد تحجب عنهم بارقة الأمل ، التي تولدت لديهم منذ الثالث من أغسطس 2005، في مستقبل مشرق كانوا يرقبونه قريبا .. وها هو يتباعد أمامهم يوما وراء آخر .. كما أن الوضع الحالي في موريتانيا منذ سنة من وصول حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا ليس على ما يرام من الناحية الأمنية على سبيل المثال ( مقتل الفرنسيين في شرق مدينة ألاق ، و مقتل الجنود الموريتانيين في حامية الغلاوية في أقصى الشمال الموريتاني مما يلي الحدود مع الشقيقة الجزائر ، والهجوم على السفارة الصهيونية في انواكشوط ، وأخيرا .. هروب السجين سيدي ولد سدينا من معتقله في قصر العدالة ، وما عقبه بأيام قليلة من حرب الكلاشينكوف التي تم بثها على الهواء مباشرة من إحدى جهات تفرغ زينه بين مجموعة توصف بأنها " سلفية "!! و الشرطة و الحرس و الجيش الموريتاني ، ،، و ما تلا ذلك من توتر في الوضع الأمني ، ومطاردات ، وقتل وترويع لبعض المواطنين بالخطأ !! ، وتعكير جو السلم الذي ما كان يزيده " أغشت" أصلا كما أشرنا سابقا !!

وثانيا : هذه الأوضاع المعيشية الصعبة بدأت نذرها منذ أشهر حين شهدت المناطق الداخلية في أغلب أنحاء الوطن احتجاجات بالجملة على الغلاء الذي وجد أمامه الناس أنهم غير قادرين على مواصلة حياتهم بشكل طبيعي ، وقد وضعت الحكومة خطة إنقاذ عاجلة " أولى " لتدارك الموقف غير أنها لم تكن فعالة في وضع حد للمعاناة .. بشهادة من استهدفتهم الخطة ذاتها!

ولم يمضى وقت طويل حتى أعلن برنامج الغذاء العالمي (PAM ) أن موريتانيا على شفا جرف هارٍ من المجاعة الحقيقية التي قد تكون نتائجها كارثية على المجتمع وبأسرع مما يمكن تصوره .. وهنا أيضا أعلن رئيس الجمهورية خطة استعجالية " ثانية " لإنقاذ الموقف مرة أخرى ، ندعو لها بالتوفيق بالرغم من المخاوف التي بدأت تثار من هنا وهناك على طريقة تنفيذ الخطة ومن تم تكليفهم بتنفيذها !

إن الأزمة التي تمر بها موريتانيا هي أزمة شاملة ذات أوجه متعددة سياسية و اقتصادية و أمنية واجتماعية ، ولهذا فإن مقاربة حلولها يجب أن تكون شاملة أيضا ، ولكي تكون كذلك فإن الجميع موالاة ومعارضة مدعوون للمساهمة فيها و إعطاء تصوراتهم و أفكارهم بشأنها ، ليشعر الجميع بأنهم شركاء في هذا الوطن ، الذي يقيم فيهم ويقيمون فيه ، و ليس فقط دولةً بين مجموعة محدودة منهم ولو كانت من العباقرة و الصالحين ، بل الكل شركاء في موارد موريتانيا و إمكانياتها وشركاء في تحمل عناء النهوض بها من كبواتها و عثراتها الدائمة ..

و لهذا فإن الإنفراد ، حتى من النظام الحاكم ، بتولي مسؤولية معالجة جوانب تلك الأزمة ، سيعيدنا إلى نقطة الأصل و البداية ، وتظل الأزمة تعيد إنتاج نفسها بصور أقسي و أفدح من ذي قبل .. والموقف الوطني من جماعات الغلو و العنف و التطرف يجب أن يكون قاسما مشتركا بين الجميع ، و كذا لا بد من فتح قنوات التفاعل و الحوار الصريح و الصادق و الأمين بين هاته الجماعات و فعاليات المجتمع كلها من سياسيين و علماء و فقهاء وشيوخ وغيرهم من حملة الرأي و أصحاب المواقف و الكلمة ، ولاشك أن الاحتكام إلى مقارعة الحجة بالحجة و الفكرة بأختها أفضل بكثير من الاحتكام إلى المسدسات و الكلاشينكوفات ، وقد كان هذا الطريق سالكا في دول عديدة ، وكان من نتائجه أن بدأت جماعات مشابهة لـ "جماعاتنا" حملة مراجعات فكرية شاملة ، جعلتها تطلِّقُ العنفَ و سبيله بالثلاث ، وكسب المجتمع في النهاية أمنا وأمانا ..

وهذا هو المدخل الجدي و الصحيح للتفاهم مع ظاهرة العنف المعولم العابر للأوطان و الدول .. أما الحل " الأمني" وحده ، فلا قيمة له ، و هذا ما تؤكده تجربة الولايات المتحدة الأمريكية التي تمتلك أقوى ترسانة عسكرية في العالم ، حيث فشلت في العراق و أفغانستان ، وباتت تتخبط على غير هدى في هذه الساحات المختلفة ، وهو ما جعل الحزب الديمقراطي يضع في أولى أولوياته حين الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة الانسحاب ( المقنن أو الفوري ) من هذه المواقع و التفكير في وسائل أخرى للخروج من نفق " الإرهاب "!

إن المكاسب السياسية التي تحققت منذ الثالث من أغسطس 2005 ، هي جديرة بالتأسيس عليها في سبيل الحكم الرشيد و دولة المؤسسات وحكم القانون والقضاء المستقل العادل النزيه ، وغير ذلك من عناوين التنمية المستدامة الشاملة التي هي البلسم الوحيد لجميع مشاكل موريتانيا و شعبها ذي التراث العربي الإفريقي الأصيل ، والذي لا يريد المستحيل ، إنه يريد فقط أن يعيش بكرامة ، كغيره من الشعوب في هذا العالم ، ولديه من الإمكانيات المادية و المعنوية ما يؤهله لذلك ، و هناك فرص نهوض أخرى تتيحها الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي هي عاقدة العزم على الدخول إلى "السوق" الموريتاني ، فعلينا أن نهيئ لها المناخ الآمن و الأجواء المريحة ، وبذلك قد يتحول البلد في ظرف وجيز إلى ورشة هائلة للإنشاءات الكبرى ، فتنطلق المشاريع الاقتصادية العملاقة التي قد تغير وجه الحياة في موريتانيا بأسرها ، بعد أن ظلت رهينة للنسيان المطبق زمنا طويلا ، هذا هو السيناريو الذي يجب أن تتجه إليه موريتانيا ..

أما بديله ، فسيناريو مرعب : أزمات تتوالي و تتوالد سياسيا ( من إقصاء وتهميش سياسي و خنق لحريات الإعلام و الفكر و التنظيم..) ، و اجتماعيا ( هشاشة و تصدع في تماسك فئات عريضة وواسعة من شعبنا ، وهو ما ينذر بانفلات اجتماعي أو مقدمات توتر غير مسيطر على مآلاته .. ) ، و اقتصاديا ( انتشار دوائر الإملاق و الفقر و إطباقها على النسبة الكبيرة من الموريتانيين ، بسبب الليبرالية المتوحشة و منطقها الطبيعي في تجذير الاحتكار البائس ، و فشل المشروعات الاقتصادية ) ، وأمنيا ( تغول الجريمة المنظمة و ارتهان الأجهزة الأمنية لها وشيوع المخدرات و الممنوعات من كل صنف ولون .. و تحول موريتانيا إلى مثال جلي في غرب إفريقيا لجمهوريات الموز التي يحكمها منطق العصابات ورجالها .. وقد تتحول إلى منطقة نفوذ إقليمي أو دولي ..!!)

لقد مل شعبنا الكلام المعسول ، وينتظر العمل الخلاق لتغيير واقعه و الأمان على مستقبل أجياله ، ونحن مسلمون ومؤمنون وربنا عز وجل يقول لنا في القرآن الكريم "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، {التوبة:109}. وينهانا عن الكلام دون العمل به: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون.. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" {الصف: 2-3}. إن الرهان الحقيقي في كسب معركة الاتجاه في موريتانيا أن نجتهد ، حكاما و محكومين ، في عمل الأصلح ، وكما يقول الإمام الشاطبي في " موافقاته " ما معناه كل عمل يقوم به الإنسان يتنزل بين المصلحة والمفسدة ، وعلى الإنسان أن يتحرى المصلحة و يسعى إلى تحقيقها.. وأن يتجنب المفسدة و ما يقود إليها من قول أو عمل ..هذا رأيي المتواضع في سؤالكم .

المصدر :

وكالة نواكشوط للأنباء :

http://www.ani.mr

16 أبريل 2008

كتاب " منح الرب الغفور في ذكر ما أهمل صاحب فتح الشكور"


مخطوط :" منح الرب الغفور في ذكر ما أهمل صاحب فتح الشكور "

المؤلف : أبوبكر بن أحمد المصطفي المحجوبي الولاتي سنة 1289 هجرية

دراسة وتحقيق : الدكتور الهادي المبروك الدالي - طرابلس - ليبيا

تقديم وتحليل : أحمد ولد نافع

9 أبريل 2008

عن الجدل " المفتعل" حول إنشاء مصفاة للنفط في موريتانيا

لا يختلف اثنان عاقلان في عصر العولمة والفضاءات الاقتصادية الكبرى ، الذي نعيشه اليوم على الأهمية الاستراتيجية النسبية للاستثمار الأجنبي المباشر كأحد مكونات التدفقات المالية للدول النامية. ومع أن العالم يشهد تراجعاً عاماً في معدلات تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة (870 بليون دولار عام 2006 مقابل 1.45 تريلون عام 2002)، إلا أن الدلائل تشير إلى وجود منافسة قوية بين الدول النامية لزيادة نصيبها من تلك الأموال. ولهذا تحرص جميع الدول ، حتى منها تلك الدول المتقدمة ، علي تحسين بيئات الاستثمار فيها لحيازة أكبر نصيب ممكن من السيولة و الأنشطة التي تتيحها مثل تلك الفرص الاستثمارية . استظهرتُ ذلك وأنا أتابع الجدل الغريب العجيب حول " فرصة " استثمار لشركة كندية لإنشاء مصفاة للنفط في المنكب البرزخي بطاقة إنتاجية تلامس الثلاثمائة ألف برميل لليوم ، مع ملحقات إنتاج في مجال المياه والكهرباء مطابقة للمقاييس العالمية الحديثة في هذا المجال .. فأحسست بالمرارة الكبيرة وخيبة الأمل في هؤلاء الذين بدأوا يثيرون الشبهات الجدية حول " نواياهم الحقيقية " تجاه مصالح فئات عريضة وغالبة من شعبهم وساكنتهم التي تقاسي الأمّرين شظفا و فقرا و جهلا ومرضا !!

الملاحظة الأولى:

لمصلحة من يتحرك هؤلاء الذين " افتعلوا " قضية بدون سبب حقيقي للتشويش والإثارة حول الطريقة التي منحت بها الرخصة الفنية التي منحت لشركة " وينفيلد رسورسز " الكندية المتخصصة في مجال إنشاء مصافي النفط .. هل يبغون فعلا المصلحة العليا للوطن ، وهذا الاستثمار يأخذ بالأهمية الاستراتيجية الجغرافية لموريتانيا في غرب وشمال إفريقيا ، وسيجعل منها مركز استقطاب تنموي مهم، إذا أخذنا في الاعتبار أن تكرير النفط ومشتقاته سيعزز موقع الاقتصاد الموريتاني في تبادلاته مع شبه المنطقة الإفريقية في جنوب الصحراء .

الملاحظة الثانية:

هل هؤلاء الذين يثيرون هذه الزوبعة العابرة مدفوعون " عن بعد " من رجال أعمال أو " مجموعات ضغط اقتصادية " أو يرتبطون بمصالح مادية رخيصة مع " بورجوازية كومبرادورية" دأبت طوال العقود " الاستثنائية" السابقة أن تكون على صلة بأي استثمار أجنبي مباشر تسهّل له مقابل حصص انتفاع " مقننة " ، وبالتالي فإنها صُدِمتْ بهذا الاستثمار الذي تصل قيمته الإجمالية إلى أكثر مما وصلت إليه حكومتنا مع " شركاء التنمية"( ممولي نادي باريس ) الذين هللوا كثيرا للنجاح الاقتصادي والثقة والجدارة الباهرة التي جعلت الشركاء يثقون في الأداء الاقتصادي للحكومة الموريتانية ويمنحونها 2.41 مليار دولار لتمويل مخطط التحول التنموي في أفق 2008-2010 ، بينما هذا الاستثمار من شركة " وينفيلد " سيضخ، ربما، أزيد من هذا المبلغ مرتين أو أكثر، مما يؤشر إلى مستوى من الجدية والرغبة الكبيرة في الدخول في السوق الموريتاني و الأسواق المجاورة ؟!

الملاحظة الثالثة:

هل ذنب هؤلاء المستثمرين الكنديين أنهم " صدّقوا " أن موريتانيا دخلت مرحلة، فعلا، جديدة من الديمقراطية و الحكم الرشيد و الشفافية، وأنها أعلنت على صفحات كبريات الصحف الأمريكية والعالمية أنها ترحب بالاستثمارات الأجنبية وتقدم لها كل التسهيلات الممكنة و تهيئ لها كل الحوافز الاستثمارية اللازمة في هذا المجال، مما جعلهم يحترمون السياق الفني للترخيص للاستثمارات ويقدمون 35 مليون أوقية كضمان مالي إلى الخزانة العامة وينتظرون فترة ثلاثة أشهر، وهذا هو ما ينص عليه القانون في هذا المجال، ويحصلون على الموافقات من إدارة التشريع والترخيص من الجهات المعنية في وزارة الطاقة و المياه، وقدّموا تصورا جاهزا، بعد دراسة متأنية، عن خريطة العمل الاستثماري لبناء المصفاة و ملحقاتها و إنشاء المركز التكويني المتخصص الذي ستفتتحه الشركة وفقا للمقاييس العالمية في هذا المجال ، و التي على أساسها ستبعث 100 إطار و كادر فني موريتاني للتكوين في الخارج في مجال النفط ، ومساهمة في التشغيل العمومي وحل جزء من مشكلة البطالة المستعصية للشباب و الخريجين، إذ ستشغل الشركة حوالي 3500 مواطن موريتاني .. الخ

الملاحظة الرابعة:

لمصلحة من يتم " تصعيد " الموقف وربطه بالجماهيرية الليبية ، وكأن التعاون الاقتصادي مع الجماهيرية جريمة لا تغتفر، وهي التي قدمت ولا تزال تقدم مشروعات عملاقة للتنمية في موريتانيا، وليست بحاجة إلى الدخول تحت " غطاء آخر" ..! هذه النغمة المعادية للجماهيرية كنا نتصور أنها قُبِرتْ مع النظام المباد الذي كانت ليبيا بالنسبة له " مشجبا " يعلق عليه كل إحباطاته وفشله المريع في جميع المجالات .. ولكن يبدو أن هناك من لا يزال يعيش بعقلية الماضي التعيس .. كما أن العلاقات الموريتانية الليبية في هذه الفترة في أحسن أحوالها، وقد تأسست اللجنة العليا للتعاون المشترك بعيد زيارة الرئيس الموريتاني المنتخب سيدي ولدد الشيخ عبد الله إلى طرابلس في 17 نوفمبر 2007 ، و شركة الاستثمارات الافريقية الليبية ( الآيفكو) قد حصلت على ترخيص للعمل الاستثماري في قلب انوكشوط ، ومن المنتظر أن يبدأ العمل في " مجمع الفاتح الاستثماري – فرع موريتانيا " قريبا وقد وافقت الحكومة الموريتانية على التنازل المؤقت لهذه الشركة عن قطعة أرضية في قلب العاصمة .. إذا لماذا يتم الزج بالجماهيرية الليبية في موضوع " استثمار شركة كندية " ؟؟ثم إنه إذا كانت الشركة المذكورة لديها بعض الأعمال لصالح صيانة " مصفاة الزاوية " في ليبيا، وهذا ما يثير حفيظة البعض، فإن شركة " توتال " الفرنسية لها أيضا أشغال بالمليارات في السوق الليبي، وكذلك " تام أويل " و " آجيب "، و " بريتش بتروليوم "، و " هاليبرتون " ... والقائمة طويلة جدا !! وإذا كنا سنرفض أن تعمل لدينا شركة لديها أعمال استثمارية في الجماهيرية فهذا يعني أننا ببساطة لا نريد من الاستثمارات الأجنبية أن تعمل في موريتانيا !!

الملاحظة الخامسة:

أن " شركة وينفيلد رسورسز " جاءت في وقت مناسب جدا وهو عقب مقتل الفرنسيين في " ألاك " ، و الهجوم على حامية الجيش الموريتاني في " الغلاوية " في أقصى الشمال الموريتاني، و" الهجوم على السفارة الصهيوينة " في قلب انواكشوط .. إنها جاءت في وقت تبدو فيه صورة موريتانيا مهشّمة أمنيا و اقتصاديا، وكان من اللائق والأجدر أخلاقيا واقتصاديا أن تفتح الأبواب المغلقة، إن كانت موجودة ، أمام هؤلاء ويتم تكريمهم والاحتفاء بهم ، وهم الذين قدّموا خدمة بلا حساب لمصلحة موريتانيا، من أجل أن يقنعوا نظراءهم الآخرين بالقدوم إلى موريتانيا باعتبارها بيئة آمنة للاستثمارات الأجنبية، وأن تلك الأحداث الدامية ليست إلا خدوشا عابرة لا يجب أن تؤثر على المناخ العام للاستثمار في موريتانيا ..إلا إذا كان هؤلاء المعترضين على الاستثمار لديهم حسابات يتقاطعون فيها مع صانعي ذلك الإنفلات الأمني الرهيب و الكفيل بإرهاب أي مستثمر أجنبي يريد الدخول إلى هذه البلاد السائبة أمنيا، وهو ما لا يمكن قبوله إذ أن " رأس المال جبان " لا يمكن أن يتفيأ إلا الظلال الآمنة ؟؟؟

الملاحظة السادسة:

حتى إذا قبلنا جدلا أن هناك " خطأ " إداريا ما ، وهو ما لا دليل عليه، في بعض جوانب الترخيص لهذا الاستثمار المهم، فإن معالجته كان يجب، ويمكن، أن تتم بعيدا عن فضاء التلفزيون و البنط العريض للصحف السيارة، إلا إذا كان العمل على خلق ارتباك وشوشرة مقصودة ولحسابات خاصة جدا هو الهدف من ذلك، إذ أن الموازنة بين عوائد هذا الاستثمار للشعب الموريتاني وللاقتصاد الموريتاني و لصورة موريتانيا وعلاقاتها ودورها الاقليمي، كل ذلك كان كفيلا بأن يستحي هؤلاء من لعب دور " الإثارة " الذي يجعلهم في صف أعداء المصلحة العامة و الساهرين عليها، إلى صف أولئك الذين لاينظرون أبعد من " أرنبات " أنوفهم ومساحات " جيوبهم"، وهو ما لا يمكن قبوله إذا ما تعلق الأمر بمصلحة شعب يريد من يسهم في مداواة أوجاعه لا من يصب الملح على الجرح ليزيده إيلاما و مرضا !!؟

الملاحظة السابعة:

تتعين الإشارة إلى التوصية الواردة في ختام الملتقي الأخير المنظم حول تقييم عوائق الاستثمار و اعتماد تقرير سياسة الاستثمار في موريتانيا الذي انعقد مؤخرا منذ أيام قليلة في انواكشوط في 21 فبراير 2008، وتقول تلك التوصية : " إقامة شباك موحد للاستثمار يجمع مختلف الإدارات المعنية بالاستثمار تحت سقف واحد "، و من المفترض أن يتم تمرير القانون الجديد المشجع للاستثمار إلى البرلمان بغرفتيه من أجل إسباغه الشرعية اللازمة .. وأمام النقاش الذي شهده الملتقي المذكور، فلا بد للمرء أن يتساءل عن سر علاقة هذا الطموح المشروع بالواقع المعيش إزاء ما يحدث حيال " قضية وينفيلد رسورسز" الكندية ؟؟

وفي الختام .. فليس هناك مناص من التكرار، الذي يحتوي الاعتبار، و الوقوف والاستفسار عن هوية من قام بتسريب هذا الأمر و النفخ فيه باستماتة لافتة إلى هذا الحد ؟؟ وماهي مصلحته في ذلك ؟؟ وهل هناك جهات يخدمها ذلك ؟؟ وهل يعتبر أن ما قام به يقدم خدمة عظيمة للاستثمار الأجنبي المباشر من شأنها جلب المستثمرين زرافات ووحدانا إلى وطننا المكلوم ، أم أنه كان يسعى إلى تنفيرهم وإبعادهم وتشويه صورة موريتانيا لديهم ؟؟إن حرمان موريتانيا، وهي التي تحتاج لمعجزة تخلصها من إسار هذا الوضع الكارثي اقتصاديا و اجتماعيا، من نعيم الاستثمارات الدولية سيساهم في تأجيل الإقلاع بها بالتنمية المستدامة والمندمجة، أو على الأقل الحصول على نصيب من الإنجاز في مشروع أهداف الألفية للتنمية، وقد بدأت دول عديدة في إفريقيا المحيطة بنا تحقق بعض ذلك مع اختلاف في مستويات الأداء من حالة إلي أخرى ..و لا بد من التذكير أن استمرار هذا الجدل العقيم و " الإثارة " غير المجدية قد يعمل على إرسال إشارات واضحة في سلبيتها للمستثمرين الدوليين تجعلهم لا يحرصون على أن يكونوا موريتانيين أكثر من الموريتانيين أنفسهم .. ويا ليت قومي يعلمون !

منشور في موقع الأخبار انفو www.alakhbar.info

عن العرب و العولمة و الآفرو آسيوية

تشهد أكاديمية الدراسات العليا - في طرابلس ليبيا - من حين لآخر عدة نشاطات علمية وثقافية وفكرية مميزة يحضرها متخصصون وتتابعها وجوه ثقافية وفكرية وسياسية متنوعة في مقدمتها بحاث وأساتذة جامعات و صحفيين و سفراء. وكانت أحد العناوين البارزة لتلك النشاطات من قبيل " العولمة" و " العرب" و " الأفرو آسيوية".

دولة العولمة

وفي سياق الحديث عن موضوع الساعة ألقي الباحث الفرنسي "جان فرانسوابايار" مدير المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا محاضرة قيمة أشار في مستهلها إلى أن مناقشة ماهية العولمة تتنزل في عمق التساؤلات الملحة للوضع الدولي الراهن، ومن خلاله تبدو العولمة على أنها جملة التحولات التكنولوجية والمالية والسياسية والثقافية التي طرأت على الدولة الوطنية وجعلتها على مرمي حجر من فقدان سلطانها التقليدي بفعل طغيان السوق وشركاته المتعملقة! وإذا كان ذلك التوصيف العام ينسحب بصورة إجمالية، إلا أنه قد يكون مجانبا للصواب في بعض المجتمعات التقليدية مثل مجتمعات إفريقيا جنوب الصحراء حيث لازال بقاء الدولة يعني فيها الشيء الكثير على الرغم من وقوعها جديا تحت ضغوط عدم الاستقرار الاجتماعي و الاقتصادي (الحروب المجاعات ) وهو أمر يحيل إلى التساؤل عن جدوى الحديث عن المجتمع المدنى. أما في الدول المتقدمة فإن " دولة العولمة" بحسب " جان فر انسوا" تشكو من تزايد نفوذ عتاة الليبراليين أمثال " بيل قيتس" و " سو روس" وغيرهم من الذين إن أرادوا تهديد الدولة لفعلوا كما أثبتت ذلك أزمة بلدان شرق آسيا في 1997 ، كما أن أولئك "البارونات" الكبار تطاولوا على الدولة بعد أن خوصصت لهم صلاحيات الجمارك والدفاع الوطني وبعض مهمات الشرطة التقليدية. وهو واقع جعل البعض يشير إلى أن هؤلاء الرأسماليين الكبار هم القادة الفعليين للعالم الذي نعيشه اليوم ولكنهم " حكام في الظل" تكفي ضغطة من أحدهم على زر صغير لتعاني دولة ما من الإفلاس المالي وبأسرع من لمح البصر ، وهذا طبعا بخلاف ما تدعو إليه اتفاقية منظمة التجارة الحرة التي تروج لدعاوى الاعتماد المتبادل وتوزيع المنافع الاقتصادية والسياسية بين بني البشر في الشمال والجنوب.لكن ما تنص عليه الاتفاقيات شيء وما يجري على أرض الواقع من حقائق شيء آخر مختلف تماما.

عرب وعولمة

وهو زوج مفاهيمي استهوى مفكرا عربيا هذه المرة هو المحامي الشهير "إبراهيم الغويل" رئيس الفريق القضائي في قضية لوكيربي المعروفة ليقدم في نفس المكان وأمام نفس الجمهور محاضرته عن " العرب والعولمة و الأفر وآسيوية" .وفي تقديمه تساءل المحاضر عن : من هم العرب؟ وأجاب إنهم قوم لا ينتسب إليهم بالعرقية والسلالية، بل إن معنى " العربي" هو معني لساني وثقافي وفكري وحضاري ، وبناء عليه تكون القومية العربية قومية منفتحة ومرنة ، والعرب يرون في أنفسهم أنهم القوم ذوو القدرة على الإبانة والإفصاح والبلاغة ، ويترتب على ذلك أن من لا يتصف بذلك يكون " عجميا". لهذا ليس غريبا أن يري العلامة ابن خلدون العالم في عصره عبارة عن " عرب وعجم وبربر "!! والأخيرون هم " عرب" ينطقون العربية بلكنة ورطانة وغموض! كما أن العرب حسب المحاضر هم حملة رسالة الدين الإسلامي الذي قدم جُماعَ الحلول للبشرية من أمراضها ،ولهذا كان القرآن " مصدقا " و " مهيمنا" و " كاملا خاتما". ويناقش المحاضر أن الأفول الحضاري العربي الإسلامي بدأ منذ انقطاع الوحي السماوي حيث استحالت السلطة " الشورَوية" إلى " مُلك عضوض" ، وانتقل المال من كونه "مال الله " إلى أن تركز " دولةً بين الأغنياء والمترفين" ، كما انتقلت الأخوة الإسلامية إلى " شعوبية" عجلت بانهيار الحضارة ورؤاها التاريخية الرافضة للتعصب والمركزية خلافا للرؤية الغربية للتاريخ التي تختصر تاريخ البشرية في تاريخها وحدها مدعية أن خلافه هو سفسطة وظلام " قرسطوي"! إن الرؤية الغربية لا تجعل أمام الآخرين من خيار إلا " الإيمان والتسليم". ولتفنيد محاججة الداعين إلى التماهي مع خطابات العولمة " الغربية" استعرض إبراهيم الغويل أمام الجمهور في سابقة نادرة في مثل هذه المحاضرات حوالي 20 مرجعا " جديدا" باللغة الإنجليزية وصادرة في أغلبها عن دور نشر أمريكية ، ومن بينها كتب: " توماس فريدمان" مرورا بــ:" شومسكي" و " سو روس" و " ستوقلس" .. وانتهاءً بـ:" طارق علي" و " فوكوياما" و " روبرت ويليام"..

عن فكرة الأفرو آسيوية

وهي فكرة خلقها العرب تاريخيا بالإسلام وجغرافيا بتموقعهم في تقاطع القارات الرئيسة في الكون آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا، وتعززت في العصر الحديث في أوج حركة التحرر الوطني متجسدة في مؤتمر باندونج 1955 الذي صاغه الأفارقة والآسيويين بمحورية العرب من خلال دور الزعيم البارز جمال عبد الناصر. وقد سعى الغرب دائما إلى ضرب فكرة الأفرو آسيوية من خلال ترويج " الصراع بين الحضارات" لبتر العلائق التاريخية بين الإسلام والكونفوشيوسية والبوذية والأرثوذكسية ، ويدل ذلك على عبثه بصناعة مناطق التفجير الدائم في فلسطين وكشمير والشيشان .. الخ .

وقد رأى "الغويل" أنه إذا كان كتاب " رأس المال" لــ كارل ماركس من أهم مؤلفات النصف الثاني من القرن التاسع عشر فإن كتاب الفيلسوف الجزائري " مالك بن نبي" عن " الأفرو آسيوية" الصادر باللغة الفرنسية هو من أجود وأهم مؤلفات النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أنه ظُلمَ حين تم حجره ومنعه من التداول والتوزيع لإجهاض فكرة الأفرو آسيوية مثلما تم التآمر – كما قال- على " بن بيلا" بانقلاب 1965 لمنع انعقاد قمة الأفرو آسيوية ،وهي التي بدأ الأفارقة والآسيويون ينشغلون للمشاركة فيها بدليل حضور الزعيم الصيني " ماوتسي تونغ" إلى القاهرة في طريقه إلى قمة الجزائر التي لم تنعقد حتى اليوم!

وفي ظل عالم التكنولوجيات( الحرب – الإعلام – الاتصالات – الإنتاج ) فإن سبيل الإنقاذ هو إحياء ثقافة الأفرو آسيوية لأنها هي التي بإمكانها الإجابة علي الخيار" الصعب" : حرب أم سلام وبعبارة أخرى : فناء أم بقاء؟ ولاشك أنها ستجيب بالانحياز إلى خيار السلام خيار البقاء كيف لا؟ وهي تجذر تاريخيا قمة التعايش بين الإسلام والكونفوشيوسية والبوذية ، أي بين العرب وغيرهم من قوميات العالم الإسلامي ، وبصورة موسعة بين كل أمم الأرض مهما اختلفت عقائدهم أو أفكارهم في زوايا المعمورة المختلفة.

وعلى الرغم من انتقاد البعض للمحاضرة لكونها محاضرة عامة وفي ذلك إحدى نقاط ضعفها، حيث لم يتم التقيد بتقسيمات المنهج العلمي المتبعة بالخصوص، فإن السؤال الرئيس ظل عالقا في الأذهان وهو :" هل لا يزال هناك أملُُ في مثل هذه الأفكار التي تبدو في مثل الحالة الراهنة " مفارقة" للجوقة الموسيقية المعيشة التي تأتي من وحي الزعامة الأمريكية للعالم؟

وكيف السبيل العملي إليها في ظل دول آسيوية راغبة إلى الشراكة مع اقتصادات العظماء ،واتحاد إفريقي يحمل أوزار و مشاكل القرن الماضي وتداعياتها الجيو استراتيجية .. وعرب تتقاذفهم التكتلات دون أن يكون لهم حضور فاعل ومؤثر؟

ويرى " الغويل" أن الإجابة يملكها الشباب وهم أغلى من في الحاضر وعدة المستقبل وعتاده ، إلا أنه نسي أنهم محصورين في "حدية " تصعب منها المناورة من عدة زوايا تعكسها عربية وغربية ، الأخيرة التي يعكس جزء من بعضها " جان فرانسوا بايار" تصرخ من أن " الدولة الوطنية : ضحية العولمة" !! و الأولى التي يعكس حالة منها أيضا " إبراهيم الغويل" وهي المراهنة على جدوى مثل أفكار " العرب و الأفرو آسيوية" كخيار استراتيجي في مواجهة خبطات العولمة التي ترمي في كل الاتجاهات؟

فأي الفريقين أهدى سبيلا!

* منشور في موقع وكالة الـأخبار www.alakhbar.info

4 أبريل 2008

على خطي ركاب الحج الشنقيطية

منذ الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا في القرن الهجري الأول على يد الفاتح الإسلامي الأشهر عقبة بن نافع الفهري ، مؤسس حاضرة القيروان التونسية ، بدأت الحواضر الإسلامية الناشئة من يومها في نواحي الدولة الإسلامية ترتبط بشكل وثيق بالمشرق الإسلامي ، وتحديدا بناحية الحجاز ، حيث المواقع المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة اللتين تهفو إليهما قلوب المؤمنين حيثما كانوا أملا في أداء الشعيرة التعبدية الخامسة في الإسلام " الحج".
ولم تكن " حاضرة شنقيط " موطن المخطوطات الإسلامية والعربية ،وإحدى أعرق المدن العربية الإسلامية ، وواحدة من عواصم الأطراف الجنوبية للصحراء الكبرى الإفريقية ، لم تكن بمعزل عن ذلك الترابط والارتباط بالديار الإسلامية المقدسة في الحجاز.
وقد دفعت شنقيط وساكنتها ضريبة ذلك التعلق الإيماني بالديار المقدسة ،لأن الحرص على إدامة أواصر ذلك التواصل كان يكلف عناء وضنكا لم يجد الشناقطة غضاضة في تحملهما صبرا و قبولا وحبورا لما فيه من أجر وثواب دنيا وأخرى .
وحيث إن الإنسان الشنقيطي ينشأ في بيئة صحراوية جافة وعسيرة العيش ، فإنه لا يكاد يبلغ الحلم حتى يجد نفسه، ملما بعدة متون " منتقاة " من عيون التراث العربي الإسلامي ،وهو المخزون الذي تفخر باحتضانه ورعايته عبر العصور المحاظر الشنقيطية .
وإذ ذاك لا يبقي لهذا الإنسان الشنقيطي إلا أن يتوج عطاء شبابه برحلة العمر أداءً لمناسك الحج قربى إلى رب العالمين سبحانه ، واستزادة من معين العلم ، الذي هو فريضة واجبة الأداء من المهد إلى اللحد .
غير أن ركاب الحج الشنقيطية كانت تنتظم وفقا لاتجاهات وخطوط سير مختلفة ومتباعدة نسبيا ، من أهمها :
· طريق ينطلق من مدينة شنقيط في عمق الشمال الموريتاني ، في اتجاه المغرب الأقصى ) فاس ( والجزائر ) توات ، تلمسان ...( و تونس) القيروان ..( وليبيا ) طرابلس ، برقه ..( ومصر) القاهرة ، البحر الأحمر ..( وصولا إلى الحجاز . ويتميز هذا الاتجاه بكونه خفيف العناء على الحاج الشنقيطي ، إذ من الواضح انه يعبر به الحواضر العربية الإسلامية التي لا يجد هذا الحاج كبير صعوبة في التكيف والتواصل معها تذليلا لوعثاء السفر وطوله ..
· طريق يسلكه الشناقطة ويولون وجوههم من بدايته شطر الحواضر الإسلامية الإفريقية المجاورة ،من مالي " باماكو ، سيكاسو .." ، وبعد ذلك يتوغلون في المجاهل الإفريقية وصولا إلى الكونغو " برازفيل " ، ورجوعا إلى النيجر " نيامي ، أغادز ، طاوا.." ، ونيجيريا" كانو .." وقد يتفرع الطريق شمالا جزئيا إلى تشاد " فورلمي ، آبشه .." ، وانتهاء من كل المحاور إلى السودان الشرقي " دارفور ، الخرطوم ، كردفان ، بحر الغزال..كسلا.." ، إما إلى ميناء البحر الأحمر ، أو دخولا إلى مصر لقاصدي الأزهر الشريف ، ثم التكملة من هناك إلى الحجاز ..وهكذا !
غير أن ما يميز هذا الاتجاه هو طوله الزمني النسبي ووعورته وتعاظم المخاطر التي تكتنفه ، والتي طالما وضعت حدا بين الكثيرين من الحجيج الشنقيطي وبين حلمهم في زيارة الأماكن المقدسة ، حيث يعانون وهم سائرون إليها من عدم القدرة على التعاطي مع أقاليم مناخية مختلفة ومتباينة جذريا مع المناخ الصحراوي الذي صدر عنه الشناقطة وترعرعوا فيه ..!!
وكثيرا ما كانت الركاب الشنقيطية مكونة من أناس مختلفين من حيث العمر والقبيلة والجهة ..الخ ، كما تحوي أجيالا من الشباب والشيوخ والنساء ، وقد تستغرق رحلة الحج ، التي لا تثنيها عوادى الزمن ، شهورا بل سنة على الأقل غالبا بالنظر إلى كونه حج " السير على الأقدام "!
إلا أن ما وثقه التاريخ عن يوميات الشناقطة أن هذه الرحلات " الحجية" كثيرا ما أدت بالشناقطة الى الثواء في أماكن معينة على طريق الحج . مع ما يفترضه ذلك من مواجهة ما تتطلبه عملية ابتداء الحياة هناك من " غرباء الحج" ، الشيء الذي أدى مع الزمن إلى اندماج اجتماعي في تلك المجتمعات والشعوب ، وذلك ما أوجد بعض الجذور و " البذور" الشنقيطية في مواقع معينة ومتباعدة في إفريقيا جنوب الصحراء وفي شرق القارة وشمالها وفي الحجاز و بلاد الشام والعراق وتركيا .
وربما هذا ما يفسر " ادعاء" كثير من الأقوام والشعوب والقبائل الإفريقية أنها تحتفظ بـ"آثار الشناقطة"! ، وأحفاد ذلك الرعيل الأول من الحجيج الشنقيطي ، الذي وضع لبنة عادة الهجرة المقدسة من شنقيط إلى الحجاز مرورا بالغابات والأحراش والأدغال الإفريقية ..!
بل وأكثر من ذلك فإن هذا هو السبب في كون الكثير من مواطني تلك الدول ، المشار إليها في جغرافية الطريق إلى الحج ،يتباهون بأصولهم التاريخية الشنقيطية، سواء كان ذلك صريحا كما هو الحال في مالي والنيجر والسودان وليبيا ، أم كان ذلك ضمنيا كما هو في دول أخرى حتى من خارج إفريقيا كالأردن وتركيا مثلا لا حصرا ..
وفي نفس السياق ، حكي لي أبتي العلامة الفقيه الراحل إدوم ولد نافع ، قدس الله سره ، قصته مع ركاب الحج الشنقيطية ، حيث إنه لما أكمل " إجازات" دراساته التقليدية المحظرية ، كما هو دأب شباب الحوض في تلك الربوع في خمسينيات القرن العشرين ، اعتزم نية الهجرة للحج ، وصحب لذلك "رفقة" تنوي الشيء ذاته ، وحين توغلوا في العمق الإفريقي ، تفرقت بهم بنيات الطريق أثناء الرحلة المقدسة ، ومرض بعض الحجاج بسبب عض الناموس والباعوض المنتشر في البيئة الإفريقية ، ومات البعض الآخر الذي لم يقوى على المقاومة ، وخارت عزائم البعض فتريث في الطريق وكون أسرا جديدة وبدأ حياة أخرى في هذه المحطة أو تلك ، وكان العدد البسيط على أصابع اليد هو من تمكن من الرسو على شاطئ الأمان " الوصول إلى السودان" ، الذي كان يعني بمقياس تلك الأيام إنجاز تسعين في المائة من المهمة ونيل الأرب في بلوغ الحجاز!
ولأن مثل هذه الرحلات متخمة بالمواقف العصيبة واللحظات المليئة بالعثرات الكؤود التي تجعل المرء يوقن – في لحظة يأس- أن ملامسة الثريا أقرب إليه من بلوغ الحجاز ، فقد عمد الكثير من العلماء والصلحاء الشناقطة إلى " توثيقها" حالما تسنح الفرصة لذلك ، وذلك من أجل أن ينقل للأهل والأجيال الطالعة تجربته في الحج ومعاناته في سبيله ، من أجل أخذ العبرة والدروس .
ومن أولئك الذين " دونوا" رحلاتهم الحجية العلامة محمد يحي الولاتي في رحلته الحجازية ، وكذا العلامة ولد اطوير الجنة ، وغيرهم كثير ، وهي مؤلفات نفيسة تصنف بجدارة ضمن أدب الرحلات والأسفار !!
إن الجيل الموريتاني الحالي ، وهو يشمر السواعد لبناء موريتانيا "الجديدة " ، لا يجب عليه أن ينسى أو يتناسي جهود أسلافه ، الذين كانوا يصدرون من مجال جغرافي صحراوي لا دولة فيه ذات منعة يقدمون أنفسهم من خلالها ، بل إنهم قدموا أنفسهم بسمتهم وعلمهم وأخلاقهم - فحسب- لعالمهم الذي عايشوه في تلك الأزمان الغابرة ، ويبدو أنهم كانوا مقنعين إلى حد كبير ، بدليل " الإرث المعنوي" الذي خلفوه ذكرا ومآثرا لا تزال محسوسة على خطي آثارهم حتى اليوم .
إن ذلك يمكن التأسيس عليه في بناء مقاربات حول دور الشناقطة الحاليين في محيطهم وعالمهم ، يمكن أن يركنوا إلى ما خلفه آباؤهم للاستفادة منه في التطوير ولعب دور يتماشي مع معطيات الراهن المعيش ، وبدون ذلك فلا قيمة للانتساب إلى كل ذلك التاريخ ، بل إنه قد يكون لعنة تلاحقنا على نحو لا نقبله أو نرضاه .
أخيرا وليس بآخر ، فإن ركاب الحج الشنقيطية ، كغيرها من ركاب الحج الإسلامية الأخرى ، لعبت دورا تاريخيا في توطيد ركائز اللحمة بين المسلمين ، وعملت على نسج وشائج القربي الاجتماعية التي كانت تكبر مع الزمن حتى أدت إلى هذا التقدير الكبير الذي يلقاه أحفاد الشناقطة أينما حلوا ،وفاءً لذكري شمائل أجدادهم الذين مروا من هناك في تلك الأيام الخوالي ...

ملفات الزمن الهارب (2) : في عاصمة الفاطميين (1)

شاءت الأقدار أن أسافر إلى القاهرة ، وذلك لحضور معرض القاهرة الدولي للكتاب مرتين الأولى في دورة 2005 ، و الثانية في دورة 2006 ، وكانت فرصة ثمينة لي وأنا القادم من منطقة المغرب العربي ( موريتانيا ) ، كأني أسير على خطى بناة هذه المدينة العريقة ، وهم الفاطميون الذين نقلوا عاصمة ملكهم من " المهدية" في شمال تونس ، وبعد أن استتب لهم الأمر في مصر ، في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ، الذي وضع حجر الأساس للقاهرة ، وأسميت من ذلك اليوم "قاهرة المعز لدين الله" .. ولا يمكن لزائر القاهرة الحديثة إلا أن يستذكر هؤلاء الفاطميين وجهودهم التاريخية في نشر الإسلام والثقافة العربية و الإسلامية ، وهم الذين لا تزال آثارهم باقية حتى يومنا هذا تدل علي بصماتهم التي حفظها الزمن بالرغم من عادياته ، بداية من "الأزهر الشريف" ، ومناطق " الحسين " ، و " السيدة زينب" ،،، الخ وغير ذلك من المواقع الإسلامية التي أصبحت جزء مميزا ومغريا من معالم القاهرة الإسلامية ، يفد إليه آلاف الزوار والسياح من مختلف أصقاع الدنيا كل عام ...
وصلت إلى مطار النزهة بمدينة الإسكندرية الساحلية المتوسطية في رابعة نهار أحد الأيام المشمسة في فصل الشتاء ، ولفت انتباهي سرعة تخليص إجراءات الدخول من ضباط المطار ، و ربما فاجأني صغر مطار النزهة الذي لم أتصور حجمه بهذا المستوي غير المتناسب مع عدد سكان المدينة وحجم السياحة السنوية إليها ، إذ يصل عدد سكانها تقريبا إلى أزيد من ستة ملايين من البشر ( وهذا يفوق عدد سكان موريتانيا مرتين!!) ، غير أن حجم الضغط عليه فيما يبدو ليس كبيرا مثل ميناء القاهرة الجوي أو المطارات السياحية الداخلية الأخرى ، كمطار الأقصر مثلا .. أسرعت في الخروج من محيط المطار إلى الشوارع الأمامية ،حيث أقلتني سيارة أجرة في اتجاه محطة " سيدي جابر للمترو" في وسط المدينة ، وحين استفسرت عن أقرب موعد للقطارات المتجهة إلى قاهرة المعز ، أجابني الموظف المختص أن هناك موعد بعد نصف ساعة للقطار " الاسباني" كما يسميه المصريون ، فحجزت فيه تذكرة درجة أولي بحوالي 40 جنيها مصريا ( ما يقابل 8 دولارات تقريبا) ، وعلمت أن هذا القطار " الأسباني" ، و نظيره " الفرنسي" ، هما أفضل القطارات المتجهة إلى القاهرة من حيث ضبط المواعيد في الانطلاق والوصول .. بعد حوالي ساعة من المسير ، مررنا على عدة قرى ونجوع ومدن مصرية ، من أبرزها " طنطا" مدينة الولي الصالح " السيد البدوي" المشهور ... وكانت طريق القطار تسير بين الحدائق والحقول الزراعية ، التي لفت انتباهي ، أحيانا ، أن التقنيات الزراعية المستخدمة فيها لا تزال تقليدية جدا ،حيث الجرار والفأس العادية والنساء اللواتي يشاركن في طقوس الفلاحة ، والأطفال الصغار وهم يداعبون أشجار الحقول هنا وهناك ، وهي تقنيات بدائية لم أكن أتصور أن مصر في الألفية الجديدة لا تزال تستخدمها ، تماما كما هو الحال في المزارع الموسمية في دواخل موريتانيا..
انتهت الرحلة بوصولنا إلى محطة " رمسيس" الكبرى في قلب القاهرة ، وبالرغم من أن النهار لا يزال في رابعته إلا أنني حرصت على العثور على أقرب فندق شعبي لأرمي فيه حقائبي ، كسبا للوقت حتى لا يضيع علي ذلك اليوم دون أن أزور معرض القاهرة الدولي للكتاب في أرض المعارض الكبرى في مدينة نصر ، و قد دلني أحد المصريين وأنا أتجاوز تقاطعات الطرق المحاذية لمحطة" رمسيس" ، إلى فندق " فونتانا" ، وهو صغير بالمعايير " المصرية" طبعا وضخم بالمعايير الموريتانية!! ، ويقع الفندق على الاتجاه الثاني المقابل للمحطة ، ويطل عليها في نفس الوقت . فدلفت إلي جناح الاستقبال فيه ، و طلبت حجرة لمدة يوم واحد أو يومين حتى أرتب لمقامي في القاهرة بشكل جيد ، ، ومن حديثي عرف أنني قادم جديد ( ولكل قادم دهشة؟!) ، فأخبرني أنه يجب علي أن أدفع مائتي دولار أمريكي على الأقل كعربون تحت الحساب ما دمت " غير مصري "! وأن هذه هي تعليمات الوزارة ( وزارة السياحة)؟!!
فلم أناقشه ..بالرغم من استغرابي من هذه الطريقة في التعامل مع القادمين الأشقاء ( أو هكذا المفترض بالنسبة لي على الأقل) وفي دولة تشجع السياحة إليها وترغب في استقطاب المزيد والمزيد من الزائرين سنويا .. وقد علمت بعد ذلك أن هذا مجرد اجتهاد من الموظف وأن لا علاقة للوزارة بهذا الأمر ولا أصدرت هذه التعليمات !!
كانت لدي رغبة كبيرة أن أنتهي من هذه الإجراءات بالسرعة القصوى ، طلبت منه أن يدلني على محور الاتجاه إلى معرض القاهرة الدولي ، وحين وقفت على الطريق منتظرا حافلات النقل العام ، هالني المنظر الذي كنا نشاهده يتكرر في الأفلام المصرية ، وهو التزاحم الشديد بين البشر شيبا وشبابا ..رجالا ونساء .. في هذه الحافلات العامة ، بطريقة غريبة و " مريبة"! ، تشبه تماما الحافلات الناقلة في انواكشوط ، التي يتكدس فيها وفوقها الناس كالحيوانات ، غير آبهين بالتناسب العددي بين عدد الكراسي وعدد الركاب ، فالكل يركب على الكل ، ببهلوانية غريبة ومقززة !!.
عدلت في النهاية - وأمام هذا المنظر الذي جعلني أشك في النهاية هل أنا في موريتانيا أم في أرض الكنانة - عن فكرة الحافلات العمومية ، واختصرت الموقف بإيقاف أول سيارة أجرة تصادفني ، قال صاحبها : " على فين يا بيه ؟؟ " ، رددت عليه : على معرض الكتاب الدولي ، وبعد طقوس الشكوي التي بدء بها الرحلة في سيارته من ضيق ذات اليد و سوء الأحوال المادية مقارنة مع أيام زمان !!.. ومع أنه لم يحدد عن أي أيام زمان يتحدث ..إلا أن ذلك كان مقدمة لازمة ، فيما يبدو ، ليحدد تسعيرة لهذا المشوار وصلت إلي حوالي ثلاثين جنيها !! .. وبعد شد و جذب وشكوي وتبرم وتأسف ، استقر رأيه عند عشرة جنيهات مع لازمة تؤكد " عشان أنت ضيف عندنا في مصر.. معليشي يا بيه ..!!"

علمت أن المعرض يعقد منذ عام 1969 ، وأن المعرض الحالي مقام على مساحه 180000 متر مربع يحتوي على يضم "15" جناح عرض يشمل عددا" هائلا" من دور النشر يتعدى "516" ناشرا منهم"58" ناشرا " عربيا" و"25" ناشرا أجنبيا .... و"432" ناشرا" مصريا" كل ذلك ضمن"سرايات البيع" التى تعتبر السوق الفعلى للمعرض حتى يتمكن زوار المعرض من الاطلاع على احدث اصدارات دور النشر وشراء احتياجاتهم من الكتب من عيون المعرفة الإنسانية ...
تزامنت الدورة الثامنة والثلاثين للمعرض في سنة 2005 مع دورة كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم التي بدأت يوم الجمعة الماضي في القاهرة وهو ما شكل تبرما وضيقا كبيرين لدى الناشرين في المعرض خوفا من تراجع منحنياتهم التسويقية عن ذي قبل ، لأن متابعة وحضور الكأس الإفريقية قد تجذب الكثيرين إلى المدرجات وليس إلى " السرايات" .
كما علمت من المطويات التي وزعت علي الزائرين تزامن المعرض في سنة 2005 مع عدد من المناسبات التاريخية والثقافية والسياسية في تاريخ مصر والعالم العربي، مثل مرور 700 عام على رحلة الرحالة المغربي الشهير أحمد بن بطوطة إلى دول المشرق التي أوصلته حتى بلاد الهند، و300 سنة على ترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية التي سبقت الطبعة الإنجليزية بخمسين عاما، ومرور 250 عامًا على مولد المؤرخ المصري"عبد الرحمن الجبرتي"الذي أرخ في كتابه الأشهر "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" لفترة حكم المماليك والحملة الفرنسية على مصر عام 1798 وبداية حكم محمد علي مصر عام 1805، ومرور 200 سنة على تولي محمد علي باشا الحكم في مصر باعتباره مؤسس الدولة المصرية الحديثة

يا داخل مصر هناك ألف من مثلك


بالرغم من أن الهدف من زيارة المعرض هو الحصول على بعض العناوين الدقيقة عن مواضيع حديثة و محددة تحتاجها أطروحتي للدكتوراه في العلوم الاقتصادية ، غير أنني وجدتني منساقا تلقائيا إلى الأنشطة الفكرية والثقافية المقامة على هامش المعرض ، وحيث إن هناك إعلانات تطلب الحضور والمشاركة والاستماع لكتاب ومفكرين مصريين كبار وإجراء حوارات مفتوحة معهم، من بينهم الكاتب الصحفي كامل زهيري الحاصل علي جائزة مبارك للعلوم الاجتماعية، والفنان محمد حامد عويس الحاصل علي جائزة مبارك للفنون، والناقد د. عبدالمنعم تليمة الحاصل علي جائزة الدولة التقديرية في الأدب، والروائي خيري شلبي الفائز بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، والموسيقار عمار الشريعي الحاصل علي جائزة التفوق في الفنون، والروائي إبراهيم أصلان الحاصل علي جائزة كفافيس والروائي محمد المخزنجي الفائز بجائزة مؤسسة ساويرس للإبداع القصصي وغيرهم.. فإنني كنت في كل فرصة أعود فيها إلي مثل هذه الصالونات التي تعج بألوان الفكر السياسي والثقافي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار .
واستمتعت أحيانا بأجواء المناقشات والأفكار الثرية المطروحة في موائد مستديرة موسعة توزعت على محورين رئيسيين الأول : « التنوع الثقافي في ظل العولمة» وذلك بمناسبة إصدار وثيقة اليونسكو لدعم التنوع الثقافي، و الثاني " ثورة المعلومات وأثرها في ثقافة الشباب".. بالإضافة إلى استضافة شخصيتين عالميتين تشاركان كضيفي شرف في أنشطة المعرض الفكرية والثقافية ، وهما الكاتب الفرنسي "روبير سوليه" صاحب الكتاب الشهير "مصر ولعا فرنسياً" و"نادين غورديمير" الكاتبة الإفريقية الحاصلة على جائزة نوبل في الآدب..

تذكرت إثر ذلك النكتة ، أو بالأحرى الأسطورة الشعبية ، التي تتردد عندنا في موريتانيا ، أنه " يا داخل مصر هناك ألف من مثلك"!! بمعني أنك إذا كنت من أهل العلم الشرعي والدين الإسلامي الحنيف فلن تعدم الأزهر الشريف وعلماءه و المزارات الدينية ونساكها ، وإن كنت من أهل الفكر والثقافة فهناك في مصر فطاحلة وجهابذة لا يشق لهم غبار في هذا المجال ، وإن كنت من أهل اللف والدوران والإجرام والاحتيال والنصب فهنا في مصر أهل " الفهلوة " و" البلطجة " و" الأونطة " ، و " ناس تخاف وما تختيش ! " ، وإن كنت من أهل المجون واللهو والغرام والطرب الأصيل وغير الأصيل فإن في شارع الهرم و " مداخله" ما يروق لذوقك وينقلك إلى العالم الذي تحلم به ، عالم يجعلك تعرف حق المعرفة شعار " روتانا سينما" : مش حتقدر تغمض عينيك !!
إن الحرية الفكرية والثقافية التي يلاحظها متابعو تلك النشاطات لا يمكن أن تحجب حقيقة مصادرة ، كما أفادني بعض الناشرين ، بعض المؤلفات الأدبية والفلسفية، حيث تمت مصادرة حوالي 20 مؤلفاً وهي "11دقيقة " للبرازيلي "باولو كوبلو" و" الوعول" و" الومض" و"حكاية النورس المهاجر " للسوري حيدر حيدر و" ليلة الغلطة"و"الحب والحب الآخر " و" أعناب مركب العذاب" للمغربي طاهر بن جلون ، وأجزاء من رواية "مدن الملح" و" حين تركنا الجسر" و"بادية الظلمات" و" أرض السواد"للروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف ، و" أحلام النساء" للمغربية فاطمة المرنيس ، و " كبرياء الطريق في مأزق" للسعودي عبد الله القصيمي ، و"الحياة الجديدة" لأورهان بافوق ،و مريم الحكايا" للروائية اللبنانية علوية صبح ، و"مسك الغزال" للروائية اللبنانية حنان الشيخ و"خفة الكائن التي لا تحتمل" للروائي التشيكي ميلان كونديرا ، ورواية"حكاية مجنون" للروائي المصري المقيم في ألمانيا يحيى إبراهيم ، وكذلك ديوان "11 كوكبا" للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وديوان "أول حب - أول جسد" للشاعر السوري علي أحمد سعيد المعروف بأدونيس.
وربما يعكس ذلك مضمون المثل السابق للداخل إلى مصر في تناقضات أحوالها ..سبحان الله!


مشاركة بدون ترتيب مسبق في مظاهرات لحركة كفاية

فوجئت في يوم الجمعة 4/2/ 2005 وأنا بصدد الدخول إلى المعرض ، اصطفاف عشرات العربات المصفحة وتعزيز لقوات أمن حاشدة بلغت ، فيما كتبت الصحف في حينها ، حوالي 50 ألف جندي على شكل حواجز أمنية، لتطويق مظاهرتان اندلعتا بأرض المعرض، نظمت أولاهما "الحملة الشعبية من أجل التغيير" .أما المظاهرة الأخرى فقد نظمها حزب العمل (المجمَّد)، وتقدمها مجدي أحمد حسين، أمين عام الحزب، ونددت بدعوة مبارك رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لزيارة القاهرة. .وانتشر جنود الأمن المركزي لحصار المشاركين في المظاهرتين الذين وجدنا أنفسنا في خضمهما ، وكأننا من منظميهم أو المشرفين عليهما ، وذلك بالرغم من اختراق قوات الأمن المدنية للمظاهرتين ومنعها بلباقة أحيانا وبتهديد وإبراز بطاقات الأمن أحيانا ، وهو ما خلق ربكة غير متوقعة ساهمت في استحالة الحركة بين أجنحة المعرض المختلفة ، ما دفع الكثير من رواده إلى مغادرته. وعلقت الصحف المصرية بسخرية لاذعة أن المعرض استحال إلي "معرض للأمن المركزي" !! ..
وعدت أدراجي إلى حي المهندسين - شارع السودان ، حيث أقيم بعد أن تركت الفندق بعد ثلاثة أيام من الإقامة فيه ، من أجل الاستعداد للذهاب للصلاة في الجامع الأزهر الشريف ، الذي يسوره المشهد نفسه ، كما تركته في أرض معرض القاهرة للكتاب ، ويبدو أن نشطاء حركة كفاية جاءوا إلى المسجد يرتبون لمظاهرة بعد انقضاء الصلاة ترفع شعارات تتنوع بتنوع الهموم المحلية والقومية ، من " لا للتوريث" ..لا " للتمديد" ..إلى .. المقاومة في فلسطين السليبة والعراق المحتل الجريح !!
حين اقتربت من مدخل الجامع الأزهر اعترضني أحد رجال الأمن ، وحين عرف أنني لست مصريا ، رحب قائلا " الأولاد بيعملوا مظاهرة .. وأنت مالك؟" .. الأفضل أن تصلي في جامع سيدنا الحسين المجاور للأزهر الشريف ... فوافقت على الفور .. إن الصلاة في ذلك الجامع من جوامع " آل البيت" تحتاج إلى تنظيم معين ،بحيث يجب أن تدفع رسوما معينة لبواب الجامع مقابل رقم معين يحفظ لك فيه كتبك وأشياءك إلى ما بعد الصلاة .. وراعني حضور عدد من السياح الأجانب الغربيين لتصوير المسجد و رصد الحركة الدائبة وبيع المقتنيات الشعبية والعطور الزكية التقليدية .. وتذكرت من خطبة إمام جامع سيدنا الحسين أحوال الفاطميين الذين أدخلوا تقليد الدعاء لآل البيت كرد على الدعوة لبني أمية التي ألزموا بها الأئمة بعد سيطرتهم على الخلافة الاسلامية .

يتواصل
.

ملفات الزمن الهارب (1) : موريتانيا ..دولة ؟؟ أم ليست دولة !!

ملفات الزمن الهارب : موريتانيا دولة ... ليست دولة !!
لقد تواردت ذكريات مريرة   إلى الذاكرة ، وأنا ألقي نظرة الهبوط على ليل انواكشوط قليل الأنوار في إحدى ليالي شعر أغسطس من سنة 2004 ، حيث حطت بنا طائرة الخطوط  الجوية  مبشرة بالوصول إلى بلاد المنكب البرزخي ، وفي مطار انواكشوط الدولي كان العبث والفوضوية هما عنوان القاعة الوحيدة الضيقة لاستقبال القادمين ، وكم حزّ في نفسي أن ضيوفا " أوروبيين" صحبوني في نفس الرحلة بدأت علامات الدهشة تعلو وجوههم ، وبدأوا يكتشفون بسرعة حقيقة الوضع المثير للشفقة أكثر من الفضول بعدما تزاحم عليهم – ببداوة لا غبار عليها- حمالو الحقائب بصورة مقززة ، وهم يستنجدون – بعطف- لعلهم يحصلون على مقابل مادي من تلك " الخدمات الحقائبية". بدأت استرجع شيئا فشيئا الصورة التي تركت فيها موريتانيا منذ أزيد من نصف عقد من الزمان للدراسة في الخارج.
وكم هالني حجم المفاجأة حين اصطدمت بحقيقة الواقع الكئيب الذي يلف صورة البلد منذ سفري حتى أوبتي ، باستثناء " تعبيد" بعض الطرق الفرعية هنا وهناك ، مع تنامي للضواحي الخلفية والمجتمع الآخر للعاصمة في الكبات والكزرات ( مدن الصفيح) التي تجمّل ( أو تشوه) نواكشوط ، تلك الهضاب الرملية على شاطئ الأطلسي التي كانت قاعدة عسكرية فرنسية منذ نصف قرن تقريبا ، وتحولت في لحظة " حلم" إلى مشروع عاصمة مركزية في مجتمع تباعد عهده بالسلطة المركزية الجامعة منذ رباط عبد الله بن ياسين وصحبه.كان من مشروعات إعادة اكتشافي لنواكشوط بعد طول فراق أن أزور جامعة انواكشوط ( تلك الجامعة اليتيمة التي لم تكمل النصاب الأكاديمي بافتقارها حتى اليوم إلى كليات الطب والهندسة والزراعة ) كنت أقصد من زيارتي أن أتحسس لعل العريضة المطالبية ( من 33 مطلبا) التي دفعنا من أعمارنا التعليمية سنة بيضاء في سبيل تحقيقها سنة 1996-1997 ، وابتلي زملاؤنا " نشطاء الإضراب Les grevistes بالتوقيف والاعتقال التعسفي والإقامات الجبرية داخل وطنهم ، وكتب على " أهل الإضراب" ، كما كانوا يسمون حينها ، أن ينجحوا في الدور الثاني دورة اكتوبر 1997 لأول مرة – للكثيرين منهم ، ومنهم كاتب السطور- في حيواتهم الدراسية.
توقعت ، وأنا استحضر كل ذلك ، أن تكون تلك الرسائل الصادرة من " الرأي العام الطلابي" ، كما كنا نوقع بيانات الإضراب يومها ، قد لاقت صدًى لها واستجيب للعريضة الطلابية لتتحسن الحالة العلمية والأكاديمية لأول جامعة موريتانية نظامية يتيمة  في العصر الحديث .. ولكن هيهات!!
حيث لا تزال الفصول الجامعية نفسها وكراسيها الشاحبة المهترئة والمناهج الدراسية التي " قزمت" تحت طائلة مواكبة سوق العمل ، وأكثر من ذلك لا تزال العقلية السائدة نفسها غير المؤمنة بسنة التطور هي التي تملك أمر الجامعة الفتية منذ أزيد من عقدين من الزمن بعدما أصبت بإحباط من زيارتي في يومي الأول للجامعة عدلت عن فكرة البقاء الطويل في العاصمة ، استغلالا للعطلة الصيفية ، فعزمت على الرحيل إلى النجع وبادية الحوض الشرقي ذات المناخ الخريفي الذي قد يعوضني لهب العاصمة ومناخها الصعب في تلك الفترة ، التي لا يملك فيها أهل المدينة إلا أن يهربوا ليلا إلى الحواضر القريبة ، أو بوادي انواكشوط كما تسمى ، تعويضا عن البادية الحقيقية في أعماق موريتانيا.

عن الرحلة المالية !
كانت انواكشوط في تلك الأيام من أغسطس 2004 تلتهب تحت وقع " حرب المناشير" بين القبائل والجهات على خلفية تداعيات هاجس الانقلابات الحقيقية أو المتوهمة ، بعد فشل المحاولة الانقلابية الجريئة لفرسان التغيير في 8 و 9 يونيو 2003 ، وما تلاها من تفاعلات بعد ذلك حيث أعلن عن التنظيم العسكري للفرسان في الخارج و أعلن نيته الإطاحة بنظام ولد الطايع بالقوة المسلحة ، و قد تصادف أن التقيت في مقهى انترنت في تفرغ زينه ، بعد طول فراق امتد سنين ، بزميل قديم هو الكاتب والشاعر الموريتاني أحمد ولد أبو المعالي – المقيم بالإمارات العربية في ذلك الوقت - حيث بادرني بعد السؤال و الاطمئنان بالسؤال عن أماكن توزيع تلك المناشير ، لرغبته الكبيرة بالحصول عليها لأنه بصدد إعداد مقالة تحليلية عن الموضوع ، فأشرت عليه أن يسير إلى ساحة البنك الموريتاني للتجارة الدولية بصحبة 100 أوقية ليحصل على نسخة من المناشير أو المناشير المضادة!!
عقدت العزم أن أخرج هذا الجو المشحون سياسيا ومناخيا إلى حيث الأهل والأحبة على بعد أزيد من ألف كيلومتر على الحدود الموريتانية المالية المشتركة ، وسابقنا بسيارتنا رباعية الدفع الزمن حتى لا يفلت منا الخريف وأجواؤه الخضراء ونسائمه العليلة ، بالرغم من " حمى الخريف" كما كانت تسمى تاريخيا ، أو " حمى الناموس : الملاريا " كما أصبحت تعرف حديثا!
ولابد من الإشارة إلى أنه قبل الأوبة إلى أرض الوطن كنا نتابع النشرات الإخبارية للتلفزيون الموريتاني ( الذي يجاملنا إخوتنا العرب ويسمونه الفضائية الموريتانية من باب التأدب ، ربما !) الذي كان يشنّف مسامعنا – ونحن في الغربة- عن الانجازات الحضارية ، التي يخيل للمرء وهو يتابعها أن بلادنا ولله الحمد انضمت للعالم المتقدم .
كانت تعليقات وكالة الأنباء الموريتانية ومعدّي تحاليل النشرات الإخبارية التلفزيونية ، ذات البناء اللفظي المنمق ، تتراءى في ذاكرتي وتتزاحم طرادا وأنا في المقصورة الأمامية من السيارة " تويوتا – جي اكس" ، حيث يلح سائقها" اعل .." الذي أبدى اهتماما زائدا براحتنا حين علم بصداقتي للكاتب الصحفي المتألق محمد فال ولد سيدي ميله ، وأفقدُ التركيز بين الفينة والأخرى جرّاء قفزات السيارة من تأثيرالحفر العميقة و الرمال الزاحفة على جانبي طريق الأمل!
وبعد سفر ليل طويل ومعاناة متتالية من وعثاء الطريق والبوابات الوهمية التي كانت تعرقل سيرنا في كل مرة بحثا عن " فرسان التغيير"! وصلنا إلى مدينة كيفة في هزيع الليل الأخير ، كان ذلك إيذانا باكتمال الجزء المصان من الطريق ..حيث بدأت سيارتنا تخرج من حفرة لتقع في أخرى أكثر عمقا واتساعا واستمر الحال إلى أن وصلنا إلى قرية أم العظام 30 كلم شرق اعوينات ازبل ، لتنتهي صلتنا بالطريق المعبد ، وندخل إلى التاريخ والطريق الترابية العادية ، التي كانت كذلك منذ قرون من الزمن ... وبالرغم من ذلك ، فإنها كانت أرحم بكثير من حفر طريق الأمل ، نظرا للوحة الخريفية التي جعلت الأرض تكتسي كسوتها السنوية التي تأتيها رحمة من السماء ، بعد أن عجز أهل الأرض عن فعل ذلك بالسحب الاصطناعية كما هو حال جيرتنا الجنوبية والشمالية .
وصلنا في صبيحة يوم الأربعاء في حدود الساعة 12 إلى مدينة " جكنى" ، وحين بدأت معالم المدينة في الأفق تبدت دورها العتيقة مذكرة بأزمنة القرون الوسطى ، رقعة شطرنج متلاصقة وصغيرة ، هكذا بدت مدينة الطفولة ، وعهدي بها تقادم منذ ثماني سنين تقريبا .. وأول المعالم التي ظهرت عند ضواحيها هو مبني مفوضية الأمن الغذائي ( العنقر : تسمية محلية مأخوذة من الفرنسية!!) ، وما لفت انتباهي أنه أزيح خارج المدينة ، حيث كنا صغارا ننعته بالبعد عن قلب المدينة ، غير أن أخي الجالس يميني أكّد لي أنه لم يتزحزح قيد أنملة ، وأنه هو نفسه الذي تقادم به العهد!
ودخلت بنا السيارة منزل الأسرة ( أسرة العلامة الفقيه المقدّم و المصلح و المفتي الراحل إدوم ولد نافع  رحمه الله ، حيث توفي سنة بعد ذلك في هر رمضان المبارك سنة 2005 م ) جنوب المدرسة رقم واحد سابقا ( حاليا مبنى ثانوية المقاطعة ) .. واستمتعنا بأيام جميلة مع الأهل والأحبة ، وكانت المدينة تعيش حركة بشرية غير عادية ، نظرا للقاء التجاري الأسبوعي المنتظم "يوم السوق " أو يوم الأربعاء ، حيث تمتلئ المدينة وأسواقها بالتجار القادمين من المقاطعات المجاورة ومن مدن تقع على الطرف المالي من الحدود المشتركة ، غير أنني لاحظت أن مكان السوق الذي كانت تسوره من ناحية الجنوب ترعة ماء ضخمة من عادتها أن تتصيد سنويا احد " الجكناويين" غرقا في مياهها ، تكاد تختفي بعد زحف الدكاكين التجارية عليها ، بعد أن ولىّ الزمن الذي كانت تغرق فيه السوق أياما من المياه والوحل ، وهو ما كان يشكل خسارة كبرى للتجار والمتعاملين في كل خريف .
وبعد أيام شاءت الظروف أن ازور - رفقة الوالد العلامة رحمه الله تعالى -  دولة مالي المجاورة ، وهي دولة الأخوال ، ولنا معها روابط تاريخية و اجتماعية و إنسسانية عميقة ، وعلائق دينية لم تزدها الأيام الا قوة ومتانة  لله الحمد، وكان ذلك بالنسبة لي فرصة نادرة أجدد فيها إحداثيات الجغرافيا التي خيمت عليها عنكبوت زمن العولمة منذ زيارتي الأخيرة إليها في منتصف التسعينيات  (  عيد الفطر السعيد لسنة 1996)، ولم أنتبه للمنطقة الحدودية ، التي لا توجد عليها معالم توبوغرافية بارزة على الأرض ،  إلا حين غدونا في عمق الأراضي المالية ، وهذا خلافا طبعا للحدود  البينية لآخرين ، و تزينها البوابات والمتاريس ورجال الأمن الأشداء على الإخوة الرحماء على غيرهم !!!

... إن غياب معالم أو رموز للحدود الدولية من أي نوع على حدود موريتانيا ومالي ذكّرتني بما قاله أمامي مؤسس الدولة الموريتانية الحديثة الأستاذ المرحوم المختار ولد داداه حين التقيته قبل رحيله بسنوات في طرابلس ( على هامش تأسيس الاتحاد الافريقي على أنقاض منظمة الوحدة الافريقية في 9/9/2009 )، وبعد حوار ودّي شيق و مؤثر،  سألني عن أحوال الناس هناك في الحوض ، بعد أن تعرّف عليّ اجتماعيا ،  كما تساءل عن أخبار الحيوان والماشية وانتجاعها عبر الحدود  كل ما ادلهمت خطوب الصيف سنويا في تلك المنطقة الحدودية ، فقلت له إن الأحوال بخير إجمالا، فعقّب علي قائلا ومذكرا بما قاله له الرئيس المالي الأسبق موديبو كيتا أنه لا وجود للحدود ، بالمعني السياسي للكلمة ، وأن الحاصل هو أن الفرنسيين عبثوا بأراضي آخرين لا يرون فيها أكثر من مصدر للمواد الأولية والنفوذ ، ولا يهمهم لا حقائق التاريخ ولا معطيات الجغرافيا و الاجتماع .. غير أن ذلك لم يحل دون وجود مشكلات حدودية بين الجارين الشقيقين منذ استقلالهما عن المستعمر الفرنسي كما أخبرنا الرئيس المؤسس في ذلك الوقت.
واصلنا الطريق إلى مدينة " انيورو" Nioro du sahel أو( نور الساحل ) وهي من  مقاطعات ولاية خاي المالية  في ذلك الوقت ( الولاية الأولى إداريا في جمهورية مالي) ، وهي موطن تاريخي تأسس منذ ثلاثة قرون على أدنى تقدير ، وكان سكانها ينحدرون  من العرب والقبائل الزنجية الإفريقية الأخرى ، وكان تجار الماشية العرب يسمونها بـ :" قبْ " ، وحين يختلفون حول تسعير مواشيهم في البيع يرددون أن :" قَبْ الْ قِدَّامْ " ( وحديثا : انيور القدام ، أي أن مدينة قب التي هي أمامنا  ستكون هي معيار معرفة التسعير الحقيقي !! ) 
و في ذلك دلالة بارزة على الأهمية التجارية للمدينة عبر القرون.
 وزادت الرمزية التاريخية للمدينة بعد ظهور نجم الشريف التيشيتي أحمده حماه الله بن محمدو بن سيدنا عمر شيخ وخليفة الطريقة التيجانية الحموية في بداية القرن العشرين ، وانكباب الناس عليه أفواجا للسلام والزيارة والبيعة ، فلقب الناس المدينة بالنور فحرفها الأفارقة والفرنسيون " انيورو" .. والله أعلم !
التقيت في هذه الرحلة المالية الكثير من الشباب الموريتانيين في عمر الزهور عاقدين العزم على التوبة من الثواء في أرض الوطن نأيا عن أذى شظف العيش وقساوته ، وهو مشهد يتكرر كل يوم ، وحين استحالت القصة إلى ظاهرة من وجهة نظري ، تعمدت أن استفسر عن الأمر ، فكانت نسبة 90% من الإجابات هي أن الظروف أقوى من الإنسان ، ويتساءلون في حسرة .. ما فائدة التعليم والدراسة الطويلة مادام المستقبل غامضا ، ولا توجد ضمانات في الأفق ، وظروف الأسر والعوائل تقلصت إلى درجة مهينة على القدرة على الإنفاق على الحياة لانعدام ظروف الكرامة الإنسانية في حدودها الدنيا .. فلهذا – من وجهة نظرهم – لا بد أن نكون منصفين مع ذواتنا ونبحث عن طريق الخلاص لأنفسنا وعوائلنا..
ولكن السؤال هو : أين انتم ذاهبون ؟ والجواب الجماعي : لا ندرى.... إلى حيث توصلنا الطريق ...!
هل تقصدون مالي فقط ؟؟ الجواب : نحن ذاهبون إلى مالي وساحل العاج أو بوركينا فاصو أو التوغو أو انغولا ..لايهم ،بالرغم من علمنا المسبق بمشكلات تلك الدول من حروب وقلاقل اجتماعية ومناخات استوائية قد تضرنا ونحن الصادرون من مناح صحراوي جاف و قاحل! .
ذكرتني حالة هؤلاء الفتية ، والشيء بالشيء يذكر ، بحال " أهل قندهار" ، إنها دار ضيافة توجد قرب مباني بعض الشركات الأجنبية العاملة في مجال البترول في منطقة جنزور في العاصمة الليبية طرابلس ، وقد أسسها مجموعة من الشباب من طالبي الشغل لدي الشركات النفطية ، ويرتاد " قندهار" عشرات الموريتانيين شيبا وشبابا من مختلف الجهات و المجموعات والقبائل الذين رمت بهم صروف الدهر إلى الانتشارفي الأرض بحثا عن رزق الله ، ألم يقل الشاعر العربي :
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ***** وفيها لمن خاف القلا متحول
وقد تأسست قندهار في خضم الإعداد الأمريكي للحرب على طالبان والقاعدة بعيد احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث سقطت مدينة " قندهار" الأفغانية كآخر القلاع الحصينة لدولة إمارة أفغانستان الإسلامية ، فجعل منها هؤلاء رمزا للصمود قبل إسدال الستار على حكم طالبان والقاعدة ، فكأن هؤلاء الموريتانيين يشيرون إلى صمودهم ، كصمود الأفغان ، حتى نيل هدفهم وهو الحصول على العمل في تلك الشركات وتوديع حياة الشظف وألم الغربة عن الأهل والأحبة ، أو الهجرة إلى قندهار أخرى ، في حرص على استمرارية المعركة من أجل لقمة العيش بعدما عزّ نيل ذلك في الديار وبين الأهل والأحبة .
ولم أكد أتعرف على مجموعة من الشباب " مشاريع هجرة " حتى يختفون في نضالهم في أتون معركتهم المقدسة ، لأجد نفسي أمام آخرين لهم نفس الغاية والهدف والوسيلة .. فعرفت أن وطنا طاردا لفلذات أكباده وراء حدوده يعاني ما يعاني من أزمات مستحكمة لابد لها من حل وإن طال انتظاره ..!
كتب المقال سنة 2004 م ..
يتواصل

عن التصوف " المجاهد" في غرب افريقيا .. الحموية نموذجا

حول ماهية التصوف 
يمكن النظر إلى التصوف الإسلامي – دون تأصيلات فكرية و تاريخية شتى- إنه مشرب ذوقي حده أبو القاسم الجنيد بقوله :"أن يميتك الحق عنك ويحييك به" .. وبصورة أكثر جلاء ووضوحا . نرى العلامة المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون يشير في مقدمته إلى أن علم التصوف هو حادث في الملة رغم أن " طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة ، وأصلها العكوف على العبادة ، والانقطاع إلى الله تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها .."[1] 
 ويضيف قائلا :"لما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني الهجري ، وجنح الناس إلى الدنيا ، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة .. ويحتاج المريد إلى محاسبة النفس في أعماله كلها وينظر في حقائقها ..الخ" 
[2] وهذا يدل على أن التصوف الإسلامي في جوهره الحقيقي هو إخلاص التعبد لله عز وجل ، وعدم الانجراف إلى تغليب الجوانب المادية للحياة الإنسانية على الجوانب الروحية التي لا غني عنها للإنسان السوي [3].

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : yahya